مراجعات كتب

“ليثيوم” لتميم هنيدي..المنسيون في العتمة/ كمال الرياحي

 

 

 

لم يتخل الأدب عبر العصور عن المرضى أو الحديث عن الأمراض العضوية أو النفسية، وظلت الأمراض والأوبئة مناخات أثيرة للكثير من الكتاب منذ الديكامرون لبوكاتشو إلى اليوم، فعرفنا طاعون البار كامي وحب ماركيز في زمن الكوليرا والإدمان في مليون قطعة صغيرة لجيمس فراي والهذيان عند تابوكي في روايته عن فرننادو بيسوا والعمى عند ساراماجو  والجنون عند غوغول والصرع عند ديستوفسكي.

وكان السرطان والإيدز والجنون والسكيزوفرينيا والزهايمر أكثر الأمراض تداولا في الأدب إلى جانب أدب العاهات. غير أن هناك كتابا ذهبوا إلى مقاربة أمراض نادرة أو مهمشة قادتهم إليها التجربة أو الصدفة مثل “متلازمة المنحبس” عند جون دومينيك بوبي في بذلة الغوص والفراشة. وفي هذا المجال يمكننا تنزيل كتاب تميم هنيدي القصصي “ليثيوم” الصادر عن دار المتوسط بميلانو والذي يقتحم فيه عالما خاصا من عوالم الاكتئاب.

ليثيوم عنوان أم دواء؟

يدخل العنوان في هذا الكتاب ضمن تقليد أدبي بدأ يتشكل منذ بداية القرن العشرين ضمن تلك الأعمال الأدبية التي تحمل عناوين تشير إلى أسماء أدوية بعينها لعل رواية “مورفين” لميخائل بولغاكوف مثال دال على ذلك، والليثيوم تبدو عبارة غريبة للعموم لكنها دالة عند المقربين من عالم الطب، فهي نوع من العلاجات التقليدية والمستمرة كمضادات للحالات الناتجة عن الإصابة بمرض الاضطراب الوجداني ثنائي القطب. وهكذا يضعنا العنوان مباشرة في قلب عالم خاص، ولكنه عالم مجهول لا نكاد نعرف منه سوى اسمه.

المشروع:

كثيرة هي الأعمال الفنية التي نشأت من تجربة الكاتب مع المرض مقاومة أو استسلاما أو تعايشا غير أن هذا الكتاب يجد مادته من تجربة خاصة للكاتب مع الفقد؛ فقد صديقة مقربة نتيجة عدم إدراكه لطبيعة مرضها الذي جعلها تنعزل وتبتعد لتسقط في الإهمال والنسيان. هذا الشعور بالندم من الفقد نتيجة الجهل جعل الكاتب يبحث في هذا المرض وخصوصيته بعد اصطدامه بالحالة الثانية. وهذا ما تشي به المقالة التي ذيل بها تميم هنيدي كتابه والتي شرح فيها أصل اهتمامه بهذا المرض دون غيره.

وقد أعلن الكاتب بشكل صريح أن هدفه من الكتاب هو التوعية والتعريف بهذا المرض النادر والغامض، والذي يتسبب غموضه في فواجع كثيرة فنسبة كبيرة من المصابين به يحاولون الانتحار لأن محيطهم لا يتمكن من تفهم مرضهم، فيعاقبون بالعزل أو بالإهمال أو بالتعنيف أو حتى بالإعدام كما سجل الكاتب. فالكتاب كما يقول مؤلفه “هو بطاقة تعريف بالمرض”. غير أنه يستدرك في عتبة الكتاب هذه ليؤكد أنه لا ينخرط في خانة “التوعية الطبية التقليدية”، ويستند في تعريفه لعمله وانتشاله من خانة الكتب التوعوية والطبية إلى هويته السردية والقصصية.

ليثيوم حالات أم قصص؟

يوطن تميم هنيدي كتابه داخل عالم الاضطراب الوجداني ثنائي القطب منذ العنوان بالصفحة الرابعة وهكذا يضع الكاتب ضوابط لعالمه القصصي لن يخرج عنها. لنكون أمام قصص مستلهمة من تجارب حقيقية لمرضى الاضطراب الوجداني. وعلى الرغم من إلحاح الكاتب في آخر الكتاب على البعد الواقعي وبتلك الشهادة الطويلة عن المرض، والعتبة الثانية المتمثلة في شكره لكل من تعاون معه لإنجاز الكتاب من مرضى وأطباء إن كان بشكل مباشر أو غير مباشر عبر اطلاعهم على عالمهم وأفكارهم وبوحهم في شاشات اليوتيوب الخاصة، فإن ذلك لا يمكن أن يجرنا إلى إغفال أجناسية المنتج الذي بين أيدينا: مجموعة قصصية.

وهنا تتسع دائرة التلقي لتذكرنا بكل الأعمال الفنية التي أنتجت من صلب تجارب خاصة  كقصص الحرب والجريمة والوظيفة أو عنها عبر البحث والتنقيب، ومن ثم علينا أن نصحن عملية التلقي من التأثيرات الجانبية الخارج نصية ليبقى التعامل مع الكتاب وفق تجنيسه.

إن الحالات لا تعنينا إلا مرة واحدة بصفتها المرضية، والتي تختفي قيمتها بمجرد معرفتها، ولذلك لا أعتقد أن فكرة التعريف بالمرض التي أشار إليها الكاتب في العتبة تعني أحدا من العالمين بأمر هذا المرض وعوالمه. ولكن قصص تلك الحالات وكيفية كتابة ذلك العالم هي التي تعنينا جميعا، بمن في ذلك الأطباء المباشرون لذلك المرض والمرضى أنفسهم لأن هناك كاتبا استطاع أن ينقل تلك العوالم التي فشلوا ربما هم في إيصالها إلى عامة الناس.

إن هذا التصور يرفع الأدب إلى منزلة أعلى من الإمتاع ليحمله أيضا واجبا إنسانيا وأخلاقيا، ويرجعنا إلى مقولة الأدب الملتزم مع جان بول ساتر. لكن هذه المرة التزام بقضايا جانبية لا تكاد ترى على الرغم من ثقلها وخطورتها، وهي أمراض المجتمع الناتجة عن الجهل بالآخر القريب والحميم.

في أقل من سبعين صفحة يقدم تميم هنيدي عالم الاضطراب الوجداني ثنائي القطب عبر ثلاث عشرة قصة قصيرة متفاوتة الطول بين قصة في أقل من صفحة، وقصص تصل إلى ثماني صفحات، وبين بناء سردي كلاسيكي قائم على راو عليم يروي حكاية الحالة على الطريقة التشيخوفية، نسبة إلى الأديب الروسي تشيخوف، وراو مشارك على طريقة أدب الاعترافات والتداعي الحر في ما يعرف بجلسات التحليل النفسي، والبناء المتقطع الذي نلمح فيه رغبة في التجريب الشكلي.

وقد دارت هذه القصص حول حالات متعددة ومختلفة لمظاهر المرض وتشكلاته، والتي عادة ما تقرأ قراءة سطحية من المجتمع الذي يسقط عليها أحكاما أخلاقية وتربوية ولا يذهب أبدا في تحليلها والتعامل معها كحالات مرضية، وينعكس ذلك خاصة في حالات الانفصام كما في “قصة ياسمين حسن” أو يندفع هذا المحيط إلى استغلال المريض الذي يبدي طاقة زائدة في العمل، كما في قصة “الثور” عامل الكتب حمدي الذي تدفعه حالته الاكتئابية إلى إظهار طاقة خارقة، فيستغل في المطبعة من زملائه العمال ليقوم بأدوارهم جميعا، ولا يكتشف الأمر إلا عندما ينهار ويدخل في الحالة المعاكسة من الخمول وعدم الرغبة في العمل مطلقا.

بينما تأخذنا قصة “قناع” بطابعها الرمزي إلى حالة الاغتراب الذي يعيشه المريض، ومحاولته التأقلم مع العالم الخارجي على حساب مشاعره، ويضطر للعمل طوال اليوم بقناع آخر ضاحك حتى يدخل بيته آخر اليوم، ويقتلع ذلك الوجه الاصطناعي الذي فرضته عليه التقاليد والأخلاق وضوابط العمل وإكراهاته ليمارس حقه في البكاء في العتمة. حالة من الاستيلاب القصوى التي يدفعه إليها هذا المرض.

بينما تنقلنا قصة “ليس الليلة، لكن؛ قريبا” إلى الحالة القصوى من نتائج المرض وهي الانتحار، لنعيش قصة انتحار كارولينا فتاة الرابعة والعشرين دون أن يدرك من حولها سببا لإقدامها على إنهاء حياتها.

المشترك في هذه الشخصيات أنها شخصيات تراجيدية تعيش في عزلة نفسية وعالم مظلم لا كوى صغيرة يدخل منها الضوء. شموع تحترق دون أن ينتبه إليها أحد. نجح الكاتب في إيصال هذا العالم إلى القارئ من خلال قدرته الكبيرة على الوصف.

ليثيوم كتابة قصصية ذكية تقتصد في السرد والأحداث تكثف من الوقائع ملتقطة اللحظة الفارقة في حياة المريض التي تختزل كل عالمه المعقد. استطاع تميم هنيدي أن يجعل القارئ يتورط في القراءة إلى آخر الكتاب ملتهما حتى نصوص ما بعد النصوص: الكلمة الختامية والشكر التي جاءت بدورها في أسلوب حكائي خفف من طبيعة موضوعها العلمي، بل قرب عوالم هذا المرض وضحاياه من القارئ.

وقد أبدع في وصف هذا العالم وتشخيص هذا المرض بإحدى القصص: “عالم مبهم، لا يعرفه سوى من تردد عليه مرارا، لا أشجار هناك، ولا أنهار، ولا بشر، يا بني، لا أصوات سوى فحيح الأفاعي، لا لون سوى السواد، عالم قاتم، لا يشبه شيئا عايشته من قبل. هناك تغدو كقط مطرود جائع، لا صديق ينتشلك من قاع التراب، ولا أغنية تدخل الروح”.

يبقى السؤال قائما، إذا كانت الغاية من وضع هذا الكتاب كما يلح الكاتب هي العلاج بالأدب، ونقصد علاج المجتمع من الجهل وتوعيته بالمرض ليتعلم كيف يتعامل مع مرضاه، فكيف يمكن أن نطمح إلى ذلك في مجتمعات أمية تعاني عزوفا تاما عن القراءة؟ هل تبقى هذه المدونة أو الوصفات التوعوية غير التقليدية في انتظار مجتمع غير تقليدي لا يهرع للمشعوذين والسحرة  لإخراج الشياطين والأبالسة من مرضى الاكتئاب؟ وقد أسقط الاكتئاب نفسه الكثير من الكتاب  ودفعهم إلى الانتحار مثل همنجواي وفرجينيا وولف وسيلفيا بلاث حتى ديفيد فوستر والاس، وثبت أنه لا علاقة لانتحارهم بالفشل والنجاح المهني ولا بالسعادة والاستقرار العائلي، لكن انتحارهم راجع أساسا إلى إصابتهم بذلك المرض السوداوي الذي يحول حيواتهم إلى جحيم لا نجاة منه إلا بالانتحار.

فإذا كان هذا حال المشاهير المحاطين بالعناية والحب، فما بالك بحال إنسان عادي أو هامشي يصاب بهذا المرض ويكون محاطا بعالم عنيف وجاهل، وأكثرهم حظا من يدفع إلى رجال الدين والشعوذة، بينما يسقط الآخرون في عبودية المجتمع الذي يسلط عليهم كل أنواع التنكيل ويتعرضون لكل أنواع التعنيف لإخماد حالتهم الناشزة أو استغلالها.

*روائي وناقد تونسي

عنوان الكتاب: ليثيوم المؤلف: تميم هنيدي

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى