حسين جموصفحات مميزة

لا الوقائع تصمد ولا المنطق ينتصر/ حسين جمو

“الفهم” السياسي يتقاعد في سوريا؟

لا تترك الحالة السورية مجالاً لأي تحليل سياسي يومي صلب إلا ما ندر، بل قد لا يكون مبالغاً القول إننا نشهد كل يوم “نهاية التحليل السياسي”، واجترار وتكرار لـ”المقال التحليلي” في الصحف، يتبعه أيضاً ما يُعرف بـ”التحليل العسكري” المبني على قراءة الأحداث، من خلال تقدم أو تراجع طرفي الحرب التي تشهدها سوريا، فمن ترقب العالم تصويت الكونغرس الأميركي على قرار الضربة ضد النظام، والتي كانت محسومة، بداية الأمر، إلى تأجيلها ثم الالتفاف عليها بمبادرة روسية، لم يسبق أن تم التمهيد لها إعلامياً. ومن دخول الجيش الحر إلى حلب في تموز (يوليو) 2012 وتوقع دوائر استخباراتية معروفة بمصداقيتها بعدم إمكانية صمود النظام وأن نهايته اقتربت (رئيس المخابرات الألمانية)، إلى تعيين غسان هيتو رئيساً للحكومة الموقتة، التي لم تتشكّل رغم خطفها للأضواء.

حالة السيلان هذه تجعل من التحليل السياسي – الذي نقصد به تحديد وجهة الأحداث – وقراءة المشهد اليومي مهمة شبه مستحيلة، ومحرجة، لكن هذا لا يعفي قرّاء الأحداث من واجب بذل أقصى جهد في سبيل توضيح خيوط ما يجري، أو بعضاً منها. بعض القراءات لا تحتاج إلى بذل جهد، بل تكون واضحة للعيان، ويدركها أولئك الذين لا يتابعون شيئاً مما يقوله الإعلام، لكنه يكون صالحاً لفترة محددة فقط، ثم يفقد صلاحيته، لنجد أنفسنا أمام مسار جديد لا يقل وضوحاً عن الأول. لكن أياً منها لا يصل إلى نهايته.

لا تكمن صعوبة التقاط وجهة الحدث في انعدام الواقعية في أدوات التحليل، بل عدم منطقية تطور الحدث نفسه، فهي من النوع “العاجل” الذي يقطع سير تسلسل التطورات المنطقية ويخط لها مساراً آخر، يصبح هو الآخر منطقياً لفترة محددة، والأمثلة تكاد لا تحصى، لعلّ أكثرها قرباً للتحقق كان اتفاقية جنيف الأولى (تموز 2012) التي بقيت حبراً على ورق، وساد جدل واسع حينها على هوية من سيمثل المعارضة السورية وممثلي النظام، ثم اختفى الاتفاق من المشهد السياسي شهوراً، ليعود مرة أخرى اليوم كمحصلة “حتمية” لاتفاق الكيماوي. والكيماوي، الذي يقول مؤيدو الرئيس الأميركي باراك أوباما إنه نصر تحقق عن طريق التهديد باستخدام القوة، سيثبت عقمه عاجلاً أو آجلاً، ذلك أن عملية نزع السلاح، حسب خبراء في هذا المجال، ستستغرق سنوات. هذا في حال سارت الأمور بشكل منطقي، أما محاولة إنجازها خلال شهور قليلة ستعني أن مسار الأحداث سيشهد تحويلة جديدة بعد فترة، قد لا تكون على صلة بقضية الكيماوي البتّة. وهيمن تصريح لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على عناوين الصحف وشاشات القنوات الاخبارية أكثر من يوم، وتم التعبير عن ذلك الموقف بأن “روسيا تتخلى عن الأسد”. لا تمضِ أيام قليلة حتى نجد المياه الروسية تعود إلى مجاري الأسد. هذا ليس عيباً في القراءة، بل أساس المشكلة تكمن في بطء تطور الحدث بشكل لا يُعقل، رغم سرعتها الفائقة في حصد الضحايا، حتى أن نظرة إلى بدايات الثورة السورية حتى يومنا هذا لا يحتمل أكثر من بضعة قراءات صحيحة جزئياً، لكن مشكلتها تمكن أيضاً في أنه حتى القراءات الجيدة والرصينة للحدث أسرع من الحدث نفسه.

طول المدة يجعل الخطأ في الحكم سيد التوقعات والتحليلات، وأمامنا عملية تحرير مدينة الرقّة التي ضخّت روحاً جديدة في الثورة بداية الأمر، ثم ما لبثت بعد شهور أن تحولت إلى خيبة أمل، بعد تمكّن أنصار تنظيم القاعدة من التحكم بمفاصل الأمور الإدارية والعسكرية فيها. لكن في المقابل، أصبحت التحقيقات الميدانية هي السلعة الإعلامية الأكثر تماشياً مع الحدث، وهي سيدة الأنواع الإعلامية التي تتناول جوانب الثورة السورية، فيما يحتل التحليل مكانة هامشية.

ما يفوق المثال السابق في الخيبة، هو قصف النظام للغوطة بالكيماوي، واستنفار العالم على مدى 3 أسابيع، ثم وكأنّ الأمر شيئاً لم يحدث بعد اتفاق روسي أميركي، لا يوجد فيه أي ذكر لكلمة “محاسبة” مرتكب الجريمة، حتى ولو من دون الإشارة إلى الجهة المرتكبة.

العقم إذا، من جانب آخر، ليس في ضعف توقع وجهة الأحداث، بل في تخبط الاستجابة الدولية والداخلية لمتطلبات كل تطور على حدة، وإلا ماذا نسمّي مشاركة الأطفال في الاحتفال بتحرير مناطقهم، والآن هؤلاء الأطفال محرومون من الدراسة منذ سنتين أو أزيد؟

ليس من المحرج استخدام مصطلح “الشطحات” التحليلية لقراءة جوانب من وجهة الأحداث، ومن بينها ما سأزعمه على سبيل “الاختبار” أن من بين البنود السرية أو العلنية لاتفاق “جنيف2″ المرتقب – لنفترض أن الاتفاق قد أنجز – سيكون محاربة التنظيمات التابعة لـ”القاعدة” التي لا تترك بسلوكياتها – مجالاً إلا ذلك. ومن سيحارب القاعدة؟ الجيش الحر، وجيش النظام. وسيتم حل مشكلة تسليح الجيش الحر في مواجهة القاعدة عن طريق النظام الخاضع لإعادة هيكلة. هذا السيناريو رهن بموافقة بشار الأسد على التنحي، وإقالة كبار الضباط من الأمن والجيش، إضافة إلى تغول أكبر لتنظيم القاعدة، وإعلانها الحرب على من لا يدخل تحت هيمنتها، وقد كانت دعوة أيمن الظواهري إلى تحالف الكتائب الاسلامية معاً من دون “العلمانيين” (يقصد الجيش الحر) أرضية خصبة لشرط التغوّل. يبقى فقط أن يلوح في الأفق ملامح الشرط المتعلق بالنظام.

كنت أود القول إنه محال لهذه القراءة أن تتجسد واقعاً، لكن ما تعلمناه من تجربة عامين ونصف العام أنه من الأفضل عدم الجزم بأي شيء. وكل الخشية أن نكتشف مستقبلاً خطأنا في اعتقاد أن الحدث يسير ببطء شديد، بل في أن العالم يرى – أو ربما يريد – سوريا أشبه بسيارة سباق معطلة وسط طريق سريع.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى