أحمد عمرصفحات الناس

“لايْكَ” عَنْتَرَ أَقْـدِمِ/ أحمد عمر

 

 

“لايْكَ” عَنْتَرَ أَقْـدِمِ

قال الراوي:

ولما أشرق الصباح بنوره ولاح، وبزغت الشمس الزرقاء من سماء الفيسبوك، واصطدم حديث الخاص بالعام، وبدأ أهل الكوكب الأزرق يصبّحون على بعضهم، ويقولون شكرا لمرورك، وصباحو، أيقظ عنترة بن شداد هاتفه المحمول، وأيفونه المصقول. وصار يصول ويجول، ويقول: هل من مبارز، فارس لفارس، عشرة لفارس، ألف لفارس، وأرسل تحية صباحية إلى عبلة على الخاص، وهو يسأل الله أن يتزوجها. وسألها أن تسمح له بالاتصال به عبر المسنجر، فأخبرته، أنها ستذيع بعد قليل نشرة الأخبار، وفيها أنباء البلدان والأقطار، فاستغفر عنترة ربه وحوقل، وسبحل وبسمل، وترجاها ألا تعمل له البلوك، فهي كل أمله وحياته، فابتسمت وأرسلت له وجهاً ضاحكاً من رموز الفيسبوك، وهي دراهم سكان وسائل التواصل الاجتماعي، ومدائن العيش الافتراضي.

 

عبلة مذيعة في فضائية معروفة، جميلة جداً، والجميلات يغيّرن صورة غلاف البروفايل، كل يوم مرتين، من أجل الغلة، فعبلة صبية حسناء، والغواني يغرهن الثناء، وعنترة مثل كثيرين، يضرب طين اللايك على جدار صفحتها، فلا تلصق أبداً، كأن حائطها من البورسلان، وعبلة تحصّل في المنشور الواحد عشرات آلاف الإعجابات، بينما عنترة يعيش منبوذاً، يكتب الأشعار على الصفحة الخاوية، ويخاطب الحجارة ووحوش البادية، فلا يحصل سوى على لايك واحد من أخيه شيبوب، فصار ينشد ويقول، وعمر السامعين يطول:

هلْ غادرَ الشُّعراءُ منْ متردَّم

أم هلْ عرفتَ الدارَ بعدَ توهمِ.

إنه يعيش مغترباً في هذا الكوكب الأزرق، كوكب النفي والاغتراب، والذي يضيع فيه الأحباب عن الأحباب، ويحل الأغراب محل الأقران والأتراب.

لم يحفل به أحد من سكان الكوكب الأزرق، فاقترح عليه شيبوب أن يتحول إلى قصيدة النثر، مثل أدونيس، الذي يكتب الشعر لأجيال المستقبل، بعيداً عن سقط اللوى وحومل، والماغوط الذي يكتب شعر عن الإوز والفستق، وأنسي الحاج، الذي وقع في غرام سلاف فواخرجي، ومذيعة الأمطار. ولم يعرف عنترة سبب شهرة هؤلاء الكتبة الفريسيين، و قال لا بد أن وراءهم عفاريت.

لم يكن لعنترة صفحة على الفيسبوك، ولا على التويتر أو الأنستغرام، وهو يعيش مع أخيه شيبوب وأمه زبيبة في المنافي والأوعار، بعيداً عن الأوطان والديار، بعد غزوات طاحنة من عصائب الفرس والديلم، نهبوا فيها كل شيء وعاثوا في البلاد تعفيشاً وتخريباً، فحنّ إلى الأصحاب والأصدقاء، فأشار عليه شيبوب بأن يعمل صفحة على الفيسبوك، ولم يكن عنترة قد سمع به من قبل، فاشترى شيبوب له آيفوناً (وردت أعلاه بهمزة فوحّد)، واقترح عليه أن ينشئ لنفسه له بريداً الكترونياً، فقال عنترة: أنا إعرابي يا بن زبيبة، ولا أفهم سوى في الحلب والصرِّ، فأرجو منك أن تساعدني في الكرِّ والفر، واللايك والكومنتّ.

وكان شيبوب قد سبقه في النزوح إلى العصر والآوان، وله في الأسفار خبرة، وقد قالوا في الأمثال: الفعل لشيبوب والصيت لعنترة، فأعان أخاه على الحصول على صفحة، وجعل من صورته الشهيرة، غلافاً ولوحة،  وهي صورته المعلّقة في أكثر المحلات والبيوت، والتي يزهو فيها على فرسه الأبجر، المزين بالدرّ والجوهر، وقد طعن برمحه رأس تنين، وقطعه، وحمله على السنان، وهذه الصورة اقتبسها فنان مجهول من صورة مار الياس المتداولة في الكنائس. وسأل عنترة عن الشعار الذي يريده على الصفحة، فقال: ضع بيت الشعر الذي قلته في مهجة الفؤاد، عبلة بنت مالك بن قراد: فوددتُ تقبيل السيوفِ لأنها لمعت كبارق ثغركِ المتبسِّم.

وقال شيبوب لعنترة: تستطيع أن تغيره لاحقاً، وربما تختار شعارك قولاً لبريتون، أو سان جون بيرس، أو شوقي أبو شقرا،  و قال:  أقوال السيد الرئيس  أحسن شي، فهو لا ينطق إلا بالحكمة، فتفَّ عنترة على الأرض، وطلب سيكارة من غير فلتر، حتى يعبئ رأسه الخالي.

وعلمه شيبوب كيف يكتب المنشورات، والبروستات، عفواً البوستات، وكيف يرسل البوسات والرموز إلى الأصدقاء.

قال الراوي:

يا سادة كرام، صلّوا على خير الأنام.

وعلّم شيبوب أخاه كيف يبدي الإعجاب والتعليقات، وحذّره من إثارة غضب الملك زهير بن زوكر بيرغ، فهو الملك الدكتاتور في ديار الفيسبوك، الشاب الذي دانت له جماهير الشرق والغرب، إنه ابن اليهودية مارك، وهو يحجب حسابات حماس والقسام، وكل الحسابات المقاومة، ويعمل لها البلوك، لأسباب لا تخفى عليك يا بن أمي، أيها الصعلوك، يا أعز عليّ من الملوك..

قال الراوي: حدفة أي انفلونزا

فقال لها: ولكن أنا سابع سبعة، له معلقة على جدار الكعبة، أيتها الحلوة التي تشبه باربي اللعبة، هل أنت من نسل العربان، أم من سلالات الرومان.

وكان عنترة قد هام بها هياما وينتظر برنامجها  الطاولة المستطيلة، انتظار، ولم يحدث قط أن  صورها المخرج  بقدها كله ، وكان هذا ما ينغص على عنترة عيشه.

قالت: أنت مضحك جداً يا عنترة، أبوس روحك، سأرسل لك قبلة حمراء مثل الدم، إذا حصّلتَ مليوناً من الإعجابات الحقيقية العصافير.

تغيب عبلة  كثيراً عن الظهور، في كواليس التلفزيون، في ديار بني الأصفر، التي هاجرت إليها كل  الفضائيات العربية، ، فينغمس عنترة في اللايكات وقراءة التعليقات، وقد أدرك فلسفة العيش في المدائن الزرقاء، وشبّهها بسوق الخميس، أو الجمعة، أو سوق السبت، والسبت اسم يليق بسوق اللايكات، وهو بها أولى، البضاعة رخيصة جداً في الكوكب الأزرق، بل هي مجانية، من غير درهم أو دينار، وعادة ما تبيع هذه الأسواق البضائع المسروقة، أو المعفّشة، إنها تشبه سوق السنّة، والسنّة هم سوريون نهبت دورهم، وطُردوا منها شر طرده، تنفيذاً لشعار: الأسد أو نحرق البلد، وإن سكان  المدائن الزرقاء طبقات؛ أشراف، ونجوم، ورعاع وسوقة، وأكثرهم السفهاء، فظاهر العيش في الفيسبوك أن الناس متساوون كأسنان المشط، لكن الواقع  أنهم يشبهون أسنان الكلب ابن الكلب، فهم طبقات مثل طبقات الهندوس، لا طبقات ابن سعد، أولها طبقة البراهمة  تليها الفيشنا، ثم الشودار، و آخرها أهل السنّة والجماعة، فنحن في عصر الأقليات المنتفخة بالفياغرا، وعبلة من طبقة الأشراف، فهي لا ترد على الخاص، إلا من كان له حظ عظيم.

أما في سوريا، فالشعب طبقتان، طبقة المبتدأ، وهم المخابرات الطائفية، وأقاربهم البقية، وطبقة الخبر، وهم أنصار الحرية، وكلهم يعيشون في الفيسبوك بأسماء مستعارة، خشية الكبسة والغارة.

وفي مصر طبقتان هما؛ طبقة العسكر والقضاة، ومن حولهم من الأحباب، وأكلة الكباب، وطبقة الذين لا محل لهم من الإعراب، والمتهمين بالإرهاب. والبراهما لا يضعون لايكات لأحد، قد يكونون معذورين، لأنهم نجوم كبار، وتردهم ملايين التعليقات، وليس لديهم وقت لقراءة الأشعار، وأخبار عنترة والحارث بن حلزة ولبيد، الذين يعدونهم من الأعراب والعبيد.

وقال الراوي: يا سادة يا كرام، صلّوا على خير الأنام، وإخوته عيسى وموسى وإبراهام، فعليه وعليهم الصلاة وأزكى السلام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

“الفصل الأول من رواية على الهيكل”

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى