صفحات مميزة

“لمّت الآلامُ منّا شملنا”، حكاية شاب من حماة.


حكايتي يرويها (ص)، مراقبٌ فمتظاهرٌ فمسعف؛ سكنَ حماة حتى الخامسة والعشرين من عمره، شهدَها تنتفض في الثالث عشر من أيار في (جمعة الحرائر) غيرَ مصدّقٍ تمرّدَ مدينته على خوفها. خارجاً من صلاته في جامع المناخ، فوجئ بجمعِ المتظاهرين يعبرُ شارعه متوجهاً لشارع (الحاضر) الرئيسي والذي ينتهي بجسرٍ مصبُّه ساحة العاصي. كانت تلك أولى الرحلات التي تخرج من جامع (عمر بن الخطاب) الواقع على الطرف المقابل من الساحة. تردّدَ صدى الصوت: “الله، سورية، حرية وبس” فـ “بالروح بالدم نفديك يادرعا”. حشدٌ مؤلفٌ من حوالي الـ150 متظاهر يرقبه (ص) من بعيد، ويرى حافلة قوى الأمن المحمّلة بالعصي والهراوات تهتف: “الله، سورية، بشار وبس”، “بالروح بالدم نفديك يا بشار” وتفرق المحتشدين، فيسارع عائداً لمنزله منتظراً جمعة (أزادي) التالية..

جمعةً خاضت سيناريو مشابهاً لسالفتها، كان (ص) مراقباً فيها عن كثب، كامناً إلى جمعةٍ تالية (جمعة حماة الديار).

27 أيار –  حماة: قرّرتُ أن أصلّي في جامع (عمر بن الخطاب)، راغباً في الإجابة: كيف تبدأُ المظاهرة؟..من° يفجِّر الهتاف؟

أنهيتُ الصلاة ومن حولي بالتسليم، فرفعَ شابٌّ من (الحاضر) يديه: “الله، سورية، حرية وبس”، لا أعرفهُ بل رأيتُ يديه، هتافٌ ملأَ المكان خرج من حنجرتِهِ، وتبدّلت ملامحهُ، كنتُ أرقبُهُ بصمتٍ ودهشة.. وخرجتُ معهم متظاهراً، لنواجه حافلاتِ الأمن. افترقَ الجمعُ، بعضٌ باتجاه شارع (المناخ) وآخرون نحو (مجمع الأسد الطبّي)، ودخلنا أحد شوارع (الحميدية)، المنطقة الفقيرة ذات الأزقة متعدّدة المداخل، والتي ساعدتِ المتظاهرين على الهرب والاختباء، كما رمي الحجارة حيناً على الأمن. كنتُ أنتقلُ في شارعٍ موازٍ ضيّقٍ، مقترباً من القوى الأمنية تارةً ومن المتظاهرين أخرى، وكما رأيتُ أصيبَ العديدُ من كلا الطرفين. تمكّنتُ في تنقّلي من الاقتراب من مطلقِ الصيحةِ الأولى، لأسأله: شو عم تساوي؟

–          بدّي حرّركون!.. مبتسماً ابتعدتُ، لتدخلَ سيارات الإطفاء المنطقة. هربتُ مسرعاً.

كان ساعتها التقاذفُ بالحجارةِ شديداً، حتّى أنّ سيّارة (أوبّل) تابعة للشرطة حُطِّمَت.. ولتهدئةِ الحال أُحضِرَ بضعةُ مشايخ فشلوا في ردعِ المحتجّين، كما فشلَ (المحافظ) في ذلك من بعدهم، وحَسَمَت قنابلُ الغازاتِ المسيلةِ للدّموع الموقفَ في النهاية. لم تفارقني صورةُ الشّاب أستحضرُها في طريق عودتي للبيت.

وصلَت (ص) أنباءٌ عن اعتقالاتٍ طالَت متظاهرين في أيامٍ تلت، تعرّضوا خلالها للضّرب والتحقيق، تكرّرت فيها أسئلةٌ من قبيل: كيفو بندر؟.. شو عطاك سعد الحريري؟.

3 حزيران – جمعة أطفال الحرية – حماة: احتقَنَت المدينةُ بصورِ الشّهيد الطّفل حمزة الخطيب خلال أسبوعٍ مضى، أُعِدَّت أثناءه لافتاتٍ تحضيراً ليومٍ حاشد، ما افترضه (ص) أمراً جديداً على التظاهر..التمّ الناس أمام جامع صغير يدعى (التكية)، ليلتحق بهم مصلّو جامع (المناخ)، وخارجاً من جامع (عمر بن الخطاب) كان (ص) يرقبُ الحشد، والورود تملأُ الأيدي واللافتات تعلوها.. جالَ (ص) ببصره وبرضىً على كلماتها، لتستوقفه عبارة (شكراً قناة الوصال).. محتداً اعترض (ص): كنت رح أكفر ع باب الجامع!..

لكن- متداركاً أردفَ محدّثي- عندما التقى الجمعان علا النّشيد الوطنيّ السوري وشعرتُ بشيءٍ مختلف لدى سماعي: (حماة الدّيار عليكم سلام.. أَبَت أن تذلّ النفوس الكرام)، وبكيت..

صارت المظاهرة تكبُر وبسعادةٍ يقول (ص): (كان فيه ورود كتير، لافتات حلوة، ناس وطنيّة بجدّ..).

الجوّ حارّ والمظاهرة تشقّ طريقها باتّجاه ساحة العاصي، ونساءُ الشّرفات والنوافذ يرششن الماء علينا، كانَ ماءً ذا تأثيرٍ مختلف في صيفٍ قائظ كالذي مضى..والمضحك في الأمر أنّني سمعت في وقتٍ لاحق تقريراً على قناة الدنيا، حلّل خلاله أطباءٌ وأخصائيّين آخرين محتوى الماء المرشوش على المتظاهرين وأقرّوا باحتوائه على مواد مهيجة!

كنت قد اصطحبتُ صديقي– يواصل ص- نسير متجاورَين مقتربين من فرع الحزب، لنسمع صوتَ إطلاقِ رصاص، ولم ندرك ما الذي حصل في الصفوف الأولى من الجمعِ السّائر. صاحَ صوتٌ بنا: “لا حدا يتراجع يا شباب، الرصاصة لصاحبِها”.. كانت قوى الأمن قد فتحَت النار علينا، وكالفاقدِ وعيَه لم أر نفسي بين صراخ الناس الهاربة إلا وصديقي في مدخلِ بناء، بيتٌ لشابٍّ في الطابق الأرضي دخلناه، وغازاتُ القنابل المسيلة للدموع تعبقُ في المكان.. هدّأنا من روعنا لوقتٍ قصير وكان لابدّ من أن أتبيّن ما حصل. خرجتُ واتّجهتُ صوبَ مشفى (الحوراني)، ورأيتُ: الكثير من الجرحى، الرّصاص يلعلع، دواليب محترقة، لكني لم أكن خائفاً.. كان المشفى محاطاً ببضعة شبّان بقصدِ الحماية حين وصلتُ ورغبت بتقديم المساعدة أو التبرع بالدم. ووقفت أمام المشفى طويلاً، أرقبُ الناس تقدّم ما لديها من شراشف، أكياس من القطن، كحول وغيرها للمشفى الذي مُنِع دخولُه. رحتُ أتنقّل في المنطقة حذراً، لا أقفُ طويلاً في مكانٍ مكشوف، تارةً أتوارى في بناء، وأخرى خلف شجرة..أتدرين؟ لم أكن خائفاَ.

لم تتوقّف المظاهرات يومها، بشرٌ يحاولون الوصول لساحة العاصي، في السوق وعند مقرّ الحزب القديم مواجهاتُ مشتعلة. حيث أسفرت تلك الجمعة عن حوالي 100- 150 قتيل و500 جريح.

لكنّ المجزرة لم تكُ عفوية– يستدرك ص- فقد جُهِّزت سياراتُ شحنٍ بشوادر ساترة عند الجسر أي قبل ساحة العاصي ووقفَت بانتظار الجثث، التي تساقطَت بفتح النار على المتظاهرين الواصلين تباعاً إلى الساحة، كما أُغلقَت كلّ مداخل الأزقة ذات الأدراج الحجرية والمفضية إلى الساحة ببواباتٍ حديدية.

لم يستقبل يومها مشفى البدر الجرحى فكُسِرت واجهته البلّورية وأُدخل بعض الجرحى عنوةً.. أُغلِقت المدينة في اليوم التالي، وكُتِب على المحال عبارة: حداداً على أرواح الشهداء.. مغلق سبت- أحد- اثنين.

” لمّت الآلامُ منّا شملنا”. أردف (ص).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى