صفحات العالم

دويلتان كرديّتان على حدود تركيا… من سيمنع الثالثة؟/ جهاد الزين

وصل مسعود البارازاني رئيس “الدولة” الكردية الأولى شبه المستقلة يوم السبت المنصرم إلى ديار بكر المدينة ذات الأغلبية الكردية في جنوب شرق تركيا… وصل للقاء رئيس الوزراء التركي رجب طيّب أردوغان مرتدياً الزيَّ الكردي التقليدي. لم يكن ممكناً تصورُ هذا المشهد قبل سنواتٍ قليلة بل حتى قبل عام.

مسعود البارازاني لا يأتي فقط إلى ديار بكر رئيسا فعليا لـ”الدويلة” الكردية التي قضّ كابوسُها مضاجعَ النخبة الحاكمة التركية على مدى عقود بل أيضا يأتي متباهيا بهويّته الكردية إلى المدينة الأكبر في “كردستان تركيا”.

صحيح أن البارازاني يأتي في لحظة سياسية في الداخل التركي أُريد منها دعم رجب طيّب أردوغان وحزبه “العدالة والتنمية” (AKP) ضد الزعيم السجين عبدالله أوجلان وحزبه “العمال الكردي” (PKK) غير أن الدلالة الأعمق الأولى للمشهد هي الموقع المتقدّم الذي حقّقته المسألة الكردية. كان في المشهد ضعفٌ ما للوطنية التركية وقوّة أكيدة للوطنية الكردية. في ديار بكر كان مشهد البارازاني بعمامته وسرواله الفولكلوريّين المستحيل أن يظهر بهما حتى اليوم في مدينة مثل أنقرة واسطنبول يعلن أن الرقم الكردي أصبح حقيقة راسخة في المنطقة حتى بالنسبة لتركيا الدولة الأكثر حساسية وجودية تقليديا حيال الهوية الكردية. وإذا كان لذاكرة التجربة الشخصية العيانية من معنى فإني شخصيا كمتابع مزمن لهذا الموضوع لا أتذكّر أنني شاهدت في تركيا سياسيا أو ناشطا كرديا (وحتى كرديا عاديا؟) من ديار بكر إلى اسطنبول يرتدي الزي الفولكلوري الكردي باستثناء مرة واحدة عام 1995 في حفل زواج كانت تقيمه عائلات تركية في الخان التاريخي – الفندق الذي كنتُ أقيم فيه في ديار بكر، بينما كان مشهد الأكراد العاديين في ردائهم التقليدي هذا مشهدا شائعا في بغداد وسائدا في أربيل وكركوك حتى في عز أيام حزب البعث في السبعينات والثمانينات.

يبني رجب طيّب أردوغان سياسة اقتصادية ناجحة مع إقليم كردستان العراق في إطار ما يصبح أكثر فأكثر نوعا من التحالف السياسي مع البارازاني. ويفهم قادة أكراد العراق أن أحد أثمان تعويد النخبة السياسية التركية على الحقيقة الكردية الجديدة في المنطقة المتمثّلة بوجود دولة كردية هو الثمن الاقتصادي سواء في النفط أو في الاستثمارات أو في التجارة.

لكن هذه المعادلة كانت مُقْنِعة للبورجوازية التركية المتلهّفة لأسواق جديدة وحتى مُقْنِعة لفئة معتدلة من النخبة الأتاتوركية التقليدية من حيث أن قبول دولة كردية خارج تركيا يمكن أن يكون حلا مقبولا للأتراك يتلافى خطر انفصالية كردية داخل تركيا.

الانفجار السوري غيّر المعطيات بما فيها الكردية لاسيما أن رجب طيّب أردوغان انخرط فيه انخراطا متطرّفا. واليوم بدأ أردوغان يكتشف خطر المغامرة التي دخل فيها وهو لم يكن يعتقد أنها مغامرة إلى أن بدأ اكتشاف التداعيات وتحديدا في المجال الكردي. ليس فقط من حيث الزخم الكبير الذي اندفعت فيه المسألة الكردية داخل تركيا مما جعل السجين الكردي أوجلان هو “السجّان” السياسي الفعلي لأردوغان في الملف الكردي إلى حد “استدعاء” أردوغان للبارازاني إلى ديار بكر كحليف يدعمه ضد أوجلان بسبب التباينات السياسية والجغرافية والطبقية لكل من هاتين الزعامتين الكرديّتين… ليس هذا فقط بل أيضا في ظهور الورقة الكردية الخطرة في سوريا والتي جعلت أردوغان وجميع المتابعين “يكتشفون” أن الحدود السورية مع تركيا هي حدود كردية في الديموغرافيا وامتداد لنفوذ “حزب العمال” وأوجلان في السياسة، ومؤخّرا ولادة “دويلة” أمر واقع ثانية لمنطقة “غرب كردستان” كما بات جميع الأكراد يسمّون مناطقهم في سوريا.

لا يستطيع أحدٌ أن يدير الجحيم بدون مفاجآت. إحدى أكبر مفاجآت الخراب السوري التي اكتشفها أردوغان أن حدوده التي اعتقد أنها منْفَذه لسياسة عربية فاعلة وغير مسبوقة باتت تضم اليوم دويلتين كرديّتين في جنوب شرق بلاده وفي جنوب غربها أيضا (سوريا والعراق).

هكذا، عدا الانهيار “الإخواني” في مصر والحساسية المذهبية الشيعية المستنفَرة ضد سياسته والتي حاول وزير خارجيّته التخفيف منها بزيارته إلى بغداد والنجف، عدا ذلك صارت “منافذُه” العربية السابقة مرتعا لدولتين كرديتين قائمتين ولدولة ثالثة من الصعب إقناع الوطنيّين الأتراك التقليديّين أنها ليست آتية داخل تركيا خلال عقد من الزمن إذا واصل أردوغان “التراجع” أمام المطالب الكردية الداخلية.

لا استطاع أردوغان أن يقنع النخب التركية أن ما يفعله في المسألة الكردية داخل تركيا هو جزء لا يتجزّأ من الحزمة الديموقراطية للإصلاح السياسي المطلوب، ولا استطاع إقناع أصحاب العلاقة – أي عبدالله أوجلان وحزبه الذي عاد يفكّر بتجديد العمليات العسكرية – بجوهرية تلبيته للمطالب الكردية… ولهذا يبدو لي أن أردوغان ذا الشعبية الشعبوية الكبيرة والأكثروية انتخابيا دخل موضوعيا مع تركيا في حالة هروب إلى الأمام في الموضوع الكردي.

لكن خرائط المنطقة يُعاد رسمُها – على الأقل يُعاد التدقيق فيها – ولا تستطيع المناورات وحدها ولا سيما اللعب على التناقضات بين البنية العائلية للقيادة الكردية العراقية وبنية الطبقة الوسطى للقيادة الكردية في تركيا ومصالحهما المناطقية المتباينة، لا تستطيع أن تعالج وحدها مخاضاً عميقاً يشمل كلَّ المنطقة. إنها المنطقة التي جعلت خرائطُها السياديّةُ الحركاتِ الكرديةَ حركاتٍ بالضرورة انفصالية في أربع دول في المنطقة: تركيا، إيران، العراق، سوريا.

مِنْ لا دولة على مدى سبعين عاما ونيّف… تُفرّخ الدويلات الكردية حاليا بشكل متواصل!

التاريخ بات ينتقم بعشوائية من الجيوبوليتيك في منطقتنا… ولإعادة النصاب بهدف “عقلنة” التغيير بات تغييرٌ ما، في جملة متغيِّرات عديدة، مطلوبا في أنقرة. شباب “ساحة تقسيم” ومثقّفوها أعلنوا ذلك مثلما تعلن الأقليةُ الطليعية عدم كفاءة القوة الأكثرية… أعلنوه حتى لو كانت المسألة الكردية بندا من بنود متعدّدة، وليست وحدها، على أجندتهم.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى