صفحات سورية

لؤي حسين، لن تكون “أبا مرعوبا” بعد اليوم

 


“كان (الطّبيب) يعالجني من إصابة متعمّدة في عمودي الفقريّ، ولم ينجح، فنصحني بالتّعايش مع ألمي كشريك دائم في حياتي.”

هذا مما كتبه لؤي حسين في “الفقد : حكايات من ذاكرة متخيّلة لسجين حقيقيّ”. (دار بترا والفرات، 2006)، وقد صدّره بالعبارة التّالية : “ليس في النّصّ أيّ خطأ مطبعيّ أو إملائيّ أو نحويّ… إنّما الخطأ في السّجن..”

عندما قرأت كتاب “الفقد” منذ بضع سنوات، شدّني هذا التفصيل المتعلّق بالظّهر وبالعمود الفقريّ للسّجين السّابق. قلت في نفسي، ها هي عبارة “قصم الظّهور” الآتية من أعماق الاستعارات اللّغويّة القديمة تتجسّد حقيقة في أقبية السّجون، وفي علاقة السّجّان بالسّجين، وهي نفسها استعارة لعلاقة المواطنين بالحكّام في أنظمة “قاصمة للظّهور” قاصفة للأعمار.

“السّجين الحقيقيّ” اعتقل “على ذمّة حزب العمل الشّيوعيّ” بين 1984 و1991. خرج من السّجن ثمّ عاد إليه يوم 22 مارس 2011 لأنّه نشر على الشّبكة بيانا للتوقيع تضامنا مع أهالي درعا. قبل البيان كتب على الفايسبوك إنذارا لإعلاميّي النّظام القائم وأبواقه، يحذّرهم من مغبّة عدم احترامهم للدّم المهدر في درعا. يحذّرهم من أن ينتصبوا مندّدين” بـ”الكمشة من المخرّبين”، كما فعل بعض إعلاميي تونس قبل 14 يناير. كتب يقول إنّ الدّم نفيس، وإن من يستهين بالدّم المراق يقترف جريمة وخيانة عظمى في حقّ الحياة وحقّ الوطن. الدّم كلونه : خطّ أحمر. ولعلّ حمرة “الخطوط الحمر” آتية من حمرة الدّم، ومن الحمرة التي نراها في أعلام بلداننا التي عادت خافقة مع قلوبنا.

بحثت عمّا كتب على الفايسبوك، فوجدت صفحته محجوبة. يسجنون الأجساد والأفكار. يحاولون بالأحرى.

خل السّجن شابّا في ربيع العمر. وخرج منه محمّلا ب”خرابات الذّاكرة” وروائح السّجن. كيف يمكن أن تكون للذّكريات رائحة، رائحة تزكم الأنوف؟

يكتب لؤي حسين عن حتميّة الكتابة بعد صدمة السّجن : “دفن إحساس السّجن وتجربته هو عكس مألوف الدّفن، فهو لا يتطلّب الطّمر بالتّراب والحجارة عميقا في الأسفل إبعادا لرائحته وإقصاء لذكراه، بل يتطلّب نبش قبور الذّاكرة ونصب الجثّة في مواجهة العين وتحت الأنف، أمام عيني وعيونكم حتّى لو زكمت أنوفنا”.

كتب لؤي حسين لكي يتخلّص من “الجثّة” ومن “احتراق الرّوح” و”الموات”، من الموت البطيء الذي يمثّله السجن، واشتغل بالكتب في “دار بترا”، يقرأ وينتقي ويدقّق وينشر، ويقاوم قوى المصادرة هنا وهناك. نشر الكثير من إصدارات رابطة العقلانيّين العرب، ونشر “كراسات الأوان” عن الرّقابة، وعن التّمييز العنصريّ، وعن الأقلّيات، وعن جرائم الشرف، وعن المثليّة الجنسيّة وغير ذلك. كلّ نشر لكتاب كان مغامرة يخوضها على تخوم المصادرة والاعتقال والمنع من السّفر.

أهدى لؤي كتاب الفقد إلى “نيادا”، وأهداه إلى “ليلى وريما اللّتان قيّض لهما أن تعيشا مع أب مرعوب من أن لا يبرح سجنه يوما ويأتي إليهما”.

كلاّ يا نيادا ويا ليلى ويا ريما، لن يكون لؤي أبا مرعوبا بعد اليوم، وسيعود إليكم، لأنّ ربيع الثّورات ابتدأ وستطوى صفحات البلدان التي تأكل أبناءها. لأن جثّة اليوم هي هذه الأنظمة التي تنتظر الدّفن.

سيعود، وستصدق مجدّدا نبوءة شاعر من تونس (باسط بن حسن) كتب في يوم من أيام ربيع 2009 :

“حلّوا البيبان..

لأرواح خفيفة، عاشقة للهبلة

تستنّى

وعيون الأحباب أعواد مرجان

في بحر الظّلمة

لمّاعة..”

وختم قصيدته العامّيّة هكذا :

“الجهل يعمي والكلام الحيّ

أنوار

كلّ الحبوسات تفنى

كلّ الحبوسات حرام..”

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى