مراجعات كتب

“لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” لخالد خليفة: العيش في حياة موازية/ احمد زين الدين

تبدأ رواية خالد خليفة “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة “عن “دار العين للنشر” بخبر موت أم الراوي مشفوعاً بالحديث قبل ذلك، عن عدم تصديقها أن الرئيس السوري (المقصود حافظ الأسد) مات مثل سائر الكائنات الإنسانية، رغم كل مراسم العزاء عبر التلفزيون، وعبر مكبرات الصوت في الشوارع والساحات العامة، وإعلان الدولة الحداد الوطني، لأن “دم الضحايا لا يسمح للطاغية بالموت” كما قالت.

وبطريقة “الفلاش باك” يسترجع الراوي الأحداث الماضية التي عاشها أفراد أسرته في مدينة حلب في ظل سلطة هذا الرئيس، ثم سلطة نجله بعده. الأحداث التي شهدت تبدلات عمرانية وديموغرافية، غيّرت وجه حلب العمراني العريق، فانتشرت فيها المساكن العشوائية، وتزامن ذلك مع تداعيات اجتماعية، تغلبت فيها شوكة أهل الريف على عوائد سكان المدينة المتحضّرين وأذواقهم. وأفضت هذه التغيّرات الى انحسار حركة التجارة المزدهرة، التي حلّت مكانها مافيات لتهريب البضاعة من خلال الخط العسكري على الحدود اللبنانية، بإشراف وتواطؤ من أزلام السلطة ورجال المخابرات.

تدور الرواية حول أفراد عائلة حلبية متوسطة الحال، يقوم فيها أحدهم مستخدماً ضمير الأنا المفرد، بدور السارد الشاهد والملم بكل التفاصيل صغيرها وكبيرها، واصفاً ما آلت اليه أوضاع الأسرة من تقهقر اجتماعي ونفسي. ومثل كثير من العائلات الحلبية، انكفأت الأسرة إلى حياة شبه سرية، يسميها القاص الحياة الموازية، وتشكل هذه العبارة لازمة أساسية تتكرر مراراً في الرواية، وبوصلة ترشدنا الى الطريق نحو هذه الحياة، بما فيها من انطواء على الداخل، وتقسم الرواية إلى فضاءين: فضاء خارجي علني، وآخر جواني خفي. الأول فضاء كاذب تتحكم فيه لغة سياسية مقننة، وتستحوذ عليه رموز وشعارات يستخدمها الناس جميعاً، ويقومون حيالها بفروض الطاعة، ويُظهرون آيات الولاء للسلطة عبر إقامة الاحتفالات والمهرجانات، وترداد الأناشيد الحزبية التي تبجّل القائد ومناقبيته، من دون موالاة صادقة وحقيقية. إنما ما يفعلونه أو يقولونه أو ما يمارسونه، من شعائرية مصطنعة ليس أكثر من دريئة تحميهم من العقاب والانتقام. وهذا دأب الشعوب التي ترزح عادة تحت نير الأنظمة الشمولية، على ما يقول فاتسلاف هافيل رئيس تشيكيا السابق الذي عاش تحت حكم الشيوعيين.

الخوف من العدوى

أما الفضاء الثاني الجواني الحقيقي، فيمثّل انعكاس هذه الازدواجية على نفوس أفراد العائلات الممزّقة المكبوتة التي تحاول الخروج عن آلية الانضباط والامتثال التي تشرّبتها أمداً طويلاً في المدارس والجامعات والمعامل، وتطبّعت بها خوفاً أو اعتياداً. نقرأ هذا الانكفاء إلى عالم الداخل بصورة نموذجية، في حالة الأم معلمة اللغة الفرنسية التي تعيل عائلة غاب عنها الأب، بعد أن هرب مع منقّبة آثار عجوز كانت تعمل في حلب. أم تعيش وحيدة مع ذكرى غدر زوجها، وتتخيّل نفسها انها تعيش حياة التسكع في شوارع باريس وجاداتها، برفقة شقيقها نزار. وتحاول الأم بناء عائلة تختلف عما خطط لها نظام حزبي صارم، وترمي الى تعليم أولادها العزف والغناء وسماع المقطوعات الكلاسيكية، بدل حفظ الأناشيد التي تمجّد القائد والحزب.

تحاول الأم الملتفة على ذاتها داخل شرنقتها، ان تحصّن منزلها وتعزله عن محيطه الخارجي، بعد عودتها الى مدينة حلب، من قرية ريفية حدودية فقيرة أُرغمت على ان تعيش فيها بسبب عمل زوجها. يجتاحها خوف شديد من طوفان الفلاحين والنازحين من القرى النائية الذين أحاطوا بمنزلها، ناقلين معهم جراثيمهم وقذاراتهم وتخلفهم. وقد بلغ فيها الخوف من العدوى حداً ظنت فيه أن كل ما هو خارج بيتها ملوث، فاحتاطت لمنعه من الدخول، وأزالت آثار الأوساخ المنظورة وغير المنظورة عن ثياب أولادها، وما يحملونه من أغراض كلما عادوا من الخارج. وتضاعف هوسها بالمنظفات حتى أصبح أبناؤها، على ما يقول الراوي “عربات قذرة ممتلئة بالميكروبات يجب تنظيفها قبل الدخول إلى المنزل”. لكن هذا التلوث لم يكن مادياً فحسب، بل ما لبث ان تطور ليغدو في نظرها تلوثاً اجتماعياً وسياسياً ونفسياً. وقد اشتكت الى صديقتها ناريمان ان السير في الشوارع أصبح مرعباً، وروائح الريفيين تعبق في الجو، وتفسد هواء المدينة. وباتت من أجل ذلك تلازم منزلها ليلاً نهاراً غارقة في أحلام يقظتها، وتكتب رسائل طويلة لكائن مجهول وعناوين غير محددة. تستعيد معه أزمنة ماضية ومتخيّلة، لم تعد تعني أحداً من أفراد الأسرة. ترتدّ إلى ماضيها الفردوسي كما تتصوره، مصممة على استعادة أيامها المنصرمة، حتى انها تصر على إبقاء تسريحة شعرها كما كانت سائدة في الستينيات. وهي إذ تدّعي لنفسها أرومة ارستقراطية، تضطر لأن تحجب ابنتها المعتوهة سعاد عن أعين زميلاتها وصديقاتها، وان تطلب من ابنها رشيد ان يعزف لضيفاتها مقطوعات راقية تدل على أصالة المنبت وعراقته. وتفضل الأم الموت على ان تعيش تحت إمرة ضباط ريفيين حمقى، لا يفرقون بين عطور السوسن ورائحة اليقطين. كذلك هي حال الخالة ابتهال التي تعيش في ظل ذاكرة استيهامية. مولعة بالتقاليد العثمانية، وتحلم بأنها زوجة سلطان أو أحد قادة الجيوش، وتتشبث بارتداء الثياب التركية الثقيلة، مستغرقة في ماض لا تودّ مغادرته.

الخارج في الرواية، يتمثّل بسلطة حزبية تهيمن على كل مظاهر الحياة اليومية، وتفرض على الجميع شروط الطاعة والصمت، وعلى ارتباط كل شيء بمصلحة الحزب، باعتبارها مصلحة الجماعة والوطن، حتى المشاعر والرغبات يجب أن تخدم خطها وتلتزم طريقتها.

والمدينة في هذه الأجواء، تعيش مناخات الخوف من المخبرين الذين يسكنون العقول ويسكنون أوراق الشجر، حسب عبارة الأم. ويلوثون أخلاق المدينة بالوشايات، وبكتابة التقارير الكاذبة والملفقة عن الأصدقاء والزملاء والجيران، تزلفاً إلى أولي الأمر من أصحاب الحلّ والربط.

البحث عن اليقين

عمّقت هذه الخشية من الحياة العامة، التي تتحكم فيها الضغائن المتبادلة والتوجس وعدم الثقة، لذة الفرار إلى الحياة الموازية، الى الداخل. إلى النفس المنطوية على ذاتها التي تبني قصوراً على الرمال، أو تنفصل عن الواقع ومآسيه وكآبته، أو تلتفت إلى رغبات الجسد ونداءاته، وإلى تأجيج الغرائز وتفجّرها. فكان ان غرق الخال نزار عازف الكمان بمعاشرة الرجال، بعد ان ظهرت بوادره المثلية من خلال ولعه بالثياب النسائية التي كان يختلسها من خزانة أخته. وقد أقرّ في رسائله بأنه يحب أنوثته، ويهزأ من تبجيل الناس لجده الكبير عبد السلام صاحب المقام الذي تتبارك به النساء، في حين أنه كان يسرق نقود الفقراء، ويتجسس لمصلحة الباب العالي.

ولأن قدر السوريين أن يعيشوا حياتهم الموازية، فإن من خرج من أفراد هذه العائلة عاد إلى الانطواء داخل قوقعته. ولما كانت سوسن الأخت الجذابة تحلم بالمجد، فإنها توسلت كل السبل لتحقيق مآربها، واختارت الانخراط في صفوف المظليات لا رغبة في هذا المجال، بل لأنه يمنحها شعوراً بالقوة والغلبة والانتقام من الآخرين، اهتداءً بعبارتها الأثيرة “حين تكون في غابة يجب أن تكون وحشاً”. وتقربت من كثيرين وطارحتهم الغرام، ومنهم قادة عسكريون، إلا ان تجربتها باءت بالخسران. و”منذر” الذي أحبته رفض الزواج منها، واقترن بفتاة لا يحبها من طائفته.

حاولت سوسن الهاربة من ماضي أمها الكئيب والعقيم، ان ترتق بكارتها، وتتطهّر من جسدها المثقل بالخطيئة، وتكفّر عن ذنبها كصبية مرحة عاشت حياتها حرة طليقة، فتنكرت لحاجاتها وأهملت غرائزها الأنثوية، وتحجّبت مرتدية ثياباً طويلة، ومرددة فعل الندامة، إلا ان ذلك لم يمنحها اليقين الثابت والنهائي الذي كانت تبحث عنه دون جدوى. إذ وجدت بين المتديّنات من يعشن حالة فصام بين الماضي والحاضر، وبين الرغبة والواقع. فآثرت أن تعود إلى حلمها، “الحلم الذي هو أجمل من العيش”. كما تقول في الرواية.

أما أخوها رشيد العازف الماهر، فظل يحتفظ في غرفته بزجاجة تضم رفات أخته سعاد الميتة منذ زمن، كأيقونة تذكّره بنهايته. وبعد ان ازداد نفوذ الإسلاميين في شوارع حلب وأسواقها، انتسب إلى صفوفهم، وحارب معهم الأميركيين في العراق، لكنه بعد عودته سالماً الى مدينته حلب وضع حداً لحياته شنقاً، عندما اكتشف انه أخطأ السبيل، وانقاد الى غريزة القطيع، الذي كان يصفه سابقاً بأنه “أعظم اختراع لتمرير الأفكار والفلسفات والأديان والفنون الساذجة”.

رواية خليفة هي رواية تجسّد معاناة الفصام في المجتمع السوري بين الحكام والمحكومين. فصام جعل الناس يعيشون حياتين مختلفتين، إحداهما في ضفة، والأخرى في ضفة أخرى. ورغم موت الرئيس الأب ومجيء الابن في استفتاء جديد، إلا ان البون ظل شاسعاً، وازدادت الازدواجية عمقاً. وكما كان الأمر عند السوريين منذ ثلاثين عاماً، فهم ما زالوا يعيشون حياتهم الموازية في الضفة الأخرى “ماضية إلى ما شاء الله لتوازيها أن تمضي”. حسب الكلمات الأخيرة للكاتب. هذه الإشكالية الفصامية يمكن قراءة ترجمتها فلسفياً وسوسيولوجياً، في كتاب ليزا وادين “السيطرة الغامضة” الذي كرسته عن سوريا في عهد الأسد.

ومع ان خالد خليفة الذي وضع خاتمة روايته ربيع 2013، لم يتطرق إلى أحداث الثورة السورية القائمة. لكنه أشار في حديث مع راشد عيسى في “السفير” إلى ان جثة المدينة بدأت تتنفس وتنتعش بعد 15 آذار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى