صفحات الثقافة

لنسبح في موج الحرية الهادر

 


من أمين عام اتحاد الكتّاب اللبنانيين إلى مؤتمر اتحاد الكتّاب العرب

سليمان تقي الدين

هزّت العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه موجة عالية من الحراك الشعبي السياسي تطالب بالإصلاح والتغيير. تهاوت أنظمة استبداد بأسرع مما تخيّل المطالبون بإسقاطها وفقدت مجموعة من الأنظمة كامل شرعيتها فراحت تدمّر شعوبها بكل ما ملكت من بطش همجي. وتزعزعت أنظمة أخرى فصاعدت من وسيلتي القمع وتقديم التنازلات لمطالب بدائية وأولية. وانشغل العالم البعيد والقريب بما صار يُعرف “ربيع العرب” و”ثورة العصر” وانفتح المشهد العربي على كل أشكال التأثير والتدخل والنزاعات. ما حصل هو فعل إنساني ممتلئ بقيم الحرية والعدالة والكرامة. وهو يملك أعلى مستوى من الشرعية التي بلغتها ثقافة العصر. وهو ضرورة ربما طال انبثاقها من أزمة منظومة سياسية اجتماعية ثقافية عانت حالاً من الركود شارفت على التهميش والاهتراء. بعد نصف قرن من الإخفاقات والخيبات والفشل في جميع الميادين التي يقابل بها مستوى تطور الدول والمجتمعات والشعوب، انتفضت الشعوب العربية وأسقطت الحاجز الأساسي الذي يمنع وجودها على مسرح الحياة وأكدت في كل مكان حضورها وحقها في هذا الحضور وإرادتها في التغيير واستعادت لنفسها الدور والمبادرة. ما يقع خارج هذه المعاني من تفاصيل أو من تداعيات أو من مضاعفات أو من حسابات على أهميته هو أدنى من قيمة ومعنى هذا الحدث التاريخي العربي المستجدّ. أولوية مطلب الحرية هو برنامج وقيادة وأفق. قطعت الشعوب العربية دفعة واحدة مسافة الزمن المهدور في واقع الاستبداد العربي الذي حجزها عن كثير من مهمات العصر. ما طرأ ويطرأ من تعرجات وعثرات وما يحصل من اختلال وما ينشأ من ظروف وما يخترق هذا الحراك من مؤثرات هو مهمات للمستقبل وليست تشوهات في اللحظة التاريخية للتغيير. مدعوّون للتفكير نحن مدعوّون اليوم للتفكير في ما بعد هذا القطع الزمني الوجودي مع ماضٍ مات أو يموت اندثر أو سيندثر عاجلاً أم آجلاً بفعل هذا الحراك الذي صار العنصر الأكثر أهمية في المشهد السياسي. لا شيء يستحق الآن لندافع عنه من الماضي أمام احتمالات الحاضر وآفاق المستقبل التي فتحتها الثورات العربية. فكل إنجاز من الماضي عليه أن يمتحن نفسه وحقه في البقاء والنماء والتطور في خضم هذا الإنجاز الأكبر. لم يعد العرب يختصرون في مجموعة دول وأنظمة وهيئات سياسية تاريخية قديمة بل هم يصنعون أشياء جديدة لا نعرف مدى نجاحها وصلاحها وفاعليتها وقيمتها بعد لكننا نعرف أنها تأتي من إرادة فيها الحرية والوعي وفيها الكثير من التضحيات ولديها الكثير من الطموحات. هكذا يجب أن نفهم اللحظة التاريخية ونتعامل معها لنذهب إلى التفرعات والتفاصيل التي تنبثق عنها ولا يمكن فهمها بلغة الماضي. فما كان من سياسات عربية هو سياسات منظومة سابقة لها تفسيرها في سياق مختلف. وما سيكون من سياسات عربية هو نتيجة هذا التوازن الجديد أو هذا الواقع الجديد أو هذه المعطيات التي تضغط على التفكير وعلى القوى الفاعلة أياً كانت طبيعتها. إن المثقف العربي الذي اختار أن يكون رؤيوياً تقدمياً إنسانوياً حراً غير مرتهن وغير مثقل بأي اعتبار خارج هذا الانحياز إلى موج الحرية وصوتها الهادر، وإلى الإنسان العربي المهموم بالكرامة بكل أبعادها ومعانيها، عليه الآن أن يضع رصيده المعرفي والإبداعي والإيحائي والنقدي والتنويري في هذه المشهدية وأن يمارس الفعل الثقافي بكل أشكاله ووسائله بما في ذلك فعل الموقف. لا نصادر هنا أي رأي أو اتجاه أو فكرة ولا ننزع إلى تنميط وتعليب أي مسار، بل ندعو إلى تفعيل وتأطير وتنمية المجال المشترك الذي يختاره المثقف إذا اختار وأراد لكي يسهم في مواكبة الحدث وفي تخطيه وتجاوزه إلى المزيد من الاغتناء بالمعرفة وبالشوق إلى الأجمل والأبهى والأرحب والأقوى والأفضل. نفترض أن المثقف هو من يضفي على الحياة أبعاداً مستقبلية ويفتح أبوابها على أسئلة هي التي أنتجت سبل التقدم والحضارة. ونفترض أن المثقف مشدود إلى توسيع طاقات الإنسان وفاعليته ويتوجّه إلى هذا الإنسان لكي يصنع حياته بحرية وأن يوفر شروط الحرية في الاجتماع السياسي وفي إزالة كل الضغوط والارتهانات التي تعيق أو تكبح هذا الفعل الإنساني. هذه التوصيفات هي التي صارت في عصرنا تُحفظ في ما يسمى ديموقراطية أو مشاركة أو تنمية أو تقدماً أو مساواة وتتجسّد بصيغ متحركة منفتحة على التطوير والإصلاح لكي تؤمن المناخ المطلوب لهذه الأهداف. خط القلق فلا معنى ولا قيمة لهذا الاختصاص الوظيفي للمثقف ما لم يكن موجوداً على خط القلق بهاجس هذا المشروع الإنساني. ولأنه كذلك على ما نفترض نعتقده في قلب هذا الانبعاث العربي بل هذه النهضة لتخطي الفراغ الذي رزح على الزمن العربي وعطّل تقدمه فيما صرنا نشكو منه من تخلف وفساد واستبداد ومظالم وإخفاقات ووهن بلغ حد التهميش لدور العرب وموقعهم وتأثيرهم في حضارة العالم رغم ما في يدهم من إمكانات طبيعية وبشرية. من هذا المنظور نستعيد أو نستحضر أو نستلهم كل ما طرحته النخب العربية في الماضي والحاضر جواباً على الأسئلة الحرجة التي انطلقت بعد كل نكسة أو هزيمة أو نكبة أو بعد كل إنجاز. فقد صار في أيدينا خلال بضعة عقود الكثير من الثمار الفكرية التي لم تتحول إلى منظومة فاعلة حتى جاء الحراك الشعبي يجسد معظم ما هدفت إليه. لا نريد البحث عن هذه الإشكالية الآن، لكن ما يجب أن نعترف به أو نرصده بأمانة هو أن الشارع العربي ردد أصداء من هذه الأجوبة الثقافية في مسائل الدولة والأنظمة والمجتمع، ولو أن هذا الشارع هو حرّ غير مقيد بأي نسق فكري أو مرجعية كاملة من الثقافة الفرعية. على أي حال هذا شأن مفتوح لحوار المثقفين ولحوار الحياة. أمام المثقفين مهمات لا تتوقف أصلاً عن التوالد من رحم الحياة، ومن شجرة المعرفة. لكن المثقفين يواجهون اليوم مسرحاً تجريبياً يعطيهم فرصة التدخل المباشر لا مجرد ترويج المنتج المسبق الذي يتراخى الزمن على تقديمه للجمهور. إذا صحت هذه الأطروحات كلياً أم جزئياً فإن المثقفين يلتزمون مشروع الإصلاح السياسي العربي وحركة المطالبة بأنظمة دستورية وبدولة القانون الضامنة لفاعلية المؤسسات وللحريات والمشاركة ويدعمون مشروع الإصلاح الاقتصادي بأفق التنمية الواسعة والاستثمار المجدي الفاعل للثروات العربية وإعادة هيكلة المنظومة السياسية والاقتصادية العربية ومكافحة كل أشكال الفساد. بل إن الإصلاح في البعد الاجتماعي صار مهمة تتعلق بالاستقرار السياسي والأمني. أما المسألة الثقافية فهي تعكس حالة الانحباس الحضاري الذي عاشه العرب في ظل أنظمة الاستبداد حتى حصل هذا التعفن المريع في زوايا كثيرة من المجتمع مقابل نخب سلطوية احتكرت لنفسها امتلاك وسائل العصر وثقافته. انطلاقاً من هذه الخلفيات أو المسوّغات يرى المثقفون الذين يعلنون تأييدهم لهذه التوجهات ما يلي: 1 ـ الالتزام بمطالب الشعوب العربية في الإصلاح والتغيير وإزالة كل أشكال الاحتكار السياسي المدعوم بامتيازات سلطوية مهما كان المستفيد منها، جماعة أو حزباً أو فئة أو جهة. 2 ـ دعم حركة دسترة النظام السياسي العربي وإقامة دولة القانون على حساب كل نظام سياسي يشخصن السلطة أو يعطيها هوية ليست هوية شعبها. 3 ـ التأكيد على دمقرطة النظام السياسي العربي بأوسع معاني هذه العملية التاريخية الهادفة إلى تجسيد سلطة الشعب فوق أية سلطة جهوية طائفية دينية أو سوى ذلك من أشكال السلطة. 4 ـ التأكيد على مبدأ الحرية بأوسع معانيها في الإيمان والاختيار وفي إعلاء حقوق الإنسان على فكرة نظام الجماعات المغلقة. 5 ـ التأكيد على بناء أنظمة اقتصادية اجتماعية ثقافية تهدف إلى تفتح الطاقات الإنسانية في مناخ من الحرية وتكافؤ الفرص. 6 ـ التأكيد على التعاون العربي كمهمة إنسانية لتوفير مقومات التنمية والتقدم والدفاع عن أمن الدول والشعوب في وجه كل التحديات الراهنة التي تستبيح المجال العربي ليس فقط من باب الهوية بل التعامل مع هذا الوجود كمساحة استثمار. 7 ـ التأكيد على التعاون العربي لإزالة الأوضاع الشاذة من الاتكال على الخارج لحماية الأمن العربي وضرورة تحرير الإرادة العربية من كل أشكال التدويل والتدخل الخارجي. 8 ـ التأكيد على ضرورة إيجاد مؤسسة عربية جامعة تتطلّع إلى بناء نظام إقليمي عربي يحفظ مصالح الشعوب العربية من أشكال التفكيك والتقسيم والاستتباع.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى