صفحات العالم

للثورات أزماتها.. الطائفية والعنصرية والتحدي الديمقراطي

 


مروان العياصرة

ليست كل الثورات واحدة، لا في الأهداف ولا في المعطيات والتحديات، لكن ثمة قيمة لمقاربات بينية في ما يتعلق بالثورات العربية، وثمة أيضا من ذهب لأبعد من هذا، من حيث المقاربة مع التاريخ الاوروبي في ما يعود لثورات 1846 المعقدة حد اللاتوقع في كل نتاجاتها وفوضوية حراكها. والمقاربة ممكنة إلى حد ما، بخلاف ما لم يعتقده البعض من المحللين، حيث تخلى الاتحاد السوفييتي العملاق آنذاك عن دعم الدكتاتوريات المحلية في الدول الأوروبية، تماما كما اليوم تتخلى الولايات المتحدة الأمريكية عن حلفائها وربائبها الدكتاتوريين في الدول العربية، التي تقبض اليوم على جمر ثوراتها الشعبية. صحيح أن الثورات الاوروبية كانت نتيجة أحداث سياسية بحتة، والثورات العربية تتجه إحداثياتها إلى عقم الاقتصادات والسياسات، إلا أن الفكرة واحدة من حيث أن السياسة دائما لا دين لها.

تأتي النتائج دائما تبعا لأزمات الثورات، من حيث قدرة الفعل السلبي على توجيه الثورات أو إحباطها، في فرنسا التي كان المتظاهرون يطالبون بعودة الملكية لها، وألمانيا التي طالبت ثورتها بتوحيد كل الدول الناطقة بالإلمانية، لم تأت بنتائجها المتوقعة أو المفترضة لازمات داخلية عايشتها في لحظتها التاريخية تلك، ربما في وقت لاحق وطويل، بعد ربع قرن من تاريخ الثورات الأوروبية، في اللحظة التي اقتنصها بسمارك فأسس الرايخ الألماني الثاني، وأنجز هدف الثورة القديمة بالإمبراطورية الألمانية، أما الآن فما زال الوقت مبكرا جدا على أن نقول ان الثورات العربية حققت نتائجها أو فشلت، لكن هل تحقق الثورات العربية ولو بعد ربع قرن من الآن (الرايخ العربي المتحد) أو الدولة العربية المتحدة، اتكاء على تحرير الشعوب من الاستبدادية، والتوجه القيمي لديها نحو التوحيد للعالم العربي، لأنه منذ وعت الشعوب العربية على هذا الركام الهائل من التفكك والانقسام وهي تنادي بالوحدة، حتى أغوتها الأنظمة بوحدات مزيفة أو من قبيل مجالس مشتركة لعدد من الدول أو وحدات اقتصادية عربية أو تجارية، لا تعدو ان تكون مجرد وحدات هيكلية لتعظيم مصالح الأنظمة اولا، ولإلحاق الوهم بوعي الشعوب أن ثمة إطارا عمليا لوحدة عربية مشتركة وتعاون عربي ناجز.

بالتأكيد الثورات العربية لم تقم لمشروع الوحدة العربية كما قامت الثورة الألمانية، لكن ثمة حلم عربي يستقوي الآن باستقواء الشعوب على أنظمتها البائدة، وحين ألقت الثورة الألمانية بأحمالها من الأفكار والقيم العليا للشعب الألماني على كاهل الثقافة، واستطاعت هذه الثقافة أن تبقى تنتقل في وعي الأجيال المختلفة تحققت اهداف ثورتها وعاشت ألمانيا حلمها الإمبراطوري بالرايخ الألماني، واليوم هذه الثورات العربية، لا نستعجل أحلامها لأننا نؤمن بأن الثقافة العربية التي امتدت إلى الحاضر عبر الزمن الصعب، ما زالت تحمل أشواق الناس، لأنهم هم الذين يصنعونها بالتحدي والإرادة والإنجاز، ستحمل هذه الثقافة أهداف كل الثورات وستتحقق في لحظة قادمة، ولكننا لا نستعجلها حتى تنضج.

المشكلة الوحيدة التي تؤرق السؤال المعاصر هي (هل تصمد هذه الثورات في وجه التحديات الداخلية في كل دولة عربية..؟)، في العراق لم تكن ثورة بالصورة التي نعايشها اليوم، لكنها حالة مقاربة تعاني اليوم من إفرازات الاحتلال الأمريكـــي مثلما تعاني من حدية الخط الطائفي، تماماّ كما هو الحال في البحرين التي ارتفع فيها الصوت الــــطائفي حتى غلب على أي قيمة إصلاحية، وفي مصر أزمتها التي تحاول بعض الأيدي العابثة أن تصنعها من خلال إثارة فتنة الطائفيـــة الإسلامية المسيحــــية، كما هو الحال أيضا في العلاقة الحرجة بين مكونات الحالة الأردنية واللعبة التي مارســــتها الحكومات عبر تاريخها منذ إنشاء الدولة، وهي تحتفظ بها كورقة رابحة تطويها في لحظــــة ما وتفتحها لتقرأها من جديد على أسماع الناس لتذكرهم بأنهم ليسوا جسدا واحدا من خلال عبارة واحدة تتكرر (من شتى المنابت والأصول).

الحال العربية الوحيدة الأقرب إلى النظام الديمقراطي الحقيقي، التي ربما تسعى كل هذه الثورات إلى الوصول لمستواها في حال الممارسة الناضجة لها هي الحالة اللبنانية، التي تمارس السياسة في سياق واسع من الحرية والديمقراطية، وربما نقول انه إطار فضفاض لم يأت على مقاسها، فهي مع كل هذا الثراء الديمقراطي لم تصل لحالة من الاستقرار ترضي الشعب اللبناني بكل توجهاته وأيديولوجياته وطوائفه، لأن ثمة من أحسن توظيف التمايزات والمحاصصات لصالح الفوضى والعبث السياسي اللبناني وكل هذا التعثر في حكوماته المتعددة، وهنا أرق السؤال يعود من جديد (هل تصمد هذه الثورات أو هذه الاجيال التي تصنع الثورات أمام استحقاقات مرحلتها التاريخية بتجاوز كل ما هو أمامها من عثرات وعقبات كأداء، هل تستطيع مجتمعاتنا العربية وعلى مستوى الفرد العربي في كل دولة أن يمارس الديمقراطية والحرية بعد كل هذا التعطش لها، متجاوزا أو متحديا كل الخطوط الطائفية والعنصرية، والخط الديمقراطي أيضا وهو تحد بالفعل خطير ومرهق، ولعل المؤرخ الإسرائيلي توم سيغيف الذي قال في حوار له مع مجلة ‘دير شبيغل’ الألمانية، ان المجتمع الإسرائيلي وحكوماته تنظر إلى أنها يجب أن يبقى نموذجها الديمقراطي هو النموذج الديمقراطي الوحيد في الشرق الأوسط، وأن المحاولات الجارية في العالم العربي لتجاوز هذا النموذج وتحديه هو ما يقلقنا، يضيف بأن (الديمقراطية ليست جيدة في تلك البلدان العربية)، ربما لأنها تعاني من أزماتها الداخلية التي تستطيع أن تستعصي أمام أي تطبيق فعلي لأي نموذج ديمقراطي.

علينا جميعا، وعلى صانعي كل هذه الثورات الناجزة والقادمة أن يدركوا أن الثورات يجب ألا تقف عند حد الإطاحة بالدكتاتوريات وحسب، لأن ثمة دكتاتوريات قائمة بشكلها المعنوي وشخصياتها الاعتبارية في الطائفية والعنصرية والتحدي الديمقراطي أيضا، وهنا نعود لأهمية الإحالة الثقافية لأهداف الثورات، من خلال التبني الثـــــقافي لها كما فعلت تماما الثقافة الألمانية التي حققت حلم ثورتها، من خلال إعادة إنجاز دور أجيال الشباب في تعزيز وعيها وقيمها المعرفية وتقوية ثقافتها الجامعة لتصل هذه الأجيال إلى مشتركات فكرية وثقافية تستعصي أمام أي تحد طائفي أو عنصري أو ديمقراطي.

 

‘ كاتب أردني

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى