صفحات الثقافة

لديّ تلفزيون لا أعرف كيف أسامح الوحوش الطالعة منه


باسم النبريص

لا يُزارون إلا في المناسبات. مجللين بشرشف الأبدية الأزرق، يرقدون تحت شواهد قبورهم. شبّاناً في الأغلب، شباناً تركوا آباءهم خلفهم، وناموا ههنا إلى الأبد. الآباء، ثواكل، لكن الزمن يُنسيهم قليلاً أو كثيراً. فالزمن دواء مسكّن، مثل أيّ أكامول أو دوكلوفين موجود في الصيدلية. اليوم، بلا مناسبة، زرتهم. لم أقرأ الفاتحة. سفحتُ دمعة داخلية فحسب. ثم مضيتُ، صامتاً، إلى سبيلي. في طرق الناس، في الشفق الأخير من مساء كابٍ، تذكّرتهم. قلت لنفسي، وأنا أخرج من الزحام: “لقد كانوا أصدقاء أعزاء، والآن صاروا ذكريات”. لسببٍ ما، يحدث هذا الأمر، مراراً، في هذه البلاد: يتحوّل أبناء آدم، على حين فجأة، من طين إلى طيف. كان المساء يوغل في كآبة غلاّبة، فيما أنا أصعد الدرج إلى بيتي، متثاقل الخطى، واهن القلب. عمّا قليل أيها الأصدقاء، عما قليل، سأشعل شمعةً في البيت الخاوي، إلا من أطيافكم. سأشعل شمعة كبيرة، وأصبّ كؤوس النبيذ الأحمر: لكل واحد منكم كأساً، وسآتي بمقعد أضع عليه الكأس، فيما هايدن شقيق الروح، يوزّع أساه الكوني، على مساحة البيت جميعاً، ويبقى منه فائضٌ للجيران. نخبكم! نخب موتكم الأبله! نخب رحيلكم الذي يقتات عليه الجنرالات الصغار! لقد صرتم أرقام إحصائيات. صرتم وليمةً للميديا الجائعة. أما أنا، في هذه الليلة العديمة الرحمة، المعدومة الإله، فالأرجح، أنني سأشرب زجاجتَي نبيذ، فقط من أجل أن أنام. أرأيتم المفارقة؟ يا له من نوم عالي الكلفة، نومي هذا. أما نومكم، أنتم، فلا نوم أرخص منه “إلى الأبد”، “إلى الأبد”. أي: بالمجان، بالمجان! حين أغفو يا هايدن، رجاءً فلتغلق المسجّل. فلتقفل صنابير الماء، يا صديقي، ولتمرّ على المطبخ. وإن كان ثمة شبّاكٌ مفتوح، فلتغلقه أيضاً. إني رجل هشّ الصحة، وحساس تجاه البرد واللغة. فوق ذلك: إني رجل وحيد. يؤلمه الليلةَ أنّ محض حرف يتغيّر في كلمة داخل جملة، يمكن أن يقلب حياته جحيماً.

¶¶¶

اليوم سُحقت جورية في درعا

اليوم، سُحقت جورية في درعا. ذلك الطفلُ البهي، وقد انتهى أمره على عجلة، كم سيعيدني إلى عجلة طفولتي؟ الأيام التي هناك، ثقيلة، لكنّ راهني أثقل. لديّ تلفزيون، وأعجز كيف أتجاهل الرميم الطالع منه. سفلة، ولوطيون، وحفارو قبور بوجوه ناعمة. مرّوا على ليلي، فأحالوه ليلاً بخمسة هموم. آهٍ يا باييخو: من هم أولاء في ساعة العجل المقدّس؟ بهيمتهم الضاحكة، لم يخفت سحرها عليهم. ماذا بقي لأمثالي كي أكتب؟ في الثانية من هذا اللجّ، سأفكّر في من سُحقوا عندنا: أمهاتهم. العمّ أبو رياض، الذي… حين عادوا من جنازة ابنه وكان أرسله لشراء صحن فول، هرع إلى المرحاض، ونزف كل سوائله، ثم مات عليها [هكذا، على عجلة]. بلا خردلة مجد. لِمَ يموتون على عجلة، وفي غير أوانهم يا قيصر باييخو؟ كم أطاح أبو رياض رومنطيقيتي! كم جلدني في مقتل، أنا وارث الشعراء الألمان. أنا الذي أتلقّى الدناءات، وأنساها كل يوم لتصفو القصيدة. اليوم، سُحقت جورية في درعا، تحت حوافر دبابة من موسكو. في بيوت أخرى، لا يلزم أكثر من تغيير القناة، لئلا تفسد السهرة. دعسة ريموت بسيطة وينتهي الأمر. لكنها بيوت أخرى، يا باييخو. بيوت أخرى، حتى لو شابَهَ السقفُ السقفَ والحائطُ الحائطْ. اليوم، سُحقت جورية في درعا، بأظلاف جيب من طهران. ذلك الطفل البهي، وقد انتهى أمره على عجلة، كم سيعيدني إلى عجلة طفولتي؟ الأيام التي هناك، ثقيلة، كبطن ثور، لكنّ غدي أثقل. اليوم، سُحقت جورية في درعا. سُحقت جوريّات على مناط سوريا. لديّ تلفزيون، ولا أعرف كيف أسامح الوحوش الطالعة منه. قتلة، وبعثيون، وسعاة بريد بوجوه ناعمة. مرّوا على ليلي، فأحالوه ليلاً بخمسة رجوم. آهٍ يا باييخو: من هم أولاء المارجون قضيب العجل المقدّس؟ بهيمتهم الضاحكة، لم يخفت سحرها عليهم. متى البهيمة تفكّر، الإله التعِس يخلع جبهته، لنتحدّث قتيلاً لقاتل، وقاتلاً لقتيل؟ اليوم، سُحقت جورية في درعا… سحقت جوريّات على مدار سوريا.

واليوم، تقدّم المخلب متراً ثانياً في قلبي.

غزة

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى