سمير العيطةصفحات سورية

كي ينتهي الاستبداد/ سمير العيطة

 

تونس مهد «الربيع العربي». تجربتها تحوي الكثير من الإيجابيّات، ليس أقلّها الانتقال السلميّ للسلطة، والدستور الذي أقرّ أخيراً ويضع الأسس لتحقيق أهداف الثورة في المساواة بالمواطنة والحريّة ودولة القانون ذات يوم. وتونس تعيش اليوم، بعد ثلاث سنوات من رحيل مستبدّها وقبل أشهر من انتخاب أوّل برلمان حرّ، مراجعة لأحداث انتفاضتها ذاتها والفترة الانتقاليّة التي تلتها.

هكذا بدأ يبرز الدور الذي لعبته بعض المؤسسات في رحيل الاستبداد، ليس الاتحاد التونسي للشغل فحسب، وإنّما أيضاً أجهزة الأمن والجيش، التي أخذ بعض مسؤوليها المبادرة والمخاطرة ممّا غيّر مجرى الأمور، وتفادي صراع دامٍ كان ممكناً بينها وبين المتظاهرين. ولعلّ ما يثير الاستغراب أنّ هؤلاء اعتقلوا في ما بعد أو نكّل بهم بالرغم ممّا تدين لهم البلاد به.

كما يبرز السؤال اليوم مع الأزمة الاقتصادية والمالية عمّا قامت به الحكومات الانتقاليّة بخصوص آليّات استمرار الاستبداد، آليّات سلطة ما فوق الدولة. إذ بيعت بأسعارٍ بخسة الشركات الأهمّ التي كانت تهيمن عليها السلطة وتأخذ من ريعها لتوزيعه، أو تمّ ترك الفساد يستشري فيها، مثل حالة بعض مؤسسات الدولة، حتّى بات البعض يصف سياسات المرحلة الانتقاليّة بـ«دمقرطة الفساد».

ليس القصد هنا هو الدفاع عن الاستبداد، أو قول انّ الحريّة هدف وهميّ، بل على العكس، الحريّة لا تأتي إلاّ إذا آزرتها مؤسّسات الدولة، ولا معنى لتعبير «إسقاط النظام» بالرغم من شعبيّته، فما بالنا «بإسقاط النظام بكلّ رموزه وأركانه» الذي أطلقته بعض فئات المعارضة في سوريا. النظام يمكن أن يستمرّ حتّى لو رحل المستبدّ، وآليّات الاستبداد يُمكن أن تبقى وتتوزّعها نخب جديدة، بما فيها تلك النخب التي كانت تقول بمناهضة الاستبداد. والرهان الحقيقيّ لأي حركة تناضل ضدّ الاستبداد هو جلب أجهزة الدولة، بما فيها الجيش والأمن، إلى جانب الشعب، لأنّ من فيها هم من أبناء الشعب، وليس العمل على هدمها لأنّها حُشِرت في مأزق تنفيذ أوامر المستبدّ القائم عليها.

ولا يُمكن للحريّة أن تتجسّد إلاّ إذا تمّت فكفكة آليّات الاستبداد، وخصوصاً المالية منها، أي سيطرة قلّة متنفّذة على قطاعات اقتصادية ريعيّة. بالتالي لا تنفع العقوبات الاقتصادية الخارجيّة في جلب الحريّة، كما لا تنفع سياسات خلق أمراء حرب ذوي مناطق نفوذ، ولا هيمنة مجموعات بعينها على المعونات الخارجيّة، إذ انّ هذا كلّه يؤسّس لريوع تقوّي واقع الاستبداد، أو تخلق استبداداً بديلاً له. كما لا يمكن للحريّة أن تأتي إذا ما انهارت الدولة ومؤسساتها.

الاستبداد يُمكن أن ينشأ من هيمنة رئيس دولة على آليّات ريعيّة كي يسخّر المؤسسات الحكوميّة لمصلحته في منظور بقائه إلى الأبد. ولا يهمّ حقّاً أنّ وصول هذا الرئيس إلى السلطة كان عبر انتخابات أو انقلاب، أو وراثة عائليّة. فالاستبداد يُمكن أن يترعرع حتّى في ظلّ تعدديّة حزبيّة وانتخابات تشريعيّة، خصوصاً حين لا تتمّ مساءلة تلك الأحزاب عن موارد تمويلها ولا ضبط مواردها بشكلٍ شفّاف.

الاستبداد لا يرحل إلاّ إذا عملت الدولة لمصلحة المواطنين قبل الحاكم وبمعزل عن أهواء الأحزاب السياسيّة، وكانت عادلة تجاه جميع هؤلاء المواطنين. هذا هو المعنى الأساسي لدولة القانون. مصلحة الاستبداد هي نشر الفساد في الدولة وإضعافها، ومصلحة الأحزاب هي تجيير أجهزة الدولة لخدمة أفكارها وسياساتها، ومصلحة المواطن هي في تحييد الدولة عن المصالح السياسية والاقتصادية والتسلّطيّة على السواء. وإلاّ فلا معنى للقول بدور ناظم للدولة.

لم تنته مآلات الربيع العربي بعد. وما زال الطريق طويلاً حتّى في تونس. فما بالنا بسوريا حيث تبقى الأولويّة هي وقف الحرب العبثيّة كي تعود السياسة للفعل وينتعش النضال ضدّ الاستبداد، استبداد السلطة ومشاريع الاستبداد البديلة.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى