صفحات سوريةعمر قدور

عن الرحمة المطلوبة بين الثأر والتشبيح


عمر قدور

مع مطلع شهر آب الحالي ثارت ضجة كبيرة في أوساط الناشطين السوريين حول إعدام مجموعة من الشبيحة على أيدي الجيش الحر في مدينة حلب، من دون أن يقلل من مسؤولية الأخير إعلانه عن تسليم الشبيحة للأهالي المتضررين الذين بادروا إلى قتلهم. لقد ذهبت حساسية بعض النشطاء إلى تشبيه عملية القتل بالمجازر التي ارتكبها الشبيحة أنفسهم، ولم يفت مَن يريدون قول حق يراد به باطل أن يتباكوا على مآل الثورة باختزالها إلى عملية انتقام بشعة كهذه. هذا طبعاً بخلاف إعلام النظام الذي سيستغل الحادثة لتبرير مئات المجازر السابقة التي لم يتوانَ شبيحته عن ارتكابها، ولا ينتظرون مبرراً أو حجة لارتكابها أمثالها من جديد.

بدايةً، سيكون من الإنصاف النظر بإيجابية إلى مختلف ردود الأفعال الرافضة لإعدام الشبيحة على هذا النحو، فهذه دلالة وعي تحصّل عليه السوريون، أو حافظوا عليه، رغماً عن كل أصناف التنكيل الكفيلة بدفعهم إلى عتبات أخرى من الحساسية أو الوعي. غير أن إطلاق الأحكام الذي رافق الإدانة كان مستعجلاً حيناً، وينم عن خفّة فكرية حيناً آخر، ذلك إذا استثنينا التسييس الذي لا بد أن يتحكم بالأهواء جنباً إلى جنب مع الاعتبارات الأخلاقية، أو حتى أن يتغلب على تلك الاعتبارات. ولئلا نقع في التعميم، الذي قد لا يكون مدخلاً فكرياً جيداً، يجدر بنا مناقشة الأمر على طرفيه، أي كتائب الجيش الحر من جهة، والشبيحة المعنيين بالحادثة المذكورة من جهة أخرى.

تذهب كثير من التصريحات والأقوال أخيراً إلى مطالبة الجيش الحر باحترام الاتفاقيات الدولية المتعلقة خصوصاً بالأسرى، وتوحي المطالبات بوجودٍ ممأسس ومنتظم للجيش الحر، وحتى بوجود قواعد ثابتة يسيطر عليها، وبالتالي يستطيع إقامة مراكز احتجاز دائمة. لكن الوقائع على الأرض تشير إلى أن تسمية “الجيش الحر” هي تسمية فضفاضة يندرج تحتها عدد غير معروف من الكتائب والهيئات التي يملك كلّ منها استقلالية واسعة في اتخاذ القرار، وتكررت أخيراً المناسبات التي تضاربت فيها تصريحات قادة من هذا الجيش حول الأوضاع السياسية المستجدة في البلاد، ولا يخفى وجود تذمر لدى بعض القيادات الميدانية في الداخل من القيادات العليا في الخارج. في الواقع لا توجد هيئة عالية التنظيم تحتكر السلاح وتعمل بروح عسكرية منسجمة، على رغم بوادر التنسيق التي ظهرت أخيراً في الحملة التي قادها الجيش الحر للسيطرة على دمشق وحلب، فكتائب الجيش الحر تشكلَ جزء كبير منها بمبادرة ذاتية، وإذا كانت نواتها الأولى عناصر منشقة عن قوات النظام فإن تشكيلاتها لم تستقر أبداً حتى الآن، سواء على صعيد العدد أو على صعيد التركيبة التي تزايدت فيها نسبة الثوار المدنيين باطراد.

من جهة أخرى، يصعب وصف سيطرة الجيش الحر على بعض المناطق، مهما طالت، بأنها مستقرة ونهائية، فالمناطق التي يسيطر عليها تخضع بشكل متواصل لقصف عنيف من قوات النظام، ومهدّدة دائماً بوقوع دمار كبير وخسائر بشرية تُضطره إلى الانسحاب منها. في مثل هذه الظروف يصعب الحديث عن معاملة نموذجية للأسرى، ويبدو أن ذلك يخضع لاجتهادات ظرفية، فضلاً عن عدم وجود ضوابط واقعية تحكم معاملتهم في حرب العصابات. الأقرب إلى الموضوعية أن وجود الأسرى يرتّب عبئاً واقعياً وأخلاقياً على كتائب الجيش الحر، والإعلان عن وجودهم لديه لا يتعدى الكسب المعنوي العابر مقابلَ العبء المتواصل للحفاظ عليهم. ومن المعلوم أن غالبية هؤلاء الأسرى استسلموا في المعارك، وحافظوا على ولائهم للنظام بخلاف زملاء لهم استغلوا الاشتباكات لتنفيذ انشقاقهم، وتوجد نسبة ضئيلة ونوعية من الضباط أو العناصر الذين اختُطفوا لدورهم البارز في معارك النظام أو في التنكيل بالمدنيين.

اللافت والمؤثر على هذا الصعيد أن النظام يتجاهل أسراه تماماً، ولا يقيم أدنى وزن لحيواتهم، بل يفضّل استثمارهم المريح كقتلى على إضفاء أي نوع من الشرعية بمفاوضة آسريهم. هذا الوضع الشاذ يرتّب عبئاً إضافياً على الجيش الحر، إذ ليس منتَظراً في أي وقت الاستفادة من أولئك الأسرى، ووجودهم في حوزته يضعه تحت مجهر المسؤولية الأخلاقية عنهم في وقت يتناسى فيه الجميع مسؤولية نظامهم الذي لا يبادر إلى استردادهم وفق القواعد المتعارف عليها، وهو إلى ذلك لا يستطيع إلا أسرهم بحكم استسلامهم في المعركة. لقد اضطر الجيش الحر في بعض الحالات إلى الانسحاب تحت القصف الشديد، ولم يقم لحظتها بتصفية الأسرى، فكانت النتيجة أن ظهر هؤلاء على منابر النظام ليمعنوا في تشويه صورته، وليعاودوا خدمة النظام من دون حتى التفكر في أن قصف النظام لم يكن ليميز بينهم وبين أعدائهم.

لقد أعلن النظام بشكل رسمي أنه في حالة حرب، لكنه لا يلتزم واقعياً بأي من القواعد المعمول بها في الحروب، وهذا ينطبق على لامبالاته التامة وتجاهله لمَن يؤسر أو يُختَطف من قواته أو شبيحته بالقدر الذي ينطبق فيه على إبادته للمدنيين ومعاملته الوحشية للمعتقلين لديه، ذلك فضلاً عن عدم وجود جهة قانونية دولية تشرف على أوضاع الأسرى لدى طرفي النزاع. يتحلل النظام من كافة مسؤولياته الأخلاقية والقانونية، فتُرمى المسؤولية المضاعفة على عاتق خصومه، وإذا كان هؤلاء، بمَن فيهم الجيش الحر، يتنطعون أصلاً للمسؤولية الوطنية الشاملة فإنهم في حالة فريدة من نوعها بدؤوا بتحملها معنوياً، قبل انتصارهم وتحصلهم على الأدوات المادية اللازمة لممارستها. الثوار هم سلطة محتملة، أو سلطة مع وقف التنفيذ، وفي حالة المختطفين والأسرى مثلاً لا يملكون الصفة القانونية التي تشرّع لهم إقامة محاكم معترف بها وبأحكامها، ومن ثم كأن المطلوب منهم الاحتفاظ بأسراهم إلى أجل غير مسمى يتمكنون فيه من استلام السلطة، ونظراً للصعوبات التي تحول دون ذلك فقد تؤدي هذه الوضعية الشاذة إلى نهج يُقتل بموجبه الخصم فوراً بدلاً من تنكب المسؤولية الفادحة لاستسلامه. لم تقع حوادث من هذا القبيل حتى الآن، واقتصرت عمليات التصفية المعدودة على مُختطفين عُرفوا بمثابرتهم على قتل المدنيين والتنكيل بهم، وهي عمليات ثأرية بكل تأكيد، ولن تتغير هذه الصفة حتى لو تم إعدامهم بموجب محاكم ثورية ميدانية، لأن الأخيرة لا تحظى بدورها باعتراف قانوني. على العموم، إن تأخر الاعتراف الدولي بشرعية المعارضة، كشرعية بديلة عن النظام، يضعها في وضعية قانونية قلقة ما يمنع عنها امتيازات السلطة، وفي الوقت نفسه يرتب عليها مسؤوليات تفوق إمكانياتها الموضوعية.

ضمن المعطيات السابقة أتى إعدام شبيحة آل بري في حلب ليضيء على مخاوف جدية من نزوع ثأري ربما راح يتسلل إلى صفوف الثوار، وكان من اللافت تدني نسبة التعاطف لدى الناشطين العارفين بسيرة أولئك الشبيحة، الأمر الذي سيكون من الإنصاف أيضاً توضيحه، من دون أن يعني هذا تبريراً لعملية الإعدام. وسيكون التنويه واجباً بأن المقصود دائماً ليست عائلة بأكملها، إذ من المعلوم أن هناك ضابطاً من عائلة بري انشق عن قوات النظام لصالح الجيش الحر، ولا شك في وجود الكثير من المغلوبين على أمرهم في هذه العشيرة، وحتى في وجود الموالين الذين ينبغي أن تُصان حقوقهم السياسية. المسألة هنا تتعلق حصراً بالشبيحة وأفعالهم، قديمها وحديثها، ومن المتوقع في جانب منها أنها تتخطى الحدود إلى بعض دول الجوار ما يضعها في مرتبة الجنايات الدولية.

لم تبدأ ظاهرة شبيحة آل بري مع الثورة السورية، هذه قمة جبل الجليد وحسب، فسيرة هؤلاء الشبيحة تضيء على جانب من نهج الإفساد الذي اتبعه النظام منذ أربعة عقود، ولعل المفارقة الأولى تكمن في الاعتراف الصريح من قبل النظام بحضورهم وتكريسه بوصفهم عشيرة، أي أن النظام الذي يدعي الحداثة والتضاد مع العصبيات التقليدية لا يتورع عن استنفار العصبية العشائرية وتعزيزها بالسلاح خدمة لمآربه. مرة أخرى، لم يبدأ نهج النظام هذا مع الثورة، فعلاقة النظام بشبيحة آل بري تعود إلى عقود خلت، غض فيها الطرف عن أفعالهم الإجرامية، بل كان في موقع المتواطئ والمحرض عليها، ما أدى إلى وضعهم بمرتبة سلطة أعلى من القانون، وفشلت أغلب الدعاوى المقامة ضدهم في المحاكم، وحتى في الحالات التي صدرت فيها بعض الأحكام لم يُقيّض لها التنفيذ، فبقيت مجرد شاهد إضافي على سطوة تعلو على القانون، بل أصبحت هذه الأحكام التي لا يتم تنفيذها مصدر فخر لأولئك الشبيحة، الذين يستعرضون علناً قدرتهم على الإفلات من العقاب.

لسنا هنا أمام حالة عشائرية كما قد يُظن، فنحن أمام حالة تتكنى بها من دون أن تأخذ من صفاتها سوى العصبية مع تحلل من مجمل المنظومة الأخلاقية للعشائرية. في الواقع لا توجد عشائرية سورية مضادة للقانون على هذا النحو الحاد إلا بداعي الفساد، ولأن النظام نفسه هو الذي شجع هذا النمط من الخروج على القانون، ليؤسس لوجوده كسلطة خارجة على كل القوانين. إن أولى المفارقة تكمن في الحديث عن حالة من العشائرية في العاصمة الاقتصادية للبلاد “حلب”، حيث أمكن لهؤلاء الشبيحة بدعم مستمر من النظام أن يؤسسوا سيطرة مطلقة على بعض أحيائها، وأن يتحكموا بسكان تلك الأحياء دون أي رادع، ومن المعلوم للجميع أن ذلك لم يكن ليتحقق لهم في ظل نظام أمني شديد الصرامة لولا تواطؤه معهم.

على ذلك لم تبدأ مشكلة أهالي حلب أيضاً مع الشبيحة ببدء الثورة، فهم عانوا طويلاً من تجاوزاتهم بما فيها التجاوز على أملاك الغير، وبما فيها الهيمنة غير القانونية على بعض أوجه النشاط الاقتصادي. إلا أن الحقل الأكثر ربحية ودماراً، وهو الحقل المفضّل للشبيحة، كان في النشاطات غير القانونية أصلاً، والتي تركزت على مختلف أنواع التهريب وفي مقدمتها تجارة المخدرات. يعلم الأهالي جيداً أن هؤلاء الشبيحة هم المسؤولون الحصريون عن تجارة المخدرات في المدينة، ويتخذون منها مركزاً للتوزيع والعبور، فجزء من المخدرات القادمة من لبنان بالتعاون مع المافيات الشقيقة يتم توزيعها في المدينة، مع ما يعنيه هذا من دمار للمدمنين والموزعين الصغار، والجزء الآخر يتم تهريبه إلى دول الخليج، تحت واجهة تصدير الأغنام، لذا كان احتكار تصدير الأغنام واحداً من النشاطات التي يتمسك بها الشبيحة بقوة.

لقد جعل الشبيحة من الأحياء التي يتحكمون بها مرتعاً لكافة الموبقات، فكانوا الشركاء المحليين لأنشطة مدمرة على المستوى المحلي والإقليمي، وأثروا على نحو فاحش من تجارتي المخدرات وتزييف الدولارات، وبوسع الكثيرين تخمين الامتدادات الإقليمية لهاتين التجارتين والجهات المتورطة والفاعلة بهما، وبوسع الأخوة اللبنانيين خصوصاً أن يخمنوا طبيعة هذه الشبكة وامتداداتها في السلطة لما عانوه على هذا الصعيد. إن واحداً من أوجه الصفاقة والانحطاط الأخلاقي للنظام يتجلى في إشهار هذه الشراكة، إذ رعى حضور ممثل عن أولئك الشبيحة تحت القبة البرلمانية، وعندما تنافس اثنان منهم على المقعد في إحدى السنوات استرضاهم النظام بفوز الاثنين بعضوية البرلمان، وكان مفهوماً على نطاق واسع أن سعي الشبيحة للعضوية يتعلق أساساً بالمكاسب المحتملة للحصانة البرلمانية لا أكثر.

ثمة فساد وانحطاط أخلاقي شامل تم التأسيس له بشكل حثيث، لذا أتى دفاع الشبيحة عن النظام دفاعاً ضارياً عن مكتسبات سيتم فقدانها بسقوطه، أي بسقوط الشركاء والمتواطئين، فالمسألة هنا ليست في إطار الانحياز السياسي بقدر ما تذهب إلى التشارك الحقيقي مع البنية الجوهرية للنظام؛ بنية المافيا إن صحّ لهم شرف هذا التشبيه!. الشبيح ليس مجرد شخص يقتل دفاعاً عن النظام، هذه هي المحصلة فقط لتاريخ ممتد من الجريمة، ولا يخرج عن هذا السياق ما بات معهوداً من أعمال السلب والنهب التي يمارسها الشبيحة بإشراف النظام، بعد قيام قواته بتدمير المناطق الثائرة وتهجير أهاليها، فالسلب والنهب لا يخرجان عن المنظومة المؤسِّسة للتشبيح، كل ما في الأمر أن ما كان يُمارس تحت ستار من الفساد الاقتصادي أصبح يُمارس بوقاحة للتعويض عن عائدات الأنشطة التي تضررت، والمهددة بالفقدان التام، بفعل الثورة.

يستحق الشبيحة محاكمة، لا تكون غايتها العدالة أو القصاص فقط، إذ من المتوقع من هكذا محاكمة أن تكشف عن الفظائع التاريخية التي ارتكبوها بإشراف النظام، ومن المتوقع أيضاً أن تكشف محاكمة الكبار منهم عن الامتدادات الإقليمية وعن شركائهم خارج الحدود. لذا قد يكون قتلهم على نحو ما جرى فعلاً مرفوضاً من الناحية السياسية أيضاً، لكن الثأر منهم لا يقع أبداً في خانة ما ارتكبوه هم، لأن التشبيح كما أسلفنا لا ينصرف إلى القتل وحسب، وقد يكون مفهوماً من الناحية الإنسانية أن أي قتيل يأخذ تلقائياً موقع المستضعف فيحظى بالتعاطف؛ هذا لا ينبغي أن يحوّل الجلاد إلى موقع الضحية، ولا أن يغيّب مظالم الضحايا الحقيقيين، وبالتأكيد ينبغي لمثل هذا الفعل ألا يتكرر فيؤسس لمشروعية الثأر.

الرحمة أيضاً ينبغي ألا تتوقف عند حد الانفعال بحدث ما، فالمطلوب في الحالة السورية أن تتسع الرحمة أحياناً لتشمل القاتل والقتيل، ولا بأس هنا في أن يطال جزء منها أولئك الذين نفذوا عملية قتل الشبيحة. هذا ضروري جداً من أجل سوريا المستقبل، وليس من أجل تبرير فعلتهم، فبعد سقوط النظام سنضطر للنظر بعين الرحمة نفسها إلى الأفعال التي قام بها صغار الشبيحة، وهؤلاء يُعدون بآلاف ليست قليلة، وقد يكون من لوازم السلم الأهلي التسامح مع عدد كبير منهم. الرحمة أعلى من العدل؛ هذا ما يقوله بعض الحقوقيين، ولعله يكون مدعاة لخلخلة الكثير من أحكامنا الصارمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى