صفحات الثقافة

هل تنجح محترفات الكتابة في صنع روائيين عرب؟

 


بيروت – مايا الحاج

«كان لديّ طاولة مطبخ متواضعة من القشّ الرخيص، وضعت عليها بعض أقلام الرصاص والحبر ورزمة من الأوراق البيضاء. كانت الساعة تقترب من السابعة. وعدت نفسي ألاّ أترك الغرفة أو أنام قبل أن أكتب قصّة قصيرة. وعند الخامسة فجراً وجدت كتابي بين يديّ…».

عشر ساعات فقط أنهى فيها الكاتب الإنكليزي ايان ماكوين قصته الأولى التي خرجت عن محترف الكتابة الإبداعية البريطانية التابعة لجامعة شرق أنجليا في المملكة المتحدة. لم يكن ايان ماكوين عندها التلميذ الأول في الصف الذي أسّسه ودرّس فــيه مالكوم برادبوري، بل الوحيــد أيــضاً. كان ذلك في خريف عاــم 1970، أمّا اليوم فأصبح ماكوين واحداً من أشهر الكتــّاب البريطــانيين في العالم.

بعده، سنة بعد سنة، أصبح المتخرجون في معاهد وكليات وفي محترفات تعليم الكتابة الإبداعية يُشكلّون نخبة المجتمع البريطاني. أمّا في الولايات المتحدة فإنّ فكرة Writers Work Shop أو محترفات الكتابة تعود إلى ثلاثينات القرن الماضي، إذ بدأت في جامعة ايوا عام 1936 من خلال مادّة تنصّ على تعليم كتابة الرواية وليس قراءتها وتحليلها فقط. إلاّ أنّ هذه الأخيرة بقيت هي الطريقة الأكثر شيوعاً واعتماداً في معظم كليّات الآداب وخصوصاً في العالم العربي حيث يسود اعتقاد بأنّ الكتابة الروائية أمر يتعلّق حصرياً بالموهبة والوحي والإبداع ولا يُمكن أحداً أن يتعلّمها أو يُعلّمها. إلاّ أنّ الكثير من الكتّاب الكبار في العالم ناهضوا هذه الاعتقادات وأقاموا محترفات ناجحة لإيمانهم بضرورة إنشاء أجيال جديدة تُمسك بعصا الإبداع الأدبي وتمضي بالعمل الروائي إلى الأمام، ومن أبرزهم الكاتب الكولومبي المعروف غابرييل غارسيا مركيز الذي اعترف بأهميّة هذه المحترفات التي تُدرّس الرواية بصفتها فناً وهندسة وتقنية. ومن بين الكتّاب المعروفين الذين تخرجوا من أحد محترفات الكتابة ويندي غيرّا التي أصدرت رواية حصدت نجاحاً باهراً في كولومبيا والبلدان الناطقة بالإسبانية تحت عنوان: «كلّنا سوف نرحل».

أمّا فرنسا التي بقيت أمينة للأفكار الكلاسيكية حول عدم إمكان تعلّم الرواية، فشهدت خلال الفترة الأخيرة ظاهرة إنتاج أو ترجمة الكتب التي تُعلّم فنّ الرواية أو حتى تأسيس مُحترفات تُدرس كيفية الكتابة الروائية كعمل يفترض معرفة تقنيات وأساليب لا بدّ من إتقانها إلى جانب الموهبة لتقديم رواية كاملة على كل الصُعد.

إلاّ أنّ المحاولات في العالم العربي لا تزال خجولة في هذا الصدد، فالاعتقاد العام يصبّ في أنّ الكتابة فنّ يولد مع الإنسان بالفطرة ويتطوّر بالقراءة والمعرفة والثقافة وليس بالاكتساب العلمي والتدريس التقني. هل يُمكن الكتابة الروائية أن تُعلّم فعلاً كما تُعلّم السباحة أو العزف على البيانو أو ركوب الخيل مثلاً؟

عن هذا السؤال يجيب الكاتب اللبناني والأكاديمي جبّور الدويهي بأنّه أُختير ليكون منسقاً للمحترفات التي نظّمتها إدارة جائزة «بوكر» العربية في الإمارات لكونه أستاذاً لمادة «محترف الرواية» في الجامعة اللبنانية، فضلاً عن كونه روائياً. واعتبر أنّه في مثل هذه المحترفات يتمكّن الكاتب – المبتدئ من اكتساب مهارة الكتابة إلى جانب الموهبة التي تعجز وحدها عن بناء عمل روائي متكامل في شكله ومضمونه. فالمحترف الروائي ووفق صاحب «مطر حزيران» يمنح المُشاركين فرصة الانفتاح على نصوصهم والاستفادة من خبراتهم ومُناقشة أفكارهم والتفاعل في ما بينهم، ما يُعطي كتاباتهم بُعداً آخر. كما أنّ وجودهم داخل ورش عمل تحت إدارة روائي وأكاديمي قادر على نقل معرفته اليهم يمنحهم فرصة للإضافة إلى موهبتهم الذاتية، معرفة مهنية بالعمل الروائي. ويقول الدويهي إنّ الرهان على الموهبة فقط لا يُمكن أن ينجح في حال عدم العمل على التعلّم من كتابات الآخرين وقراءتها ومُقارنتها ومُقاربتها في ما بينها. وأشار إلى أنّ الكتابات التي تنتج عن انطوائية أدبية وعدم معرفة بالمدارس والكتابات الأخرى تكون عادةً الأكثر سذاجة وبساطة.

أمّا الكاتبة نجوى بركات التي تُقيم منذ سنتين محترفات للكتابة في لبنان بعد قبول مشروعها عام 2009 ضمن مشاريع «بيروت عاصمة عالمية للكتاب»، فهي على رغم سحب وزارة الثقافة ودور النشر والمؤسسات الخاصة أيديها من هذا المشروع الذي حقق صدىً طيباً تُصرّ على مواصلة حلمها في إقامة محترفات كتابية دورية تتبنى المواهب الجديدة التي تحتاج إلى من يأخذ بيدها لتُكمل مشوارها الأدبي بخطى ثابتة، لأنّها تعتقد أنّ الجوّ العام في عالم الرواية مُرتبك نوعاً ما، وهذا الارتباك ناتج من نقص في تجارب شباب قادر على إنشاء جيل جديد من الكتّاب في لبنان.

وأكدّت بركات أنها تؤمن بأهمية هذه المبادرة التي قامت على أكتافها والتي كلّفتها سنتين من العمل من دون أي مقابل. وأضافت: «الدورة الثانية من محترف الرواية مازال مُعلقاً لأنني لا أملك الماديات التي تخولني دعوة الكتاب الشباب من العالم العربي إلى لبنان وتأمين إقامتهم. وليس لديّ جهة تمويل مستعدّة لمساندة مثل هذا المشروع الهادف إلى تأسيس جيل من الكتاب الشباب في مجال الكتابة الروائية والسينمائية والمسرحية أيضاً في ظلّ عدم وجود حركة حقيقية في الساحة الثقافية ضمن فئة الشباب». ورأت نجوى بركات أنّ المحترف بدورته الأولى جاءت نتيجته مرضية لها وللجميع، إذ أعلنت عن إنجاز أكثر من رواية كانت أولاها رواية رشا الأطرش «صابون» التي لاقت استحساناً لدى النقاد والقرّاء على حدّ سواء. وفي هذا المقام تقول بركات: «من دون أي تبجّح أو ادعاءات، المحترف هو الذي دفع المشاركين فيه للكتابة. وأنا قلت لكلّ من شارك معي إنّ روايتكم الأولى ليست تلك التي تصدر عن المحترف بل التي تكتبونها لاحقاً وحدكم. أمّا المحترف فهو الذي يضعهم في أوّل الطريق الصحيح ويعطيهم المنهجية الأساسية التي نفتقدها في أساليبنا التعليمية».

وذكرت الكاتبة الفائزة في محترف الرواية الذي أسسته نجوى بركات رشا الأطرش أنّ المشاركة في محترف يُدرّس فنّ الكتابة لا يتنافى ومفهوم الموهبة والقدرة والإبداع. وتحدثت عن تجربتها الخاصة فقالت: «لم نكن ندرس داخل المحترف بمقدار ما كنّا نُمارس العملية الكتابية التي تتكوّن من موهبة وإحساس وقناعة بأنّ ثمة شيئاً نريد إيصاله أو قوله. فالكتابة الروائية من الممكن اكتسابها بطريقة تفاعلية من خلال «شخص» قادر بالدرجة الأولى على نقل هذه المعرفة إلى الآخر تماماً كنجوى بركات». وذكرت الأطرش التي دخلت المحترف بعد 13 سنة من العمل الصحافي أنّها استفادت من دخولها المحترف الذي فهمت من خلاله أنّ العمل الروائي أشبه ببناء يحتاج أولاً إلى الحفر ومن ثمّ إلى وضع الأساسات والعواميد وتركيز الحجارة ورفعها وصولاً إلى ترصيفها ودهنها حتى يكون في النهاية جاهزاً للسكن. والرواية هي كذلك في حاجة إلى طبقات سميكة منتظمة بعيداً من أي حشو أو زيادات، لذا يُمكن أن تُعلّم وتُدرّس تقنياتها التي من شأنها تدعيم الموهبة وتعزيزها.

إلاّ أنّ السؤال الأهم الذي يطرح نفسه هنا: «مع بداية انتشار فكرة المحترفات الأدبية، هل يُمكن هذه المحترفات فعلاً أن تنجح في تأسيس جيل جديد من الكتّاب العرب المتميّزين؟ أم أنّها ستُنتج جيلاً من كتّاب تقنيين أكثر منهم موهوبين؟».

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى