صفحات المستقبل

رسالة الى ثائر سوري

 

عبد الستّار اللاز

  عندما صدح صوتك في ذلك الزقاق القريب من الجامع الاموي بعبارة “الشعب السوري ما بينذل”، أحببت ان اصدق ان نسائم الربيع هبت اخيرا على الشام، لكنني بقيت متوجسا ومسكونا بشعور من عدم تصديق جدية ما حصل ومن عدم الثقة بالمدى الذي يمكن ان تبلغه تلك الصرخة. اليوم، وبعد مرور عامين كاملين، أرى ان من حقك علي ان اعتذر.

عدم التصديق كان مرده اعتقاد راسخ، بينت الايام خطأه، ان السنوات الاربعين التي احتل خلالها البعث سوريا وما زرعه في مجتمعها من خوف وقهر وما الحقه فيها من خراب، جعلتك مقيما في حال من الاستكانة لا قدرة لك على الخروج منها، وانك- ان اردت الخروج- حالت بينك وبين ذلك قلة معرفة وضعف مراس في اي نوع من انواع الحراك الشعبي الجدي فرضهما زمن مديد من الصمت وغياب السياسة.

اما عدم الثقة فعائد الى خوف عليك من بطش اولئك الذين عرفناهم وخبرناهم، في لبنان وسوريا، متخصصين بارعين في اقفال اي منفذ يمكن ان يدخل منه هواء نقي الى فضائهم العفن، اليوم وغدا والى الابد.

لكنني اعترف انك علمتني ، وبسرعة فائقة، ان سباتك الظاهر لم يكن ابديا وان الخوف عليك ليس في محله.. لذلك وجب علي الاعتذار.

تابعتك خطوة خطوة في ما رحت تفعل في درعا ثم في حمص وبانياس وحماه وادلب ودمشق وحلب وفي كل مدن سوريا واريافها ، وتنقله الينا لحظة بلحظة بطرائق خلاقة ومدهشة. سمعت اهازيج ابراهيم القاشوش امام عشرات الالاف فلم اصدق ان ذلك يحصل في قلب حماه، وصرت كما كثيرين غيري اعيش على ايقاع ايام الجمع المتعاقبة أرصد عدد التظاهرات وانصت الى الشعارات واحفظ اسماء قرى واحياء فقيرة صارت فجأة عناوين جميلة صارخة. رأيتك في المسيرات ترفع يديك العاريتين، تقفز خفيفا في الهواء، وتهتف بأحلى الكلام مطالبا باستعادة ما حجب عنك قسرا بغير وجه حق.

ثم بدأت أصغي اليك بتمعن وانت تعلن ثورتك من على كل المنابر والشاشات. رأيت وجوها لم اكن اعرفها، أفقدها الاعتقال المديد والمنفى أي بريق، فبدت وكأنها خارجة من اللامكان الى ساحة تعارف غريبة. وصارت تتردد على مسامعي اسماء أعرف بعضها وأجهل معظمها، راح اصحابها يعرضون قضيتهم بطلاقة وغزارة وعمق تناقض الصمت المديد الذي اعتقد فارضوه انه يلغي القدرة على الكلام.. الى الابد.

بعدها رأيتك في البزة العسكرية تمتشق سلاح الدفاع عن النفس. تنظم صفوفك وتتقدم بامكانات ضئيلة. تكر وتفر. تسقط ثم تقف بشجاعة، وتنجح في تحرير مساحات شاسعة من ارضك من الاحتلال الاسدي. نتيجة هذا كله، تيقنت من انني لم أكن أعرفك وانني الآن، والآن فقط، أعيد اكتشافك. فوجئت من حجم جهلي بك وبكفاءتك وبقدرتك ، بل وشعرت بالخجل من لحظة نفور منك غير مبررة أعترف أن ممارسات جيش طاغية الشام نجحت في إشاعتها في بلدي.. لذلك وجب علي الاعتذار.

وبما انني اتحدث عن لبنان، اجد من الضرورة التوقف عند امرين فاضحين يندى لهما الجبين. الأول هو اصرار قوة لبنانية تمثل طائفة كبرى، كان لها في ما مضى شرف حمل لواء مقاومة العدوان والظلم، على تغطية العدوان والظلم اللذين يتعرض لهما الشعب السوري بل وزرع بذور كراهية مستقبلية معه بعد الولوغ في دمه بذرائع غير مقنعة ودفاعا عن نظام ساقط. أما الفضيحة الثانية، فهي هذا القدر العالي من الكلام العنصري الذي صدر عن بعض المسؤولين اللبنانيين وفئات من المجتمع اللبناني تجاه المدنيين السوريين الذين فروا بانفسهم من الجحيم والتجأوا الى لبنان حيث يعيش معظمهم في ظروف بائسة لا يقلل من قسوتها ما تبذله ادارات الدولة بامكاناتها الضعيفة او بعض القوى السياسية او قوى المجتمع المدني. انه فحيح يصدر عن اصحاب نفوس مريضة وعن عقول نخرتها جرثومة انعزالية سببت منذ زمن بعيد احد تشوهات الجسم اللبناني. أمام هاتين الفضيحتين ارى من واجبي مرة اخرى.. الاعتذار.

عامان كاملان مرا على انطلاقة الثورة السورية سال خلالهما دم كثير ودمرت سوريا من اقصاها الى اقصاها على يد من يفترض انهم حماتها. تغير المشهد مرات عدة وهو معرض بالتاكيد لمزيد من التغيير. خفتت اصوات كانت مرتفعة وسقطت أوهام كثيرة علقت على قوى خبيثة. تغيرت تحالفات وتبدلت لهجات. قيل كلام كثير وسيقال كلام اكثر، لكن الكلمة الفصل ستبقى لك وحدك.

انت حمزة الخطيب، وانت طل الملوحي، وانت عبد العزيز الخير. انت مئات الاف الشهداء والمعتقلين والنازحين، وانت الارامل  والثكالى والايتام. انت جيش المقاتلين الاحرار الذي فتح طريقا في اتجاه واحد نحو ما يريده السوريون.

ولأنني تعلمت منك الكثير خلال هذين العامين صرت متأكدا انك في النهاية ستصل الى مبتغاك لا محالة. لذلك اشد على يدك وأعتذر مرة اخرى لتقصيري وقلة حيلتي وعدم قدرتي على ان أقدم لك شيئا سوى.. الاعتذار.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى