صفحات الثقافةممدوح عزام

لغة الحجّاج/ ممدوح عزام

 

 

يتزعّم الحجّاج بن يوسف الثقفي، دون أن يدري، المراجع المعاصرة التي ترفض الحوار. وسوف يتبيّن المرء أن المقصود من سيرة هذا الوالي، التي تستعاد أحيانا، هو تلك العبارات التي تتضمن التهديد بالموت، وقطع الرؤوس “التي قد أينعت”. إذ غالبا ما ترى في نهاية مقالات بعض المتحاورين العرب، أو تعليقاتهم وردودهم، عبارات من طراز: “رحم الله الحجّاج”.

وتبدو العبارة شديدة المفارقة في هذا الباب. إذ بينما يترحّم أحدهم على سفّاح ارتكب الكثير من القتل، تراه يرغب في استخدام وسائله العنيفة كي يحرم خصومه الفكريين من أي رحمة.

وفيما كنّا نخشى من قبل على لغة الحوار من الأذى اللفظي بسبب تسلّل مفردات التعصب والتطرف والقمع والتعطيل الفكري، بتنا اليوم نخشى على الحوار ذاته من أن يُقصى أو يمنع أو يعطّل بفعل هذه الروح الحربية الراغبة في تهديم الجسور، وقطع الطرق المشتركة. فسرعان ما يظهر “المحاوَر” في صورة العدو. وقد نتساهل فنضعه في عداد الخصوم. وفي الحالتين تُستخدم اللغة للاشتباك والعراك لا للإقناع وتوضيح المواقف والآراء.

واللافت في الأمر أن الحوار بوصفه فعلاً ديمقراطياً ينبني على قدر كبير من سعة الصدر والتسامح واحترام الرأي، فيما ترغب تلك المواقف في تحويله إلى أدوت قسر وإرغام.

في كتابه “أعداء الحوار” يقول مايكل أنجلو ياكوبوتشي إن عمر “التسامح” بين البشر لا يزيد عن بضعة قرون، أي منذ عصر التنوير في أوروبا، الذي عمل مفكروه على تعزيز حضوره الأخلاقي. بينما يكاد “اللاتسامح” يكون بعمر التاريخ الإنساني. وإذا كانت الصراعات بين البشر تدور حول الماء، والخبز، في العصور الأكثر قدما، فإنها اليوم تضيف إلى هذين العنصريين الحيويين في الحياة، عناصر أخرى، أهمها صراع الأفكار والعقائد.

ومن المؤسف أن لا تكون الثقافة بحسب ياكوبوتشي معياراً لأي من الفريقين. إذ لا ترتبط قيم التسامح بما إذا كان أحدنا مثقفاً أم لا. وما يحدث أحيانا هو العكس، حين تستخدم المعرفة التاريخية (في مثل الحجّاج)، لتسعير العداء، وإنتاج قيم اللاتسامح، والقطيعة.

وأكثر من يلجأ إلى العنف الكلامي أو الجسدي، هم أولئك الذين يؤمنون بأن القوة هي الطريقة الوحيدة لتطبيق القوانين. وفي العادة قلّما يهتمون بعدالة تلك القوانين، بل بقدرتها على خدمة أغراضهم ومصالحهم.

ولا يقتصر هذا الخطاب الدموي على لغة حوارنا، إذ يبدو أن لغة الحجّاج، إذا ما استعرنا المجاز هنا، تسود معظم العالم اليوم. وثمة من يحول الرغبات إلى أفعال، وخاصة حين نتأمل سلوك الدول الكبرى، مثل أميركا وروسيا، التي ينصرف قادتها إلى تشريع قوانين الموت والفناء، التي تفضي إلى تمجيد خصال الحرب، أكثر مما يعملون على خلق الفرص أمام الشعوب للتعاون والعمل المشترك للبقاء.

وإذا كان الحجّاج قد صبر على الرؤوس المخالفة إلى أن تنضج قبل أن يقطعها، فإن العالم يمتلئ اليوم بمن يرغبون في قطع تلك الرؤوس (الثمار) قبل أن تنضج، أو دون أن يسمحوا لغبار الطلع نفسه أن يتسلل إليها كي تكتمل.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى