أنور البنيصفحات سورية

لا مفاجآت طالما الإفلات من العقاب مستمر/ أنور البني

 

 

هل من مفاجأةٍ بما قامت به الدولة الإسلامية بجريمة إحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة حياً؟

هل من مفاجأةٍ بما قام به ويقوم النظام السوري من قتل وتدمير وإحراق واستخدام السلاح الكيماوي؟

هل من مفاجأةٍ عندما تزداد هذه الجرائم وحشية وفظاعة؟

الأصل في ردع الجريمة والمجرمين هو العدالة،

فكيف يمكن أن نتوقع ألّا يستفحل المجرم في جريمته وألّا يتوالد مجرمون بعد مجرمين طالما أنهم آمنون من العدالة؟

كيف يمكن أن نتوقع ألّا يتحول أي واحد فينا إلى مجرم تحت ضغط الظلم والقهر طالما هناك مساحة كبيرة للإفلات من العقاب، وبوجود أمثلة حيّة أمامه حيث ارتكبت جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب بالوثائق وباعتراف العالم، وما زالت الجريمة ترتع وتسرح وتستفحل من دون أن تهتز العدالة؟

ونحن نعيش الذكرى المؤلمة لأحداث مدينة حماة الأقسى في التاريخ في شباط (فبراير) 1982، وذكرى المجازر التي ارتكبت هناك بعيداً من الضوء والإعلام والأعين، ونكابد آلام ونتائج إفلات مرتكبي تلك الجرائم من العقاب إلى الآن، ونرى مجرمي حرب صدرت قرارات اتهام بحقهم كحسن البشير الذي ما زال حراً آمناً من العقاب، وغيره كثر، فيما يبدو أننا سنشهد المزيد من الجرائم والمجرمين وازدياد البشاعة والفظاعة لهذه الجرائم إلى حدود قد لا نتخيلها؟

في الجرائم الكبرى يتلطى المجرمون عادة بشعارات آيديولوجية سياسية أو قومية أو دينية، ويحمون أنفسهم من العدالة إما بالادعاء بنبل القضية وأن الغاية تبرر الوسيلة أو بقوانين داخلية مفصّلة على قياسهم تحميهم من المساءلة مهما ارتكبوا من جرائم لحماية سلطتهم وامتيازاتهم، أو يتذرعون بمرجعية إلهية تسمو فوق البشر وقوانينهم يستندون إليها في مسألة الثواب والعقاب من دون أن يأبهوا بالقوانين البشرية، ويروحون يرتكبون الجرائم البشعة تحت لافتات الأهداف النبيلة.

في كل الحالات فما يقومون به جرائم بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ولا تقلل من هذا التوصيف مرجعية سياسية أو آيديولوجية أو دينية إلهية أو أهداف «نبيلة».

من شجّع «الدولة الإسلامية» وغيرها من التنظيمات الإرهابية على ارتكاب الجرائم هو إهمال تام لجرائم أفظع ارتكبت وترتكب كل يوم وكل لحظة بحق شعوب كاملة من دون أن تهتز رموش العدالة ولو مرة.

من شجّع ويشجع على الجرائم هو إفلات كثيرين من عتاة مجرمي الإنسانية والحروب من العقاب وبقاؤهم أحراراً. بل، وياللسخرية، يحاولون تعليم العالم دروساً في محاربة الجريمة.

ولو كان هناك بصيص ضوء من أن المجرم سيلقى عقاباً على جرائمه لربما توقف عن ارتكابها، وهو حتماً لن يرتكبها بكل هذه الوحشية والفظاعة والتمادي المهين. فجريمة حرق الطيار معاذ فصل في سلسلة جرائم كبرى لن تنتهي ما لم تصبح هناك إمكانية حقيقية للعقاب ووضع حد نهائي لسياسة الإفلات منه.

ونحن لن نُفاجأ أبداً بجرائم كبرى أقسى وأشد فظاعة طالما أن العالم يقف متفرجاً عليها يعدّ الضحايا والدمار والانتهاكات من دون أدنى مسؤولية تجاه إحقاق العدالة. وحين ينتفض هذا العالم للعدالة، فإنه يطبّقها بانتقائية تتناسب مع مصالحه والتوازنات السياسية ضارباً عرض الحائط بمبادئ العدالة كلها، فيصبح تطبيق هذه العدالة المجتزأة جريمة جديدة تضاف إلى الجرائم الأساسية، ويصبح هذا التطبيق مسؤولاً عن الجرائم المقبلة، لأنه يشجع المجرمين على ارتكاب المزيد والمزيد طالما هم آمنون من العقاب، كما يتشجع مجرمون آخرون ليقوموا بجرائم أخرى مع طلب الحماية من العقاب بعروض خدمات يقدمونها للجهات صاحبة العلاقة. ولأن هذا يخلق ظلماً وقهراً كبيرين بانتقائيته، يندفع بالتطرف أكثر وأكثر قدماً ويخلق له بيئة مساعدة لحقها الظلم من العدالة الانتقالية كما تزداد الجرائم بشاعة وعنفاً، بحيث لا يعود ممكناً إحقاق العدالة لاتساع دوائر المتورطين وتشابك الجرائم بفعل ورد فعل. هكذا، تضيع الجرائم والمسؤولون عنها في زحمة الخلاص، وعفا الله عما مضى، وتبقى النار مشتعلة تحت رماد هشّ ينتظر فرصة أخرى ليقتل أكثر ويدمر أكثر، وتستمر الدوامة كل مرة في شكل جديد.

«الشرط الوحيد لانتصار قوى الشر هو عدم تحرك قوى الخير»، هذا ما قاله إدموند بيرك، وأضاف المحامي الفرنسي تانغي: «أن تفتعل العمى طوعاً لا يعني أنك حر، لكنْ يعني بكل تأكيد أنك جبان».

وبالعودة إلى حماة، ستبقى ذكراها مشتعلة إلى أن تُفتح الملفات ويحاسَب المجرمون كلهم.

* محام ورئيس «المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية»

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى