صفحات سوريةعمر قدور

لندعهم يفاوضون أنفسهم/ عمر قدور

 

 

لا تُكتب التفاهمات الدولية في سورية إلا ليتم التراجع عنها سريعاً. هكذا كانت الحال مع وثيقة جنيف1، وهكذا كانت الحال أخيراً مع تفاهمات ميونيخ الهزيلة أصلاً، مروراً بتفاهمات فيينا التي يُفترض أنها جمعت كل القوى الدولية والإقليمية المنخرطة في الصراع، أو المؤثرة فيه عن بعد، ولا تختلف الحال في خصوص قرار مجلس الأمن الرقم 2254.

خرق التفاهمات سريعاً، ومن ثم بناء غيرها سريعاً أيضاً بين إدارة أوباما وبوتين، يؤشّران إلى وجود تناغم، ربما يبلغ مصاف تفاهم غير معلن يقضي باستخدام المؤتمرات لتمرير الوقت، وإذا لم يتمكن الطرف الأميركي من تمريره بالقوة الناعمة تكون الطائرات الروسية أنجزت عملها. ومن السهل ملاحظة تواري التحفظات الأميركية الخجولة التي رافقت بدء العدوان الروسي، فالإدارة الأميركية لم تعد معنية حتى بالتنديد بالقصف الروسي لمواقع فصائل في الشمال، كانت مدعومة أميركياً إلى وقت قريب، أما غرفة «الموك» التابعة للمخابرات الأميركية، والتي كانت تتولى أمر الجبهة الجنوبية، فأُغلقت أخيراً بعد انحصار مهمتها في السنوات الأخيرة بمنع ثوار درعا من الوصول إلى الغوطة الغربية لدمشق.

باختصار، لم يعد من معنى للقول إن الروس يستهدفون المعتدلين قبل المتطرفين، فإدارة أوباما تساعد في إنجاز هذه المهمة على محوري حلب ودرعا، بحيث لا يتبقى فعلياً للمواجهة المقبلة سوى القوى المشمولة بقرار دولي، أي «داعش» و «النصرة»، وهذا ما يُفسّر استثناء إدلب من الهجمة الحالية على قاعدة الوجود القوي لـ «النصرة» فيها. إدارة أوباما موافقة فعلياً على ذهاب السيطرة إلى قوات النظام وحلفائها من الميليشيات الكردية المطعّمة ببعض العناصر العربية في الشمال، وذهاب السيطرة إلى تلك القوات وحلفائها من الميليشيات الشيعية في ما تبقى من الجنوب وغوطتي دمشق، ويشير التطور المتسارع إلى تفضيلها خيار قوات النظام على دخول قوات برية سعودية وتركية للسيطرة على مناطق «داعش».

ثمة موعد مفترض لاستئناف مفاوضات جنيف، في الخامس والعشرين من الشهر الجاري، لكنه لن يكون استئنافاً لما حصل في الجولة السابقة، فهو سيبدأ من نقطة أدنى. التطورات الأخيرة، في غير مصلحة فصائل المعارضة، ستؤدي إلى انتقاص جديد منها ومن حلفائها الإقليميين، بينما لن يكون هناك وقف للعمليات العسكرية الروسية التي تقضم ما تبقى من مواقع سيطرة المعارضة، بعد قطع كل خطوط الإمداد بمباركة وتعاون أميركيين.

كان أحد مسبّبات مشاركة المعارضة في الجولة السابقة القول أنها لن تخسر شيئاً في حال المشاركة، وقد تبين أنها ستخسر الكثير في حال المشاركة أو عدمها، وتبين على نحو أوضح أن عملية جنيف برمتها لا قيمة لها ولا تأثير لها على الأرض، فالمجريات الميدانية ماضية بصرف النظر عما يحدث في تلك القاعات. تبين أيضاً ألا قيمة للمحافل الدولية الخاصة بسورية، وأن الثنائي كيري- لافروف هو من بات يتحكم بالمسار كله، وقد قرر حالياً إبقاء النظام برأسه ورموزه، ونتيجة المفاوضات لن تتعدى تطعيمه بدماء جديدة نتيجة مشاركة شخصيات معارضة.

بنهجها هذا، تتخلى الإدارة الأميركية عن كل الضمانات اللفظية التي منحتها سابقاً للمعارضة وللحلفاء، ما يجردها من موقع الضامن أمام الجانبين، وإلا صارا في موقع من يدمن المراهنة على الخصم، ولئن كان الحلفاء يرتبطون بالإدارة بمجموعة من القضايا والتفاهمات الإقليمية الواسعة، فذلك لا ينطبق على المعارضة التي يُفترض انطلاقها أولاً من الهمّ السوري. أن تكون الهيئة العليا للتفاوض، ومن قبلها ائتلاف المعارضة، قد تشكلا بإرادة دولية أمر لا ينفي الصفة التمثيلية الداخلية لهما، إلا في حال اتخذ أيٌّ منهما قرار الابتعاد عنها نهائياً. في حالة الهيئة العليا تحديداً، تشكلت بموجب تفاهمات بين هيئات معارضة وفصائل عسكرية في ما سمي بيان الرياض، ونالت رضا فئات واسعة بناء عليه. هذا التفويض تنتهي صلاحيته في حالتين: إذا تخلّت الهيئة عن البيان، أو إذا لم تبقَ هناك عملية تفاوض متصلة به.

في الميزان العسكري، سيصعب على فصائل المعارضة الصمود، مع وجود عزم أميركي على إنهائها قبل رحيل أوباما. الأمر مختلف على الصعيد السياسي، إذ يتعين على المعارضة ألا تنطلق من حساب ميزان القوى على الأرض الذي لم يأخذ به أحد يوماً، من الأفضل لهيئة التفاوض الانطلاق من أن وجودها حاجة دولية، فمن دون توقيعها على صك الاستسلام لن تكون الشرعية الممنوحة لبشار الأسد سوى شرعية خارجية متجددة، بحكم عدم سحبها أصلاً في المحافل الدولية.

التهديد القائم بوجود من يسمّون أنفسهم معارضين، مع عدم تورعهم أخيراً عن إشهار تعاونهم مع النظام، ابتزاز يفتقر إلى القوة، فأصحابه يعلمون تماماً تهافت تجديد النظام بهم. أولئك الذين يتوقون منذ انطلاق الثورة إلى التفاهم مع النظام لن يمنحوه ولن يمنحوا إدارة أوباما الغطاء المطلوب، ومن المستحسن أن تهدد المعارضة بالانسحاب، ولا بأس بترك الساحة للنظام وأصدقائه، بدل أن تصبح مثل الأخيرين فارغة من معنى المعارضة.

ليتفاوض كيري ولافروف بمقدار ما يشاءان، من دون استهانة بقدرتهما على فرض الوقائع على الأرض، ولكن من دون مساعدتهما في تظهير التفاهمات بقبول من المعارضة. الهزيمة، إذا حدثت في الميدان، لا داعي لتوثيقها في صك، ومن يطلب توثيقها يسعى إلى هزيمة إضافية شاملة، بما فيها الهزيمة الأخلاقية.

ملخص ما يحدث هو إرغام المعارضة على الهزيمة السياسية، بعد تطويقها وسحقها عسكرياً. مقاومة الهزيمة تبدأ من عدم تكريسها سياسياً، وأيضاً من استرجاع الخطاب الحقوقي والأخلاقي الذي تم تغييبه دولياً بذريعة أنه خطاب مكرور لا ينتمي إلى عالم السياسة. لتعلن المعارضة مثلاً أنها غير مفوّضة بالتنازل عن حقوق حوالى نصف مليون من ضحايا النظام وحلفائه، ولتباشر العمل على ملفات الضحايا أمام المحاكم الدولية. من الأجدى مواجهة العالم بتحركات من هذا القبيل، بما أن أحد أهداف التسوية طمس معالم الجريمة ورمي تقارير المنظمات الحقوقية الدولية في سلة المهملات.

ربما يُقال إن التفاهمات الروسية- الأميركية ماضية تماماً شئنا أم أبينا، إذا كان الأمر كذلك فلنحتفظ بمشيئتنا للمستقبل.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى