مراجعات كتب

«كَافْكَا بقلم كافكا»… الكتابة كصلاة لتحرير الروح/ محمد محمد الخطابي

 

 

«إنني لستُ مُذنباً.. كيف يمكن أصلاً أن يكون أي منا مُذنباً، ونحن نعرف أننا بشر». (كافكا)

من الكتب الهامة التي نقلت إلى لغة سيرفانتيس مؤخراً عن الكاتب التشيكي فرانز كافكا (3يوليو/تموز 1883 ـ 3 يونيو/ حزيران 1924) كتاب: «من فرانز كافكا إلى فرانز كافكا» أو كافكا بقلم كافكا، من تأليف الكاتب والناقد الفرنسي مُورِيسْ بلاَنْشُو، الذي يلقي الضوء على حياة (كافكا) الذي كان يرى أن «الكتابة، حتى إن كانت جمرة متقدة بالنسبة إليه، فهي شكلٌ من أشكال الصلاة». إن عملية الكتابة عند كافكا هي إصرار على تأكيد وجوده إزاء استحالة تحقيق الحب، وهو بمعاناته اليومية المتواترة، وعذاباته الداخلية وبعزائه ومواساته لنفسه، يحاول تفجير ما كان يعتمل في داخله من صراعات وتحويلها إلى صور غرائبية، وأخيلة مُجنحة خارج ذاته عن طريق عملية الخلْق والإبداع. فصراحته المفرطة تحيل أعماله الإبداعية إلى شبه اعتراف صريح يلامس حدودَ اللامعقول. حيث يصرح لنا في أعماله بأنه «لا يشعر بحقيقة نفسه إلا عندما كان يُصاب بحزن عميق لا يطاق»، وبالتالي يشعر بالجنوح نحو الارتماء في عوالم الحمق، والضياع بين دهاليز الجنون، ومتاهات الصمت، والقلق، والعبث، واللامبالاة، وأخيراً المعاناة التي طبعت أو طغت على أعماله، وهنا تكمن فكرة تجسيده للفشل والإحباط اللذين كانا يعتملان في أعماقه، حيث تعتبر كل هذه الملاذات بالنسبة له فراراً، أو هروباً، أو انعتاقاً، أو تحرراً من قيود الزمن وأصفاده، وثقله وجَبروته، ونأياً عن شعوره بالذنب الذي كان يؤرقه، إنه كان يقول بدون وجل أو خجل: «إنني لستُ مُذنباً.. كيف يمكن أصلاً أن يكون أي منا مُذنباً، ونحن نعرف أننا بشر».

متاهات الشك والقلق

لا ينكر القارئ أن نوعاً من الانقباض والتشنج يعتري ضميرَه وهو يبدأ رحلة الشك، والريبة، والحيرة والغموض مع كافكا. فيُشاركه مَشاغلَه، ويُشاطره مَشاكلَه، ويُقاسمه مُعاناته على امتداد حياته القصيرة، باعتباره كاتباً يسجل كل ما يتراءى له، وما يعتمل في داخله من خيفة وتوجس، وهوَس الإنقاذ الذي يعتبره في حد ذاته إدانة صارخة مُسبقة للوجود. وهي فكرة قديمة تستمد أصولَها من بعض التعاليم والأقانيم والترانيم اليهودية القديمة عند اليهود، التي عفا عنها الدهر، ولا غرو، ولا عجب فهو يهودي الأصل كذلك. بلانشو في كتابه ينطلق مغامراً في محاولة كشف الجوانب الغامضة والمبهمة في حياة كافكا وأدبه، وهو يحاول معاودة النظر في مهمة الكتابة، وأبعادها ومراميها ومقاصدها، كما يحاول فك لغزها ومغزاها، لنصل في آخر المطاف إلى فهم الهوة السحيقة التي يتردى فيها الكاتب، ويحاول أن يجر معه فيها أو إليها قراءه. كافكا الذي يرى «أن الكتابة ينبغي أن تكون كالفأس الحادة التي تشق البحرَ المتجمد في داخلنا»، و»إننا نحتاج إلى تلك الكتب التي تنزل علينا كالصاعقة التي تؤلمنا، كموت من نحبه أكثرَ مما نحب أنفسَنا، والتي تجعلنا نشعر وكأننا قد طُردنا إلى الغابات بعيداً عن الناس».

براغ .. عاصمة البُوهيميين

لم يكن كافكا يكتب سوى باللغة الألمانية وهي اللغة التي كان يستعملها يهود براغ المعاصرين له، ، يشير جوزيف سيرماك إلى أن كافكا كان محظوراً أيام تشيكوسلوفاكيا الاشتراكية لأنه كان في عرفهم كاتباً رجعياً، وسيرماك نفسه كان مضطرا لنشر أولى أعماله حول كافكا في ألمانيا باسم مستعار، ولم يتمكن من ترجمة أعمال كافكا إلى التشيكية إلا عندما هبت نسائم الديمقراطية على هذا البلد، مثل «المفقود»، و»المحاكمة» و»يوميات». وتؤكد ماركيتا ماليسوفا مديرة مؤسسة تحمل اسمه: «أن كافكا أصبح بعد سقوط الشيوعية أحدَ المعالم المشهورة في الحياة الثقافية والعمرانية والسياحية في براغ، إلا أن أعماله معروفة خارج بلاده أكثر منها في الداخل، ففي براغ أصبحنا نجد اليوم العديد من التماثيل، والمجسمات، واللوحات الرخامية وُضعت أو نُصبت على شرفه»، ويذكرنا سيرماك: «أن براغ كانت هي المدينة التي تلقى فيها كافكا تعليمه الأول، والتي جال وصال فيها إبان شبابه، حيث كانت تعتبر عاصمة البوهيميين وقتها، وفيها ذاق مرارة العيش، وبؤس الحياة، حتى أصبح الأمر لا يطاق بالنسبة له إذ كان يعمل في مكتب التأمين للحوادث الصناعية، كانت براغ كذلك الوسط الذي أوحى له بأعماله الأدبية وإبداعاته، والمكان الذي عرف فيه الحب الأول وهيامه المبكر ببعض فتيات هذه المدينة، وجميع علاقاته بحسناوات براغ في تلك الفترة، لم تنته بالزواج».

لعنة كافكا

ويذكرنا سيرماك: «بأن كل ما وصلنا عن كافكا يعود الفضل فيه لصديقه الكاتب ماكس برود، الذي عُني بتراثه عناية فائقة حتى وفاته في فلسطين عام 1968، حيث كان قد هاجر إليها عام 1939 بعد إحتلال النازيين تشيكوسلوفاكيا في ذلك الوقت. وتظل السيرة الذاتية لسيرماك هي أحدثها جميعاً، وكانت أرملة الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس ماريا كوداما، قد كتبت مقدمة لكتابه السابق «الصراع من أجل الكتابة» حيث كالت انتقاداً لاذعاً «لكافكا الآخر» الذي كتب عنه أحد معارفه وهو غوستاف جانوش الذي دوّن العديد من المحاورات، والمحادثات مع كافكا ونشرها عام 1951. إن معظم الدارسين لكافكا يؤكدون أن برود قد خان صاحب «المحاكمة»، وبدلاً من أن يشكروه لأنه لم يقم بحرق أوراقه ومخلفاته، حيث كان كافكا قد طلب منه أن يضرم النار في جميع أعماله .. «إحرق كل شيء دون قراءته، أريد أن ينساني الناس»، ولكن برود لم يحرق ورقة واحدة، بل قرأ كل شيء، وعمل ما في وسعه حتى لا ينسى العالم كافكا أبداً. صرف برود عشرين سنة من عمره (من 1930 إلى 1950) منكبا على دراسة واستخراج ونشر أعمال كافكا. أما غوستاف جانوش فلم يتعرف سوى على كافكا المدون في محادثاته معه، وبعد وفاة كافكا عاش حياة قاسية خلال الحرب، وسجن لمدة ثلاث سنوات، وبعد إطلاق سراحه عثر على الدفتر الذي سجل فيه كل محادثاته مع كافكا، وبعد ذلك وصل هذا الدفتر إلى يدي ماكس برود ثم قام بنشره ضمن كتاب، وهذا ما يفسر أن كل المشتغلين بأعمال كافكا كانوا عندما يصلون إلى براغ يسألون عن جانوش، ولكنهم كانوا يُصابون بخيبة أمل بالنسبة لما كان كافكا يحكيه ويقوله في محادثاته مع جانوش لأن هذا الاخير لم يكن على علم بأعمال كافكا الإبداعية الكبرى الأخرى مثل «المحاكمة»، و»القلعة»، و»رسالة إلى الوالد» و»اليوميات»، ولم يكن إعجابه به إعجاباً بقلمه أوإبداعاته، بل بمزاياه وخصاله الإنسانية لا غير.

إدانة للوجود

واجه كافكا الموت ليس كموقف درامي، بل إنه حاول استيعاب أو فهم هذا الشعور المأساوي، أو الحدث الدرامي، ولم يجد في الأدب وسيلة فقط لتحقيق ذاته، أو غايته، أو مراده، بل إنه ألفى في الكتابة نوعاً من الفرار أو الخلاص من فداحة الموقف الذي يتردى فيه. وأمام هذا الغموض كان عليه أن يجد الإجابة بواسطة هذا الغموض بعينه، وهكذا فالأدب عنده نوع من الغموض نفسه، مثلما هو الشأن لدى الألماني ريلكه، أو الفرنسي مالارميه، اللذين كانا يريان أن الأدب الغامض، أو الأدب الجيد لا يمكن فهمُه أو إدراكُه إلا بقدرٍ كبير من الذكاء، والفطنة، والتفكير، والمعاناة. ويؤكد النقاد أن كتاباته تحمل في طياتها بذرة الموت، والموت عنده هو الجانب السلبي والسحري والقسري للحياة. وهو لا يَسلب المرء حياته وحسب، بل يسلبه حريته كذلك، وهكذا تصبح الحياة غارقة في هوة الفراغ والعبث، كما أنها تغدو غير ذات مدلول، يتجلى هذا الجانب في كتابات كافكا مثل «اليوميات» ومراسلاته، وليس من السهولة استدراك عمقها، واستكناه أسرارها، ومعانقة الآلام، وهكذا كانت الكتابة عنده بمثابة «مكافأة عذبة ورائعة»، ولكنه سرعان ما يتساءل: مكافأة على ماذا؟ ويجيب: «في الليل كان واضحاً لي أنها مكافأة على خدمة الشيطان». ويضيف قائلاً: «ربما توجد كتابة أخرى أيضاً، لكنني لا أعرف سوى هذه».

المصير المحتوم

إن ثقة كافكا في «الكلمات» ثقة استثنائية، وعليه فإن الأدب عنده هو نقطة تلاقي المتناقضات، فالكاتب الأكثر بعداً عن الحياة هو الأقرب منها. وكافكا كان واثقاً من رسالة الكتابة والخلق والإبداع. واختياراته في هذا المجال كانت حافزاً قوياً للمضي في هذا السبيل، ولو على حساب سعادته، أو تعاسته، أو حياته، أو حبه، أو مرضه، ثم على موته في آخر المطاف. وهو في هذه المراحل جميعها يشعر بثقل الذنب الذي ينوء بكاهله، ويثقل ظهرَه، وهو لا يذعن أبداً لأعراف الحياة، ومتطلبات المجتمع، فالزواج عنده والتدين أو الإيمان أو الإدمان كل ذلك بالنسبة له يكمن في الكتابة التي يرى فيها التزاماً ذاتياً، بعيداً عن الدلالة الثورية للكلمة، بل هو التزام مع قدَره ومصيره. فالمسألة أو القضية تمس عنده أبعد من الوسط المحيط به، أو البيئة، أو المجتمع الذي يعيش في كنفه، بل إنها تشمل الوجود ذاته، هذا الوجود الذي وضعه في قفص الاتهام بدون ذنب ارتكبه، غير ذنب الوجود نفسه (إشارة إلى روايته الشهيرة «المحاكمة «)، ومعه عالم القيم والمبادئ، والتقاليد، والأعراف، وليس معه، أو عنده، أو له من سلاح سوى سلاح الكتابة التي تغدو في آخر المطاف عنده صمتاً صارخاً مبحوحاً، وصياحاً مكتوماً مجروحاً، حيث يعبر لنا عن ذلك بطريقة أكثر درامية فيقول: «إذا كان الكتاب الذي نقرأه لا يوقظنا بخبطة على جمجمتنا، فلماذا نقرأه إذن؟».

كتب الطبيب الذي كان يشرف على علاج كافكا في مصحة «هوفمان» في كيرلينغ بالقرب من فيينا، يقول عن آخر أيامه: «كان وجهه جامداً وصارماً، مثلما كان ذهنه نقياً صافياً. كأنه وجهُ مَلِكٍ ينحدر من محتد عريق». وبعد وفاته عثر صديقه برود على قصاصة ورقة كان قد كتبها كافكا في ساعة متأخرة من الليل، وفي لحظة يأسٍ وإحباطٍ ومعاناة من فرط مرض السل العُضال الذي ألم به، والذي كان ينهش جسمَه النحيل، كتب فيها لصديقه ماكس برود يرجوه رجاءً أخيراً بأن يحرق كل مخطوطات أعماله التي لم تكن قد نُشرت بعد، ومنها رواياته الشهيرة، إلا أنه من حسن حظ القراء لم ينفذ برود الوصية، واحتفظ بكافة أعماله التي نشرها في ما بعد.

القدس العربي»

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى