صفحات العالم

لبنان وسوريا: وحدة المصير والمسار في مواجهة الربيع العربي


باريس ـ فؤاد سلامة

لطالما تغنى الساسة اللبنانيون بوحدة المصير والمسار بين البلدين الشقيقين اللدودين. أكثر ما تصدق هذه المقولة في هذه المرحلة الحرجة لكلا البلدين وبالأخص لكلا النظامين. إنها مرحلة دقيقة وغير مناسبة البتة للمدافعين التقليديين عن هذه المقولة، وخاصة مع استشراف النظام السوري لتغييرات عميقة من المؤكد أنها ستطال بنيته الهيكلية وتركيبته السياسية في العمق. هذا يعني أن حصول هذه التغييرات اليوم أو غدا قد يصيب باليتم طبقة سياسية لبنانية واسعة صعدت وأمسكت بمفاصل بلدها لبنان بفعل الدعم غير المحدود للنظام السوري الممانع والمستبد. كما أن ثقافة سياسية مهيمنة اتسمت بطابع هجومي وانتصاري سوف تصاب بنكسة كبيرة جراء افتقادها للزخم التعبوي الذي أمنته لها انتصارات أكيدة لنهج الممانعة الإستبدادية الذي كانت تقوده سوريا في العالم العربي.

بغض النظر عن الشماتة التي قد يعبر عنها الكثيرون من خصوم نهج الممانعة، لا ينبغي للقائلين القدامى بوحدة المصير والمسار أن يتراجعوا عن مقولتهم تلك، لأن تراجعهم ذلك سيجعل منهم أضحوكة في نظر الخصوم. وهم بعدم تراجعهم عن تلك المقولة سيكون عليهم أن يلاقوا أولئك الخصوم من أبناء وطنهم في منتصف الطريق، لأن هؤلاء الخصوم الذين كانوا رافضين لهذه المقولة حتى الأمس القريب، بدأوا مراجعة حقيقية لموقفهم وأصبحوا الآن من محبذي وحدة المصير والمسار بين لبنان وسوريا، بعد أن اكتشف الجميع فوائدها على البلدين مع وصول رياح التغيير الديمقراطي إلى سوريا. إذا حصل هذاالتلاقي بين “المعسكرين” المتنازعين، فسيكون ذلك من أهم “بركات” الربيع العربي على الشعبين اللبناني والسوري، اللذين ذاقا مرارات وحدة المصير والمسار في طبعتها الديكتاتورية وحان لهم أن يذوقوا الآن حلاواتها.

لا بد أن نذكرأولا الدور السلبي الذي لعبه النظام السوري في تأجيج النزاعات الطائفية في لبنان، هذا البلد الذي تنخره سوسة العصبيات الطائفية منذ أمد طويل. لم يخلق النظام السوري تلك السوسة ولكنه رعاها بعنايته الفائقة عندما اكتشف أهميتها لاستمرار تحكمه بوطن الأرز، فغذاها بما يلزم من مقويات. وقد بلغت الطائفية أعلى ذراها مع اغتيال الحريري الأب وما أعقب ذلك من انفلات للمذهبية التي هي أعلى درجات الطائفية. ورغم خروج الجيش السوري من لبنان، فإن الرعاية السورية للأحقاد الطائفية والمذهبية تتابعت فصولا وإن بشكل غير مباشر عبر الأطراف المتحالفة معها في لبنان. وهذه الأطراف وجدت أخيرا في الموقف من الحراك الشعبي السوري الدرامي ما يعمق الشرخ الذي أحدثه اغتيال الحريري الأب. فها هم حلفاء النظام السوري وخصومه يتبادلون الإتهامات بشأن الموقف من النظام ومن الحراك الشعبي المستمر في مطالبته بالحرية، كما تبادلوا سابقا السهام بشأن المسؤولية عن الإغتيال. وبدلا من التوحد هذه المرة في دعم الشعب السوري، الذي يدعي الطرفان محبته، يزداد الإفتراق : طرف مع الشعب ضد الجلادين والمستبدين، وطرف مع النظام ضد “المخربين والمتآمرين”.

في احتضاره الذي يبدو أنه سيكون طويلا ومكلفا، كما في صعوده البطيء والمتعرج والمكلف أيضا، شكل النظام السوري مادة خلافية رئيسية بين اللبنانيين تضاف إلى سلة الخلافات التي ما فتئت تمتلىء بفواكه الخلاف المرة وبالرواسب التي تمد جذورها في التاريخ القديم. وكلما خيل للبنانيين أن بالإمكان إعادة تشكيل الإجماع اللبناني حول أمور أساسية كالمواطنة والديمقراطية والعروبة العلمانية، كان جهابذة الطائفية المتخفون خلف شعارات الوطنية والإصلاح، يعيدون شحن جمهورهم بما يلزم من منشطات خطابية وتهم وتخوينات متبادلة تخفي احتكارهم للسلطة وخيراتها.

في الوقت الذي تتعمق فيه الهوة بين الشعب السوري ونظامه، يزداد الشرخ ظاهريا بين اللبنانيين، وفي الخلفية خوف المرتبطين بالنظام السوري من فقدان حليفهم القوي في سوريا وانكشاف ظهرهم بين عدو معلن في الجنوب و نظام غير ودود يمكن أن يتشكل في الشمال. مخاوف تبدو مفهومة عند جمهور عانى من إسرائيل الويلات على امتداد أكثر من أربعين سنة. ولكنها، تلك المخاوف، لا ينبغي، منطقيا، أن تكون سببا لابتعاد جماعة المقاومة وأهلها عن شعب سوري منتفض ضد الظلم ومطالب بالحرية والكرامة، على غرار بيئة المقاومة التي طالما تغنت بالإنتفاض على الظلم عبر تاريخ ما انفك الشيعة يستحضرونه في ندبياتهم الشهيرة “ليتنا كنا معكم”. ها هو الشعب السوري مظلوما وشهيدا أمام أنظار العالم: أليس من الجدير أن نكون إلى جانبه؟ نتساءل هنا عن مصلحة المقاومة وجمهورها في العودة الى المربع الطائفي دفاعا عن نظام مستبد يوغل في دماء شعبه وفي لحظة تاريخية تعيد الشعوب العربية فيها اكتشاف ذواتها وهوياتها الوطنية الجامعة والموحدة في نضالها من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق المواطنة.

اللحظة الراهنة تؤكد أكثر من أي وقت مضى صحة مقولة وحدة المصير والمسار بين نظامين وبلدين هما لبنان وسوريا. وأكثر من يكتشف صحة هذه المقولة الآن هم الرافضون،حتى أمس قريب، متوجباتها ونتائجها. يبدو جليا وساطعا كسطوع الشمس الترابط الوثيق بين النظام الديكتاتوري المكشوف في سوريا والنظام الديكتاتوري المقنع في لبنان حيث أن الواحد يتغذى من الآخر ويستقوي به. بالتالي سيكون العكس صحيحا، أي أن انهيار الواحد أو إضعافه سينعكس بنفس الوجهة على الآخر،عاجلا أو آجلا.

وحدة المصير والمسار بين الشعبين اللبناني والسوري يجعلها الربيع العربي أكثر واقعية لأن اكتمال هذا الربيع في سوريا سيؤدي الى قيام نظام تعددي ديمقراطي في سوريا، وفي لبنان لاحقا، نظام يسمح للأقليات والأكثريات بالعيش من دون خوف من استبداد أو إضطهاد ومن دون “ضمانات” أوحماية من ديكتاتورهنا أو هناك. وتلك الوحدة ستلغي الحاجة لوهم “حلف الأقليات”، الذي لا يحمي أحدا، والذي اكتسب مؤخرا نصيرا كبيرا، هو بطريرك الموارنة الجديد. وحدة المصير والمسار في حال تحققها واكتمالها في دولة فدرالية أو كونفدرالية لبنانية سورية ستلبي في نفس الوقت تطلعات القوميين والعروبيين كخطوة أولى نحو وحدة عربية أوسع على غرار الإتحاد الأوروبي، وهي لا شك سترضي الإسلاميين المتنورين كخطوة نحو سوق اقتصادية عربية إسلامية أشمل، وسوف ترضي الليبراليين دعاة التكامل الأقتصادي بين دول المنطقة في إطار حر وديمقراطي. كل سيجد ضالته في وحدة لبنانية سورية طوعية ومتدرجة شرطها الأول التسليم بقيم اليمقراطية الأساسية : التعددية والإنتخابات الحرة وتداول السلطة. وهكذا وحدة ستحقق حلما عزيزا على قلب المنادين بسوريا الطبيعية والكبرى، الذين اعتقدوا يوما أن أقصر طريق لتحقيق حلمهم هو دعم النظام السوري الإستبدادي. وحدة لبنان وسوريا ستكون ممكنة وستشكل مصلحة عليا ومطلبا واقعيا للشعبين في حال زوال الديكتاتورية في البلدين. وأول الغيث على الشعبين سيأتي من سوريا حرة وديمقراطية، كما حل البلاء من سوريا ديكتاتورية على الشعبين الشقيقين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى