صفحات العالم

ليس امام النظام السوري متسع من الوقت سوى لمبادرة أخيرة


عريب الرنتاوي

بكثير من “النزق” و”العصبية”، تدير القيادة السورية الأزمة الراهنة التي تعتصر البلاد والعباد…وفي ظني أن إحساساً عميقاً بالعزلة والقلق والخوف على المصير الشخصي والعام، هو ما يفسر هذه الحالة غير المألوفة في رسم السياسات وإدارة الأزمات…وما لا يفصح عنه الناطقون الرسميون باسم بدمشق، “ينهمر” على ألسنة و”قبضات” أصدقاء سوريا في عدد من دول الجوار، كلبنان والأردن على سبيل المثال، حيث تحل الشتائم والاتهامات و”أكواب الماء” و”الحجارة” محل الكلمات والأفكار في التعبير عن المواقف.

وفي ظني أنها حالة مفهومة تماماً…فبين عشية وضحاها ينقلب السحر على الساحر…وتنتقل دمشق من ذروة لحظات انفتاحها وانفراجها، إلى واحدة من أسوأ مراحل عزلتها وحصارها…ويفقد النظام، بالجملة والمفرق، أصدقاء وحلفاء، لطالما تغنى بهم، وارتبط معهم بعلاقات شخصية وعائلية، وتحالفات تخطت السياسة إلى التجارة والأمن وبناء المحاور والتحالفات…حتى أن الخطر الداهم على النظام، بات يأيته اليوم، مما كان يُعد “مأمنه”، وإلى ما قبل ثمانية شهور خلت، لا اكثر ولا أقل.

وأحسب أن قادمات الأيام، سوف ترفع منسوب التوتر والقلق، واستتباعا الارتباك والفوضى في دوائر صنع القرار السوري…خصوصا إن تمخض اجتماع اليوم في المغرب، عن حزمة إجراءات وآليات، لإنفاذ قرار الجامعة العربية، وتوفير حماية للمدنيين والإعلان عن ملاذات حدودية آمنة، إلى غير ما هنالك مما يجري التلويح به من خطوات وإجراءات، ستجعل حياة النظام السوري، جحيماً لا يطاق…وستعطي في المقابل، زخماً غير مسبوق للمعارضة السورية على اختلاف أطيافها و”جغرافيّاتها”.

لقد بتنا نسمع الاتهامات من أثقل العيارات، تكال بالجملة والمجان، لأقرب أصدقاء دمشق وحلفائها…من أردوغان الذي كان وجوده في السلطة، مبررا دفع الرئيس السوري لاجتراح مبادرة “البحار الخمسة”، إلى الشيخ القطري حمد بن ثاني، الذي ارتبط بـ”زمالة” خاصة مع الرئيس السوري، مروراً بالرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي أخذ على عاتقه، مهمة إعادة تسويق في الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي.

اليوم، توجه السهام السورية إلى جميع هؤلاء، وتتحول سفارات بلدانهم إلى أهداف دائمة للمتظاهرين الغاضبين والمحتجين المدججين بالولاء للنظام….اليوم، لم يعد هناك سوى روسيا والصين وإيران وحزب الله والحزب القومي السوري الاجتماعي، لترتفع راياتهم في التظاهرات الموالية، والمضبوطة على إيقاع “الدوام الرسمي” للمؤسسات والدوائر الحكومية والجامعات والمدارس..ولا أدري بعد أيام، كم من هذه الأعلام سيبقى مرفرفاً فوق هامات المتظاهرين، لكن المرجح أنها ستنقص علمين اثنين: روسيا والصين، ومن يساوره شك في ذلك، فاليراجع تاريخ الدبلوماسيتين المعاصر وبالذات في السنوات العشرين الفائتة.

لم نكن نأمل أن تنتهي الأزمة السورية إلى ما آلت إليه…ولم نكن نريد أن نرى سوريا في هذه الزوايا الحرجة، يستأسد عليها كل من هب ودب…لكننا لا نجد أحداً غير نظام دمشق، لنلقي عليه باللائمة والمسؤولية…فهو الذي قاد البلاد والعباد، من أزمة إلى نفق، ومن ركود إلى استعصاء، ومن حل أمني إلى آخر عسكرياً…إلى أن وصلنا إلى نقطة اللاعودة، لا في علاقة النظام بشعبه فحسب، بل وفي علاقاته مع 18 دولة عربية، ومعظم دول العالم باستثناء حفنة قليلة منها فقط.

لم نعد نرتجي إطلاق أية مبادرة من النظام…فقد انقضى الزمن المناسب لإطلاق هذه المبادرات و”نفذ الرصيد”…لم نعد نأمل بحوار ومصالحة…فثمة من الدماء ما يكفي لجعل المهمة مستحيلة…جُل ما نأمله، أن يستيقظ الضمير في “ربع الساعة” الأخير، أو أن تستيقظ “الغريزة”، غريزة البقاء والحفاظ على الذات، فتدفع النظام إلى المبادرة إلى تسليم آمن للسلطة، ونقل متدرج للصلاحيات، لأطر وهيئات ومؤسسات انتقالية، تدير هذه المرحلة الصعبة في تاريخ سوريا، وبما يحفظ وحدة سوريا وسلمها الأهلي، ويبقي لها موقعها ومكانتها في الإقليم.

لم يعد ثمة متسع إلا لمبادرة واحدة أخيرة فقط: مشروع نقل السلطة وتسليمها إلى هيئات انتقالية متفق عليها…فكل حديث عن إصلاح أو تغيير، تقادم وبات ينتمي لعصر آخر…سلامة سوريا أولاً، ومن أجلها يمكن لأطراف عديدة، أن تتسامح في مسألة “سلامة الأشخاص ومستقبل الأفراد”…لا مبادرة أخرى يمكن أن تكتسب أقداماً تسير عليها، وسقف المبادرات العملية التي يمكن للنظام أن يطلقها، لا يتعدى “شروط رحيله”.

نقول ذلك، ونحن نعرف أن كثير من خصوم النظام، ليسوا أفضل منه، لا وطنيا ولا ديمقراطياً….نقول ذلك، ونحن نعرف أن كثير من المطالبين برحيله، هم أولى بالرحيل…وأن كثير من الداعين لإصلاحه، هم أحوج منه للإصلاح…لكنه العمى السياسي وشهوة السلطة وغريزة الاستئثار، تحجب عن أصحابها رؤية الوقائع العنيدة، فتكون النتيجة أن أكبر عدو للنظام، هو النظام نفسه…أليس هذا هو درس التجربة السورية الأهم، وبلا زيادة أو نقصان ؟!.

مركز القدس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى