أثير محمد عليصفحات الثقافة

لولا اختلاج شفتيّ الكلمات..(من مقطوع القصّ)


أثير محمد علي

اليماني.. الغريب الصديق..

على فترات متباعدة، غالباً ما نلتقي أنا والغريب في ساحة سانتا آنا وسط مدريد.

مع اختمار دبق الليل.. عند مقهى الرصيف المزدحم نلتقي..

نناور على الوجود..

نراوغ على الإناء النفسي خاصتنا.. ومواطن الداء فينا.

نرتشف الكؤوس والتواطؤ المتعتع بانفعال الصوت ومجرى الوقت.

نلعن أرباب الأزمة الاقتصادية، وعزيف ريح غير مؤاتية ترتطم في دهاليز الأذن..

ولا ننسى شرب نخب مسقط رأسينا في البلاد البعيدة من جزر الواق واق.

تتمطى العتمة الرخيّة وتتشظى في ساحة سانتا آنا وسط مدريد..

تخدد ندوبها فينا كقبر يتشقق بنا.

أرهف السمع لصديقي الغريب، وهو ييمم وجهه شطر البيت اليتيم في الذاكرة.

أرى يمام شِعره ينقر في غميق أعماقه.

وأبصر جدائل طويلة تلامس خناقه حتى تمسك به.. فتلتمع عيناه التماعاً راسباً..

ويتلبسه حنين إلى مضيعات الغد قبل الأمس.

ينثني على كبده من خشيةٍ أن يتصدّعَ.. يدرج سيجارة بأصابعه النحيلة..

يشعلها، يمجها، يدوّم دخانها..

ويعبّ أنفاسه الراحلة وأشعاره الآتية معها.

وعلى حين غرّة، يقرب وجهه من وراء الطاولة التي نتقاسمها..

وكمن يبوح بسرّ لا يتجاوز الدقائق من العمر، يهمس:

‘يا بتّ اكتبي..’

… يرين صمت مديد كُتِب لنا..

إلى أن أمسك بخيوط عبارته الأخيرة، وأفصمها بضحكة سحيقة خربة..

يتطلع الغريب مسهباً نحو جثة مشلولة في الزنقة التي وصلنا لها.. واحتضنتنا معاً.

ألوح له قبل أن تبتلعه نأمات نزلة آتوتشا، وأضواء السيارات الطالعة.. أنادي طيفه:

‘يا ولدي..’.

على الأمل بلقاء ساه آخر.. بلا أثر..

* * * *

سماء لا نجوم فيها..

سمكات ميتات تنزلق من بين أناملي في حوض البورسلين الأبيض..

سمكات برتقاليّة تقشّرت حراشفها..

تنزلق من راحة كفيّ قبل أن أقطع رأسها.

أراها من مطرحي في المسمكة حين أميل برأسي..

سماء كدراء فوق محطة البنزين..

وأحدهم يعتزم غسل سيارته، رغم إنذار رائحة الجو بدوافق موحلة.

أراها من مطرحي.. يد الريح..

تعبث بتركات السنين..

تقلب رسائلي النديّة، إلى أن تخبو نداءات الحبيب مع طوابع البريد الحائلة..

أسمل بريق عين السمكة الصافي..

سمكة سمرتني على صليب رمقها، وأنا أشق بطنها الأبيض الواهي.

أسمل الصفاء البريق.. وأجرف معه الغلاصم الورديّة..

تغور المسامير في جسدي..

ولا أستطيع أن أنزلني عن الصليب..

تبادرني الأغنية القديمة، من الأسطوانة التي أرسلتها لي، كمسرة شاميّة رفيفة..

تبادرني.. وأنا أكتب الآن..

ترتعش سكين كلماتي الحادة، أيان تحزّ شريحة اللحم فوق لوح المرمر..

… أتركها جانباً وأنضح يديّ بالبارد الماء..

من أين يحضرني لفظ ‘الرّفيف’، قيد لحظة أجتهد فيها بغسل كائنات البحر على السطور..

وأشتغل بمكتب غسل الموتى في البعيد من البلدان إلى ما فوق السطور؟!!

من أين يحضرني؟!

أمن مدينة أغنية.. مابرحت تزكو في دخيلتي وفي الرنيم؟؟!

أمن قول الأعشى: ‘بالشام ذات الرّفيف..’؟!

أميل برأسي إلى النافذة..

خربشات الكدراء تضيّق زواريب الرؤية..

تعلك أحشاء البلدة.. تهزأ بمقابض أبوابها ومجداف قلبي.

تمضغها بالقيل والقال..

الكدراء تغرغر بصفائح من تنك.. تهزّ الأغصان الجرداء..

تستند على الحائط الأرضي بسالفها الأشيب الجليل.

تطرق في الأزقة المهجورة.. تبلغ قبوي..

تستمطر عبراتي المتقطعة..

أعاندها.. ولا أخفيها امتعاضي من سحنتها الجهمة..

ترجمني بحصى المندل..

وتتشبث بي تشبث الغريق بجذع نخلة في سيل عرم.

فتحت خزائني، انتقيت أحلى ما عندي من دفائن البحار..

وحمّلت مراكبي بمليح الكلام، ومحارتي المرتجفة..

وعلى بساط الروح نسخت عنوانك: إلى ماوراء الحرير.

تعود فارغة..

دائماً فارغة، إلا من خرق باليّة.. شباكي العائدة..

أصيخ لقواقع مفردات الحبيب..

وعلامات التنقيط.. ولا أفقه لغة الهينمات..

لا أكنه سرها..

.. اليمّ ما غيره.. إلاه..

يتراءى نشيجاً غارقاً بهالة زرقاء تحيط بعيني..

البحر وأحياء البحر، تشاركت على تقصيف أظافري وتمزيق أشرعتي..

ولم يتبق لي إلا ذاكرة دوار كان له أن يكون.. ولم يكن..

أغسل جوف السمك المفرغ الحشى..

أزن كيلو من اللحم الأبيض للزبون، وأوجه جريان مياه الصنبور لمشمع مريولي المديد.

تزرب مني القانيات الدماء الطازجات كالعادة اليومية..

الكدراء تجلس متربعة تدير قرص الهاتف، تطلبني في حانوت السمك..

تنتزع بلاط أرصفتي بسبابتها رقماً رقماً..

تذمني.. تأنف مني..

تتهددني برميّ وسمكاتي في مغسل السيارات في محطة البنزين..

بتركي وأحيائي الميتة لمصير فرشاة التنظيف العملاقة.

… بخفي حنين ورائحة، أعود للبيت وأنا أفكر أنها الكدراء..

سماء لا نجوم فيها..

ولكنها سمائي على كل حال.. ورائحتي..

رائحة تنبح لها كلاب الطرق الشاردة كما المنزلية..

تلاحقني.. الكلاب.. تتقدمني قبل أن تقترب مني لتتشممني..

وتهز ذيلها الأعوج.. مثارة.. مثارة..

تحت دوش المساء تتفتق هواجس العنبر..

أفرك جلدي من عالقات الزنخ، ودهن السمك..

وأحلم بتذوق طعم الكرى.. لأحلم بكسر طوق الزمان..

واسترجاع عميق رائحة الإبطين..

وركوب البحر معك.. والتعرق من جديد..

من جديد إلى آخر اليمّ..

* * * *

نص الفراغ الثقيل

كلما تمعنت في عمارة الباروك المثقلة ببهارج النقش والزخرف، أتحسس جوارحي وأسأل:

كيف أشيد سطوراً باروكيّة تخاف الفراغ، فتمتلئ بالكلمات والصوت والصور، وهي تقول الخواء والصمت وسرابيّة الظلال؟!!

كيف لي بشذرات تقوم على رواسب جمل متآكلة، مراسيم متكلّفة، واهتراء قوالب لغويّة.. كمادة أوليّة خام، يستجدي بها النصّ سيمياء رهافة طافرة، في الآن الذي يفصح فيه عن اعتمال شحوب يومي مزمن.. وطنين ذبابات ملتصقة بأشداق الموت في تجربة تدوين الجميل..؟!

كيف لي بفعل هذه الكتابة الحافيّة المحرقة، وما الذي سألقاه في المسير من مصير؟!!

… كيف لي والنصّ المسجى بالكفن القبريّ، يشير لي باللحوق به؟!!

كيف والزمن يمر وأنا أرعى الكواكب؟!!

كيف وكيف.. وكيف؟!!

وأدركت أنني أريد..

… وأريد أن يقرع قلبي بمطرقة فعله الصدئة.. إلى الآخر الآخر..

هذا النص الرميم الفعيل.

* * * *

مقعد خشبي يبحث عمن يكتبه

منذ غابر الزمان.. كان مقعد خشبي يرى طلوع الشمس من البحر.

تتكشف المواصفات الحقيقية على أطرافه الأربع.

إلى الشمال والشمال الغربي، يتعملق المركز التجاري بأسواقه المتوالدة من السلع.

وخلف المنحنى قرب الشاطئ، تطلّ مضارب الغجر كعيون متقيحة في التضاريس الصخريّة.

… أجلس عليه..

المقعد المنخور.. أجلس إليه..

تتهدج الرحابة المرئيّة ويحتبس المشهد في بصري.

… كنيسة مهجورة تنكأ جرحاً قديماً على كتف المرفأ العتيق..

نوافذها المشروخة تقتنص طلول الأبعاد بنظرة مواربة..

وتنعب قبتها المتآكلة في عراء غروبيّ يغور في كهف عيني العظمي.

يمتلئ الجوّ بمناخ البنفسج الثقيل..

يفوح من ملوحة نسوة انتظرن إياب الحبيب.

… أترك مقعدي قدر الإمكان.. أمشي بضعة خطوات..

تأخذ آناء الليل تتقشر عن بشرتي وتتساقط..

وما برحت رطوبة داخلية تقضمني..

أحلّ شعري المعقوص، وأتركني لمهب ريح متلعثم..

… الغياب يتسلق سلالم فقراتي الظهريّة.. فقرة فقرة إلى السماء.

وشيطان القول يذرّ رماد صوري من أحوال الجسد.. جسدي.

* * * *

أسبوع الآلام في اشبيلية

أبحث عن ورقة في جيبي.. أعثر على وصفة طبيب الصدريّة..

أمسك بقلم الرصاص.. وأرسم على ظهرها خطوطاً، أستدل بها على شبكة عنكبوت أنسجها لوحدتي.

ضجيج ناسوتيّ يندلق من شبابيك الحانة الموصودة..

… قرع طبول، وآلات نفخ وصنوج، تأتي من وراء الحشود ترجّ التوق عند الظهور..

يتبعها المريدون بخشوع مهيب.

على كاهل شبان الأخوية الكنسيّة، تتمايل المحفات بعذراوات مزركشات..

متوهجات بدراما الحجر الفلسفي، ودموع الشموع..

تتقدمهن مباخر مفضضة، تنوس بعطريّة شعائريّة مفعمة.

وترفع صلبان المغيب من خشب الزيتون، فوق محامل موشاة بلألاء ذهبي..

عليها يتماهى يسوع الأندلسيّ في كوامن الدور الباروكيّ الرحوم..

يؤمئ بمنمنمات عباراته السبع الأخيرة..

مبهراً جموع المبصرين التي تحفّ بالدروب.

… هي الروح في اشبيلية..

تنسرب’في الجسد..

تتشبق في رُقم الحواس، وغيوبيّة الزمن..

حتى’انتعاظ الألم.. وعري الذات عن أوضارها..

حتى رهز الغبطة البنفسجيّة.. ورعش شغاف الجوى.

… مطر فطري ينهمر على المدينة المترجرجة بنورانيّة الموكب العاصف.

مطر.. تستحيل معه بركتي الروحيّة طوفاً ممسوساً.. وأشلاء عطر هوجاء.

وغير عابئة بوجوهي الميتة، ولا بشواظ الحنين الغرقى..

أهرب بأوزاري من وازع مؤنب..

أتعلق بقشة صوتك في تيار الذاكرة النهري..

إلى أن يلفظني ماء همسك إلى شطّ يلغ في صلواتي..

وتبتل أنفاسي الحرى.

… وأراني أنشغل بإزالة بقع الشمع عن فستاني المنحسر..

أهرول بعيني على طول الأرصفة، فتتعثر اشبيلية بضوع زهر البرتقال المرّ في قلبي.

كاتبة سورية

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى