مراجعات كتب

«الحركات والأحزاب الإسلامية وفهم الآخر» لصالح زهر الدين: كل «آخر» عدو وما المحاولات التوفيقية إلا تجسيد لمأزق حضاري/ محمد عبد الرحيم

 

 

لم تأت الأديان الإبراهيمية إلا وتأسس معها بدرجة أو أخرى مفهوم يقترب من العنصرية إلى حدٍ كبير، بداية من تقسيم المؤمنين والكُفار، وصولاً إلى نفي أي آخر يتعارض وأصحاب هذه الديانات.

ولم يكن الإسلام بعيداً عن هذه الفكرة، خاصة وأنه نشأ في أحضان بيئة تتباهى بالتعالي الواهي. وما آيات القرآن وتقسيماتها ما بين مكي ومدني إلا سجل كاشف عن هذه النظرة. فمن الممكن الاستناد إلى الآخر والترحيب به والتعايش معه في مرحلة الضعف ــ المرحلة المكية ــ أما وقد استتب الأمر، فلا وجود لآخر، بل العمل على تهميشه ونفيه والقضاء عليه. وبما أن الإسلام نشأ سياسياً بالأساس، فقد انتقلت هذه الآفة إلى المناخ السياسي والفكري، فأصبح كل مُعارض آخر، يجب التخلص منه بأي طريقة. وما حركات المصلحين في ما بعد إلا محاولة عقلية للنظر في تراث خطر، بهدف تهذيبه وإضفاء مسحة إنسانية تحاول تلمّس بعض من سمات الحضارة، مع ملاحظة أن هذه النظرة الإصلاحية جاءت في وقت ضعف واضمحلال ما جرى على تسميته بالحضارة الإسلامية. هذه المفاهيم وغيرها يناقشها الباحث والمؤرخ اللبناني صالح زهر الدين في مؤلفه «الحركات والأحزاب الإسلامية وفهم الآخر»، محاولاً تقصّي طبيعة وأشكال العلاقة بين الحركات والأحزاب الإسلامية وبين الآخر، مُتتبعاً وفق منهج تاريخي وجغرافي مصطلح هذا «الآخر» بداية من نشوء الإسلام، وقبل تحوله إلى دولة ذات كيان ديني وسياسي في المقام الأول. الكتاب من إصدارات دار الساقي، وجاء في 696 صفحة من القطع الكبير.

الآخر في فكر مُحَمّد

يبدأ الكاتب مؤلفه بالبعثة المحمدية، ونتائجها على الجزيرة العربية، وبالتالي إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية بين ساكنيها. فقد جمع مُحمّد بين السلطة الدينية والسياسية، وأسس لمبادئ عدة كالحرية والمساواة والشورى ــ في ما لم يأت به نص ــ كما اعترف بأصحاب الديانات السماوية كاليهودية والمسيحية، خاصة الأولى التي كان لها وجود وأثر ملموس في جزيرة العرب، على الأخص في «يثرب» التي تأسست بها دولة الإسلام، والتي عُرفت في ما بعد باسم «المدينة المنوّرة». فمن خلال الآية الكريمة «لا إكراه في الدين» أصبح لأصحاب الديانة المختلفة الحق في التعايش مع المسلمين، خاصة اليهود، الذين لم يقبلوا بنبوّته، لكنهم قبلوا به كقائد وحاكم للدولة، وهو ما لم يتناف والنظرة المحمدية في ذاك الوقت. كما أن مبدأ الشورى الذي تأسس، والذي يُعد من أسمى مبادئ الإسلام كان أمراً جديداً على المجتمع الجاهلي، خاصة أن الذي يطبقه رجل جمع بين يديه السلطتين الزمنية والدينية المطلقة. لكن مبدأ الشورى كان قاصراً على أصحاب مُحمّد المقربين والمختارين بعناية فائقة ــ أغلبيتهم من قريش ــ بخلاف أخذ الرأي حول مكان حفر الخندق، أو مسألة تأبير النخل وقوله «أنتم أدرى بشؤون دنياكم». فهي حوادث متفرقة.

بناء الدولة الإسلامية والحفاظ على هويتها

كان لابد من استئصال الوجود اليهودي من شبه الجزيرة العربية، حتى يتم صهر الجميع خلال تكوين اجتماعي جديد وموّحَد، وكان لابد من تنقية هذا الكيان، حتى تولد جماعة سياسية غير تعددية تطمئن إلى رابطها الديني المشترك. أما التحالف المبدئي مع اليهود فكان بداية لميلاد السياسة في الإسلام، فلا يجب أن ننسى أن الإسلام كان ضعيفاً وقتها، ولم يستتب له الأمر بعد. هذا في ما يخص اليهود، أما القبائل العربية، المشتهرة بالمباهاة والتفاخر بالأنساب، فكانت بالفعل من أقوى المشكلات التي واجهها النبي، فجاءت الآية الكريمة «إن أكرمكم عند الله أتقاكم» حتى تحد من هذه العصبية، التي كانت تقضي على أي تجمّع وكيان سياسي له قيمة ووزن. إلا أن هذه العصبية لم تخمد تماماً في زمن الرسول، نستطيع القول إنها توارت فقط، ثم بدأت في الظهور فور انقضاء عصر النبوّة.

الحاكمية وولاية الفقيه

يعتبر كل من مفهومي «الحاكمية» و»ولاية الفقيه» من أكثر المفاهيم التي صبغت حركات الإسلام السياسي. فالدولة في الإسلام منذ نشأتها لم ينفصم فيها الديني عن السياسي، قد يتغلب أحدهما على الآخر تارة، لكنهما تزامنا تحقيقاً لهدف فرض وجهة النظر الواحدة، ورؤية العالم من منظور وحيد، هو منظور السُلطة الحاكمة وتجلياتها في مختلف الأنشطة والعلاقات الاجتماعية. فالقول بفصل الدين عن الدولة أمر لا يستطيع تصوره المتأسلم، وإن أقر بذلك فهو على سبيل المهادنة، حتى تصبح الفرصة مواتية لتحقيق هدفه النهائي وهو الوصول إلى السُلطة.

مفهوم الحاكمية عند أبي الأعلى المودودي

لم يأت مصطلح «الحاكمية» في القرآن أو السنة، أو حتى المصادر الفقهية الأولى، لذا لم يكن له وجود بين مسلمي العرب قبل النصف الثاني من القرن العشرين، حيث يرجع ابتكاره إلى الداعية الباكستاني «أبي الأعلى المودودي»، أما «سيد قطب» فقام بتعريب أفكار الأول وتبنيها ونشرها في العالم العربي. فالمودودي هو الأب التاريخي لفكرة الحاكمية، بينما سيد قطب هو الأب الفكري لها.

بيئة المودودي فرضت عليه حرباً شرسة ضد القومية الهندية، والدولة الديمقراطية والعلمانية، فالاستعمار والأغلبية الهندوسية وحملات التغريب التي تعمل على تذويب الشخصية الإسلامية في الهند، جعلت الرجل ينادي بالانفصال عن الهند وإقامة دولة إسلامية. فبدأ باستخدام مصطلحين متقابلين لا يتفقان هما.. «الجاهلية الجديدة» و»الحاكمية لله»، وأسس حركته المعروفة بالـ»الجماعة الإسلامية» عام 1941. ويرى .. «أن الدولة الإسلامية تقوم على أساس هو حاكمية الله الواحد الأحد، فالأمر والتشريع يختص به الله وحده، وليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو شعب، أو حتى نوع بشري شيء من سلطة الأمر والتشريع … كما ليس لأحد ولو كان نبياً أن يأمر وينهى، من غير أن تكون له سلطة من الله».

ومن هذه الحاكمية نجد.. حاكمية قانونية/التشريع، وهي لله وحده، والرسول ممثلها الأوحد، وأخرى سياسية لله أيضاً، إلا أن الأمه تنوب عنه في الخلافة. فهي في كل الأحوال ليست مطلقة، فجميع السلطات من البداية منزوعة من أيدي البشر، وسقف الديمقراطية تحده وترسم ملامحه حاكمية الله المطلقة.

الجاهلية

ووفق فكر المودودي فالمجتمعات التي لا تطبق الحاكمية الإلهية وتطبيقاتها على جميع الأنشطة الاجتماعية، هي مجتمعات جاهلية. وبالتالي ينفي المودودي الإسلام عن 99% من المسلمين. من دون أن يتطرق لمصطلح «التكفير» صراحة. كما يرفض ما يسمى بالحضارة الإسلامية، لأنها قامت في غير بلاد العرب، ولا دخل للإسلام فيها ــ ربما صدق الرجل في هذه العبارة من دون أن يقصد ــ وبالتالي … فدولة المودودي هي دولة معيارها العقيدة، وكل مَن يرتضي العيش فيها يجب أن يخضع لهذه العقيدة، وإلا تم اعتباره (آخر) ــ لا يعترف المودودي بالعرقية والقومية، والآخر هنا يُعامل كالذمّي، ولا يحق له تولي المناصب في الدولة ــ لاحظ أن الآخر في الغالب يعد مسلماً، لكن المودودي يحتسبه عند الله من الجاهليين ــ والبشر وفق المودودي إما أتباع الله أو أتباع الشيطان.

الحاكمية عند سيد قطب

الحاكمية عند سيد قطب هي «أخص خصائص الألوهية»، كما أن الجاهلية هي «الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وإسناد الحاكمية للبشر». وبالتالي «فالحُكم الذي مَرَدّ الأمر فيه للبشر (التصورات/الشرائع/القوانين/أنظمة الحُكم) بمعزل عن منهج الله، هو اعتداء على سلطان الله». كان لسجن سيد قطب في عهد عبد الناصر 1954/1964 أكبر الأثر على بلورة أفكاره التكفيرية، حتى وصل به الأمر ونفى عن الأمة المصرية الصفة الإسلامية، وقام بتكفيرها.

من تكفير الدولة إلى تكفير الأمة

لم يتوقف سيد قطب كما المودودي عند تجهيل الدولة، بل امتد به الأمر إلى تجهيل وتكفير الأمة كلها، فيقول «يرفض الإسلام بإسلامية هذه المجتمعات.. وإن صلّت وصامت وحجت البيت الحرام، ولو أقرّت بوجود الله .. فليس الناس مسلمين ــ كما يدّعون ــ وهم يحيون حياة الجاهلية.. والدعوة اليوم إنما تقوم لترد هؤلاء الجاهليين إلى الإسلام». فالمجتمع يكون مسلماً بمقدار خضوعه للحاكمية، وإن فعلوا غير ذلك فهي الجاهلية، ويصبح المجتمع دار حرب وكُفر، بغض النظر عن الدين الذي يعتنقه أفراده.

دعوة اللاعقل

نختتم مناقشة مفهوم الحاكمية بعبارات للمفكر الراحل جمال البنا، إذ يعلق على هذا المصطلح قائلاً «لم أجد في كتاب معالم في الطريق بأسره إشارة واحدة إلى العقل .. وهي سمة يتسم بها دعاة الحاكمية الإلهية.. ولو انتصرت دعوة سيد قطب لأوجدت أسوأ الطغاة الذين يفرضون ضيق الأفق والغباء والتعصب واللاعقل على الناس جميعاً».

ولاية الفقيه

تستند فكرة ولاية الفقيه إلى تراث شيعي، بلورها الخميني في كتابه عن الحكومة الإسلامية. وبانتصار الثورة الإيرانية عام 1979 انتقلت الفكرة من حيز الفقه إلى حيز الاعتقاد، أي من الفروع إلى أصول العقيدة. أي من النطاق البشري إلى الإلهي.

المفهوم وتجلياته

مصدر الولاية هو الله وحده لا شريك له، وقد منح الولاية إلى الأنبياء ثم الأوصياء وصولاً إلى الفقهاء. وتتطابق ولاية الفقيه وولاية الإمام المعصوم، أي المهدي المنتظَر، وحتى يأتي فالفقهاء هم الحكام في زمان الغيبة والنواب للأئمة. إلا أن البعض حاول حل إشكالية فقهاء الشيعة باصرارهم عدم جواز مداخلة الأمة في حق اٌلإقامة، فمن الممكن أن يكون للأمة حق ولاية نفسها في زمن الغيبة. إلا أن الخميني ينطلق من مبدأ الولاية المطلقة للفقيه لتأسيس دولة دينية شيعية، وهذا يعني دعوة صريحة إلى الشيعة لإنهاء عصر انتظار الإمام المعصوم الغائب، والشروع في إقامة الدولة والحكومة الإسلامية.

سُلطة الفقيه

يؤكد الخميني أن «سلطة الفقيه سلطة إلهية كسلطة النبي والإمام، وهي سلطة مأمور بها شرعاً، ويتعين على الفقهاء الاضطلاع بها، لأنها انصياع لأمر الله، وأداء للوظيفة الشرعية الواجبة». فأصولية الخميني هي الوريث الشرعي لأصولية الشيعة الإمامية. فلا حاجة لأي نوع لقوانين صادرة عن عقل بشري ــ المنطق الحاكمي نفسه ــ إلا أن الخلاف بين الحاكمية وولاية الفقيه يكمن في أن الأولى تكون للخليفة الذي يختاره أهل الحل والعقد من المسلمين، بينما الثانية ترى الحاكمية للإمام ثم للفقيه. وإن كانت الحاكمية ابتكاراً للمودودي، فولاية الفقيه ابتكاراً للخميني.

محاولات التوفيق

وتأويل النصوص

رفاعة الطهطاوي

يعد الطهطاوي الأب الشرعي للفكر المصري الحديث، وحاول أن يكون حلقة الوصل بين الشرق والغرب، بهدف كسر جدار العزلة بين العالمين الشاسعين، فبخلاف الترجمة، تناول العديد من القضايا التي نبّهت الكثيرين، كالمساواة أمام القانون ــ نحن نتحدث عن عهد محمد علي ــ كما أشار إلى وجوب اعتماد «المواطنة» بغض النظر عن الجنس والعرق والدين واللون، فالمواطنة هي السبيل الوحيد لبناء مجتمع متماسك. يرى الطهطاوي أن اختلاف الأديان والعقائد مردّه إلى الله، وكل من يحول دون أن تمارس الطوائف غير الإسلامية شعائرها وطقوسها بحرية مطلقة، فإنما بذلك يعترض على إرادة الله ومشيئته.

محمد عبده

الإمام محمد عبده من رواد المدنية والتنوير والإصلاح، وله عظيم الأثر في عدة أجيال حاولت البحث عن الحقيقة فقط. فمشروعه الإصلاحي يستند بالأساس إلى العقل، وبالتالي نبذ البدع والمذاهب، وأوجب تفسير القرآن وفق مقتضيات العصر ومستلزماته. فمشروعه يعتمد على تحرير الفكر من التقليد وإعمال العقل في النقد والبناء الجديد. وكما نبذ المذهبية، نبذ الطائفية، واعتمد مدنية السلطة ومفهوم المواطنة، فجوهر فكرته يدور حول وحدة الأديان وتعدد الشرائع. ذلك لم ينف عنه نظرة التعالي بانتسابه إلى دين صالح لكل العصور وأسمى من الديانات الأخرى. ويتلخص منهج محمد عبده في الآتي … النظر العقلي لتحصيل الإيمان/تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض/البُعد عن التكفير/الاعتبار بسنن الله في خلقه/قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها.

(ملحوظة … في تسعينيات القرن الفائت صدرت طبعات لمؤلفات محمد عبده، ضمن سلسلة «التنوير» التي أصدرتها هيئة الكتاب المصرية، كمحاولة لمحاربة التطرف، إلا أن هذه الإصدارات جاءت مجتزئة لمؤلفات الرجل خشية غضب الجماعات المتطرفة، فأفكار الرجل التي كتبها في القرن التاسع عشر لم تزل تمثل خطورة على عقول شهدت نهاية القرن العشرين)!

عبد الرحمن الكواكبي

من خلال مؤلفه «طبائع الاستبداد»، يعتبر الكواكبي من أبرز المفكرين الذين عقلنوا ثورتهم الفكرية، ومن عباراته الشهيرة التي لم تزل للأسف صالحة حتى الآن، مقولته «الاستبداد السياسي متولّد عن الاستبداد الديني». هذه الظاهرة التي يعاني منها الشرق عموماً. ومن وجهة النظر تلك نجد أن الكواكبي كان يريد تحرير الفرد في المقام الأول، أياً كان مجتمعه أو ديانته، فحرية الفرد هي بداية تحرر المجتمع ككل. فالحرية العاقلة تستلزم الاستقلال الفردي والاعتراف المتبادل بالآخر. كما اعتمد في نظريته الإصلاحية على العقول الواعية في الأمة حتى يتم الإصلاح الديني كخطوة أولى ستلحقها حتماً عملية الإصلاح الكبرى، ألا وهي الإصلاح السياسي. ونختتم بعبارات الكواكبي حول الدولة العصرية بأنها … «ليست دولة بلا دين، بل بلا هامانات، ولا يعني أنها لا تضم أغنياء وفقراء، بل أنها بدون استغلال وامتيازات بعيدة عن الإنتاج، ولا أنها بدون جيش وشرطة، بل بدون قمع وتسلط وعنف، ولا يعني أنها مقطوعة الجذور عن تاريخها وتراثها وأصولها، بل أنها تقدس الرسالات ولا تقدس التراث، وتعبد الله ولا تعبد الآباء، وتحصر الحياة والحرية والعقل بيد والخالق وليس بيد المخلوق».

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى