صفحات سوريةوائل مرزا

لا لخلط الأوراق والوصاية على الشعوب


وائل مرزا

لا يحقُّ لأحد، كائناً من كان، أن يُصادر حقَّ إنسان آخر في طرح رأيه بخصوص أي قضية من القضايا. هذه قاعدةٌ صارت تتفق عليها غالبية عظمى من العرب، في الشهور الأخيرة على الأقل. بل إننا نحسبُ أن ثورات الربيع العربي، وفي قلبها الثورة السورية، جاءت في جزء كبير منها لتأكيد تلك القاعدة عملياً في حياتنا والدفاع عنها.

لكن تطبيق هذه القاعدة يقتضي حقّ الجميع أيضاً في مناقشة كلّ التحليلات والطروحات الفكرية التي يُطلقها بعض مثقفينا السوريين والعرب علناً في الفضاء العام. لأن مثل تلك التحليلات والطروحات لا تعود أحاديث غرف مُغلقة ينبغي احترام خصوصيتها، وإنما تُصبح بالضرورة جزءاً من الشأن العام المفتوح للحوار والمداولة. ويتأكد هذا الحق حين تحمل مثل تلك الطروحات كمون التأثير في مصير الشعوب والدول، وتحديد حاضرها ومستقبلها. ويتأكد الحقّ أكثر وأكثر حين يكون في الطروحات شبهة ممارسة درجة من الوصاية على الشعوب وخياراتها السياسية والفكرية والثقافية.

نؤكد على هذه القواعد كمقدمة لتسجيل اعتراض منهجي على طروحات الأستاذ محمد جمال باروت في لقائه الأخير في برنامج (في العمق) على قناة «الجزيرة»، خاصة فيما يتعلق بالشأن السوري إجمالاً وبالمجلس الوطني السوري على وجه الخصوص.

مرة أخرى نقول إننا لسنا هنا في وارد ممارسة الشخصنة من قريب أو بعيد، ولا يتعلق كلامنا بشخص الأستاذ باروت، وإنما بالأفكار التي قدمها في البرنامج المذكور. ومع الاحترام لحقه في طرح آرائه، فإن حقنا محفوظٌ وطبيعي في الرد على تلك الآراء التي نرى فيها محاولة غريبة ليس فقط لخلط الأوراق، بل وممارسة الوصاية على الشعب السوري وثورته وخياراته.

فخلال الثلث الأول من البرنامج تحديداً كانت طروحاته كلها تركِّز على اتهام المجلس الوطني وإقحام اسمه إقحاماً للإيحاء بأنه يهدف إلى استجلاب القوى الغربية للعودة إلى المنطقة والسيطرة على سوريا. وعلى هذا الطريق اتهم المجلس بأنه لم يقم بإدانة الطائفية، وتجاهلَ بيان رئيس المجلس بهذا الخصوص، ومعه الخطاب السياسي الواضح للمجلس فيما يتعلق بالموضوع، وهو خطابٌ بات يعرفه القاصي والداني. بل إن الباحث اتهم هذا الخطاب بشكل غير مباشر بأنه خطابٌ متطرف، وذلك من خلال ربطه بخطاب آخر موجود في الساحة، له الحقُّ في التعبير والدفاع عن نفسه، بغض النظر عن اتفاق المجلس أو اختلافه معه في مفاصل كثيرة..

يتجاهل الأستاذ باروت في طرحه أن النظام السوري هو الذي يدفع باتجاه الأحداث الطائفية بشكل منهجي ومُبرمج وغير مسبوق، وأن حديثنا هنا عن نظام سياسي ليس لديه أي رادع يُحتملُ معه أن يكون هو نفسه من يقوم بالأحداث الطائفية. وفي معرض الحديث عن هروب أبناء الشعب السوري من عمليات القتل والتدمير المبرمجة التي تجري بحقهم من قبل قوات النظام، يقفز الباحث فوق كل تلك الحقائق، ويحصر الموضوع في اتهام الشهيد حسين هرموش بأنه من قام بتهجير الناس في جسر الشغور خدمة للمخططات الغربية وبالتعاون مع تركيا!

بالمقابل، لا نسمعه يُحللُ بتفصيل يليق بباحث مثله مسؤولية النظام في بعض القضايا على الأقل، مثل دوره الوحشي في كل عمليات التهجير التي تحصل داخلياً وخارجياً. ولا نراه يقترح طريقة عملية واقعية تحمي أبناء وطنه من المدنيين الذين يُذبحون ويُقتلون ويُعتقلون ليل نهار، ويطالب العالم والمعارضة والمجلس الوطني بتنفيذها، بدلاً من مجرد الوقوف عند نقطة النقد، بل التشهير والاتهام الصريح حين يقارن بين موقف حركة النهضة التونسية التي يمدحها بأنها تمسكت «بميراثها القومي والوطني في الوقوف الصلب ضد عودة الاستعمار» ليكمل قائلاً: «وليس على غرار ما فعله ثوار الناتو في ليبيا وما يتورط فيه ثوار المجلس الوطني السوري، وليس أبناء البلد المحتجين والثائرين، في استدعاء الاستعمار من جديد»! كما كتب في صحيفة (الحياة) منذ أيام.

ها نحن أمام عملية خلط الأوراق مرة أخرى، وهي عمليةٌ تُوقع للأسف من يحاول القيام بها في تناقضات منهجية عميقة. فالباحث ينسى أو يتناسى فيما يبدو أن حركة النهضة اعترفت، وعلى لسان زعيمها راشد الغنوشي، ومنذ شهر تحديداً، بالمجلس الوطني السوري ممثلاً شرعياً للشعب السوري؟! هذا رغم معرفتنا، بأن حزب النهضة قرر التأني في دراسة موضوع طرد السفير وإغلاق السفارة السورية لحين تشكيل الحكومة رسمياً، لأسباب دبلوماسية معروفة. والباحث ينسى أو يتناسى أن «أبناء البلد المحتجين والثائرين» طالبوا بحماية المدنيين والحظر الجوي، وأنهم سمّوا الجمعة الماضية باسم «المنطقة العازلة مطلبنا»..

لا نهدف إطلاقاً إلى حصر الموضوع في الدفاع عن المجلس الوطني، لكن التداخل الكبير الذي يُصرُّ عليه الباحث بين المجلس وموضوع الثورة السورية يفرض علينا الحديث عن المجلس أكثر مما نريد.

وفي هذا الإطار تحديداً، يحق لكل سوري التساؤل عن مدح الأستاذ باروت للثورة، عرَضاً على الأقل كما جاء في اللقاء التلفزيوني، ثم تجاهُله المُطلق لكل الدعم الذي لقيه ويلقاه المجلس الوطني من الشعب والثورة، في تناقض منهجي آخر لا يليق أن يقع فيه مثقفٌ مثله. وبالقراءة المنطقية لهذا الموقف، نكون بإزاء خيارين لا ثالث لهما، فإما أن الشعب والثورة لا يملكان رؤية سياسية صحيحة لمن يستحق تمثيله ولو بدرجة من الدرجات، أو أنهما على درجة من البساطة بحيث أنهما كانا ولا يزالان مخدوعين بالمجلس. وإلا، فما معنى أن يكون المجلس بهذه الدرجة من سوء النية والطوية والأهداف السياسية، ثم يحظى رغم ذلك بدعم مقدر له رآه ويراه العالم بأسره؟!

ويدخل في تساؤلاتنا تجاهل الأستاذ باروت لمواقف شعوب عربية لن يتعب الإنسان في سعيه لمعرفة تأييدها للثورة والمجلس على حد سواء، وفي وجود شواهد لا حاجة لتعدادها في هذا المقام، خاصة أننا نتحدث عن ظاهرة تمتد على مساحة الخارطة العربية من المغرب إلى قطر..

ولا ننسى أخيراً الموقف العربي الرسمي من خلال الجامعة العربية، الذي تقوده لجنةٌ وزاريةٌ تترأسها دولة قطر. وما خلصت إليه من معطيات وقرارات، بعد كل المحاولات التي قامت بها الجامعة لإعطاء النظام السوري الفرصة تلو الفرصة والمهلة بعد الأخرى.

يُراجع المرء المشهد السابق بكل تفاصيله، ويقارنه بآراء الأستاذ باروت، فلا يرى سوى تفسيرين للتناقض الواضح بينهما. فإما أن الأستاذ يرى وحده ما لا تراه الثورة السورية وأهلها، ومعهم الشعب العربي ونظامه الرسمي، كي لا نتحدث عن النظام الدولي الذي يختزله الباحث في مصطلح (الاستعمار الجديد). أو أن الأمر يتعلق بوصاية على شعب سوريا وثورتها لا نفهم دوافعها وخلفياتها.

يطول الكلام والملاحظات التي تهدفُ حصراً لمحاورة أفكار الأستاذ باروت. خاصة أنه طرحَ هذه الأفكار في غياب الطرف الآخر وافتقاره القدرة على التعبير عن وجهة نظره، إلى درجة دفعت الزميل الإعلامي علي الظفيري إلى طرح هذه النقطة تحديداً، فضلاً عن محاولته أكثر من مرة تفنيد عملية خلط الأوراق التي نتحدث عنها.

لا يدّعي المجلس الوطني الكمال ولا يمكن أن يدّعي هذا مخلوق بشري، لكنه يجتهد، ويقبل بحكم شعب سوريا وثوارها على ذلك الاجتهاد.

وإذا لم يكن لتأييد الشعب والثوار أي اعتبار لدى الأستاذ الباحث، فقد كان الأمل على الأقل أن يتصل بالمجلس ويتحاور معه ويطرح (شبهاته) عليه، ويقدم له النُّصح والمشورة، ويسمع منه رأيه، ويعرف المُعطيات والظروف المعقّدة التي تُحيط به وهو يتحرك في زوايا الأرض الأربعة، وينسق مع الثوار، ويأخذ قراراته في النهاية بناءً على كل ذلك. وليس فقط عبر الجلوس في غرفة مكيفة للتحليل وإطلاق الأحكام والاتهامات.

العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى