صبر درويشصفحات الناس

لا تسأل القذائف عن هوية ضحاياها/ صبر درويش

لم يحدث للعاصمة دمشق أن انتهكت بهذا الشكل، كما لم يحدث أن جرى هذا التقسيم الفج للأماكن، بين شرقية وغربية، وللشعب بين إرهابي وغير إرهابي. أما اللغة السياسية السائدة فلا ينقصها الركاكة في عجزها عن تسمية ما يحدث هنا، على أرض السوريين. مجزرة “محتملة”، واستخدام “مزعوم” للسلاح الكيمياوي، وحرب ضروس تدور رحاها على كل جزء من روح السوريين، تضع ثقافة الديموقراطية السائدة على المحك، وتشير إلى أن فلسفة حقوق الإنسان لا تعدو كونها كذبة كبيرة، اعتادت الدول الكبرى ترويجها في الأزمات. بينما الضحية السورية، تقف عارية تبحث عن مسمى لنفسها، ينسجم وتعاطف العالم معها؛ لا إخوة اليوم للسوريين، وعبء التصنيف يثقل كاهلهم؛ من نحن في هذه الغابة الشائكة من المفردات السياسية المائعة؟ يتساءل السوريون معارضين وموالين، سلفيين ومعتدلين، اسلاميين وديموقراطيين؟ وبين هذا وذاك يُهدر الدم السوري ويسفك في وضح النهار على مرأى من العالم “المتمدن”؛ إذ لا تسأل القذائف عادة عن هوية الضحية، ولا عمرها أو جنسها، هو موت “محتمل”، قد يبدو خلاصاً “مزعوماً” لمن صمد بوجه حياة، هي أقرب إلى الجحيم، في ظل الحرب الدائرة والحصار المرافق لها.

ضربة عسكرية “محتملة”؟ فليكن، يقول من يقبع تحت الحصار منذ شهور طويلة؛ فلن تضيف جديداً سوى احتمال رحيل الأسد وعصابته الحاكمة، بينما الموت فهو حاضر في حياتنا على أي حال. بينما المترفون الواقفين على بعد آلاف الأميال من رائحة الدم والدخان السوريين، فيتداعون “ذوداً عن الوطن”، ويقفون “بحزم ضد التدخل بشؤون بلدنا الذي نحب”. بيد أننا ما زلنا مصرين على إنقاذ ما تبقى من وطن، أما ذاك الوطن الذي يتحدثون عنه، فلا يعدو كونه شعراً ترسمه مفردات اللغة الرومانسية. وطننا الواقعي كان ومازال ينتهك في كل لحظة، ويتآكل حتى لم نعد ندرك إلا ما تبقى منه، ما تبقى من حطام، مصرين على إنقاذه والعبور إلى غدٍ يخفُّ فيه النزيف، ويجد فيه السوري متسعاً للكسل وللحياة البديهية.

كان على السوريين أن يذهبوا إلى جنيف2، ويضعوا حداً لسفك الدماء، هذا هو الحلّ السياسي، كما يقول الأوصياء على المرحلة؛ بيد أننا لسنا ناضجين بعد لحقن دمائنا! لذا كان لا بد من تسليح الأطراف المتنازعة بسلاح لا يحسم المعركة، ولكنه كاف كي “تنضج” كل الأطراف بما يكفي كي تضع حداً للمجزرة؛ قد يستغرق الأمر سنوات، لا بأس، طالما أن السوريين يسيرون على طريق “النضج السياسي”، فمصيرهم الإقتناع بأن الحل كان ومازال سياسياً.

“حرب أهلية”، هذا ما هو الأمر عليه، والشعب المغدور بريء مما يجري؛ وحرب بالوكالة، وجميع الدول من الحجم الكبير والمتوسط وحتى الصغير منها، متورط بها. لإيران حصة فيما يجري كما للدول العربية، ولروسيا كما للولايات المتحدة الأميركية، للجميع حصة من دمنا. وللإتلاف كما لباقي “فصائل” المعارضة السورية، حصة من الركاكة، ومن سوء الأداء. بينما دعوة الأكراد للانفصال في الشمال، كما دعوة بعض الفصائل المتشددة في إقامة إمارة أو خلافة إسلامية، لا يعدو كونه طرحاً جباناً، في هذه اللحظة العصيبة التي تمر بها ثورة الشعب السوري؛ هي بالضبط “لحظة”، والثورات تمرّ بلحظات عدة حتى تنجز ما بدأته، تتمرحل الثورة كما يتمرحل التاريخ ذاته، وفي تمرحل التاريخ، الانحطاط كما التألق، لحظة من لحظات تكون هذا التاريخ وتبلوره؛ لم ييأس الشعب السوري كي يطلب من الخارج التدخل، بيد أنه كان يعلم أنه بات من الضروري وضع حد لجنون نظام، يؤمن بمعادلة إما هو أو يحرق البلد، وكان مدركاً أن الحرب التي تشن عليه لن تبقى طويلاً داخل حدود أرضه. لذا، من واجب العالم المتمدن وضع حدٍ لهذه المجزرة ولمآلتها اللاحقة.

الشعوب دائماً على حق، والثورة هي فعل هدم كما هي فعل بناء، إنتاج وإعادة إنتاج، وهي ولادة.. صعبة وقاسية، بيد أنها ضرورية؛ كان لا بد لنا نحن السوريين من اختبار هذا الحجم من الدمار، كي ندرك الفرق بين الخسة والشهامة، فلولا ثورة الشعب السوري كيف كان لنا أن ندرك أن “حزب الله” لا يعدو كونه ميليشيا، هو أشبه بالمرتزقة منه إلى أي شيء آخر؟! وكيف كان لنا أن نلتقط التقاطع بين يسار جبان ويمين عميل؟! وكيف كان لنا أن ننعم برائحة السارين وطعمه المر في حلوقنا!؟ كان لابد إذن من هدم مفاهيمنا وتصوراتنا السابقة، وبناء فهم جديد لواقعنا، ومعرفة بتناقضاته التي باتت اليوم أوضح من أي يوم مضى؛ هو تناقض رئيسي تتجلى أطرافه عبر طرفين رئيسيين، فاشية بأشكال ولبوس متعددة، ونظام الأسد أحد أبرز وجوهه، وحلفاء له بالسر والعلن، من جبهة تدعى “النصرة”، وحتى من يسرق علبة الحليب من السلة الغذائية المسافرة إلى أسرة سورية محتاجة، وطرف هو الشعب المسحوق حتى التخمة والذي مازال مصراً على البقاء في أرضه رغم ما تمطره السماء عليه يوميا من لعنة القذائف. هو تناقض رئيسي يتجلى عبر اللغة كما الممارسة، والممارسة في معادلتنا هذه، هي نقض النظام السياسي الحاكم في سوريا أي هدمه، وهدم كل تجلياته على الأرض، وإنتاج نظام بديل، هو بالضبط نقيض لهذا النظام بكل تفاصيله وتجلياته.

بيد أن سوء الحظ مازال مرافقاً لثورة السوريين، فما بدا انه صراع على جبهة إسقاط نظام الأسد، سيتجلى باعتباره صراعاً على جبهات عدة، فما الفرق اليوم بين التصدي لقوات الأسد، وبين مواجهة المتسلقين على الثورة؟ ألا يبدو التصدي اليوم للفاسدين في صفوف المعارضة بأنه لا يقل أهمية عن أي مواجهة أخرى يسوقها الصراع الراهن؟ لقد فُرض على السوريين أن يقاتلوا على عدة جبهات، وأن يسقطوا رموز معارضتهم قبل إسقاط رموز نظام الأسد، وأن ينتجوا بديلهم السياسي في سياق مواجهتهم المريرة لقوات الأسد المجرمة.

لا شيء اليوم يستطيع أن يجرد السوريين من مشروعية ثورتهم، حتى ولو بدا أن العالم، كل العالم، يقف منحازاً إلى الطاغية وهو منحاز فعلياً – وحتى لو تمكنت قوات الأسد من الصمود حتى اللحظة الراهنة، فذلك لا يسقط حق الشعب في تقرير مصيره.

دمشق

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى