صبحي حديديصفحات الرأي

ليلة إدوارد سعيد/ صبحي حديدي

 

 

جرياً على عادة سنوية تأصلت منذ 13 سنة، أي بعد انقضاء عام على رحيل إدوارد سعيد (1935 ـ 2003)، أكرّس ليلة 24/ فجر 25 أيلول (سبتمبر) لقراءات «سعيدية»، إذا جاز لي هذا الاشتقاق اللغوي؛ سواء مع أعمال الراحل، أو ما صدر من جديد حوله في ميادين الدراسات والمؤلفات، فضلاً عن مراجعة (وإعادة مراجعة!) كتاب عنه، أشتغل عليه منذ سنوات، ويتناول شخصية سعيد الناقد والمنظّر الأدبي. وهكذا، قرأت خلال الليلة الفائتة فصلاً بعنوان «ما بعد الأنسنية والحداثة التكنو ـ رأسمالية»، من كتاب «ما بعد الأنسنية والرواية المصوّرة في أمريكا اللاتينية»؛ وفيه يعتمد المؤلفان، إدوارد كنغ وجوانا بيج، على عمل سعيد «الأنسنية والنقد الديمقراطي»، الذي صدر سنة 2004 بعد وفاته، ونقله إلى العربية فواز طرابلسي.

كذلك قرأت دراسة طريفة، عنوانها «زهرة الأوركيد الفكتورية وأشكال المجتمع البيئي»، بتوقيع لين فوسكويل. وقد يتساءل قارئ عن صلة سعيد بدراسة كهذه، والجواب هو أنّ افتتان الفكتوريين بالأوركيد، ثم جلبها بكثافة من مواطنها الأصلية إلى بريطانيا، وتحويلها إلى مادة تجارية مربحة تماماً، كان يمثّل أحد جوانب المشروع الإمبريالي البريطاني، في جانب أوّل؛ وتحوّل، في جانب ثانٍ، إلى مسعى متعدد الأوجه ــ نباتي، وأنثروبولوجي، وثقافي، وبيئي ــ للبرهنة على أنّ التاج البريطاني أرض خصبة ملائمة لكلّ جديد وغريب و«إكزوتيكي». وأين، أفضل من «الاستشراق»، عمل سعيد الرائد، أمكن للدراسة أن تعثر على سابقة تحليلة معمّقة لهذا الأنموذج الأعلى في التفكير الاستعماري حول «الآخر».

أخيراً عدتُ (كما فعلتُ مرّات ومرّات!) إلى «جوزيف كونراد وقَصَص السيرة الذاتية»، أوّل كتاب متكامل نشره سعيد، سنة 1966، وكان في الأصل أطروحة الدكتوراه التي تقدم بها إلى جامعة هارفارد. وكما هو معروف، ينقسم الكتاب إلى جزئين، يتناول الأوّل رسائل كونراد ضمن خمسة محاور: 1) النزوعات نحو الفردانية، ضمن «أوالية الوجود بأكملها» كما عبّر مراراً؛ و2) الشخصية و«آلة الحياكة»، بوصفها استعارة التجاذب والتنافر بين شخصيتَيْ البحار والروائي؛ و3) نزوعات القَصّ، خاصة خلال الفترة بين 1896 و1912، خاصة وأنه كان يعمل على «لورد جيم» و«مرآة البحر»؛ و4) العوالم في حال الحرب، سنوات 1912 وحتى 1918، حين كان كونراد قد نشر 24 عملاً سردياً قصيراً ومتوسطاً، بينها «قلب الظلام» و«نوسترومو» و«العميل السري»؛ و5) النظام الجديد، حتى سنة 1924، حين اتخذت تأملاته حول عواقب الحرب الكونية صفة تشاؤمية بصدد مستقبل البشرية.

الجزء الثاني يرصد توازيات روايات كونراد القصيرة مع الديناميات الداخلية التي تجلّت في رسائله؛ في أربعة محاور: 1) الماضي والحاضر (حيث تتجلى إشكالية التنازع الشديد بين مفهومه الشخصي لعلاقة الماضي بالحاضر، وبين سلسلة المفاهيم الخاصة بتلك العلاقة كما عكستها شخصياته القصصية)؛ و2) حرفة الحاضر (بين الروائي والبحار، جوهرياً، ولكن ضمن خلفية خاصة هي استعادة الشاعر الفرنسي بودلير ومفهوم الزمن الحاضر في بعده الحداثي)؛ و3) الحقيقة والفكرة والصورة (وهنا يدشن سعيد أولى الأفكار الجنينية في أعماله اللاحقة التي ستتناول معنى الإمبريالية، اتكاءً على تشخيصات مارلو في «قلب الظلام»، وإضافات كونراد الكثيرة المبثوثة في رسائله، فضلاً عن اقتباس جورج لوكاش والإسهامات الماركسية حول الفردانية والاجتماع)؛ و4) «خطّ الظل»، وهو عنوان رواية قصيرة كتبها كونراد خلال سنة 1915، ويرى سعيد أنها تعكس تأملاته حول توازنات القوّة والبأس أمام الدمار واليأس.

وهكذا، على امتداد أحد عشر فصلاً (و219 صفحة، في طبعة الكتاب الأولى)، يساجل سعيد بأنّ كونراد مال إلى الروايات القصيرة أكثر من تلك الطويلة، وأنه رأى حياته الشخصية أقرب إلى سلسلة وقائع قصيرة؛ لأنه «هو نفسه كان أكثر من شخص واحد، وكلّ واحد من الشخوص ظلّ يعيش حياة غير مرتبطة بالآخر: كان بولندياً وإنكليزياً، بحاراً وكاتباً». وبمعزل عن الإغواء الشخصي الذي انطوى عليه هذا التفصيل في حياة كونراد، بالنسبة إلى سعيد ذي الشخوص المتعددة بدوره، كان ثمة ذلك التحدّي الآخر الذي أغوى الناقد والأكاديمي الفلسطيني ـ الأمريكي الشابّ: أن ينشقّ عن المألوف والعرف السائد، فلا يغرق في دراسة روايات كونراد الطويلة، بل أن يتوجه إلى تلك القصيرة تحديداً، في إجراء أوّل؛ وأن يتفحصها من زوايا السيرة الذاتية، ومعطيات الرسائل والحوادث الشخصية، في إجراء ثانٍ.

جدير بالذكر أنّ مفهوم الإمبريالية سوف يدخل مبكراً إلى عدّة سعيد النقدية، ليس بصدد شخصية مارلو في «قلب الظلام»، ومبدأ القوّة والأنانية والتمايز الفرداني كما تُلتمس عند كونراد في أصول ترتدّ إلى شوبنهاور، فحسب؛ بل كذلك في توسيع للمفهوم، سياسي وثقافي، سوف يرافق سعيد على الدوام. وبالطبع، هنا أيضاً، لم يكن مألوفاً في أوساط النقد الكونرادي أن يتجاسر ناقد وأكاديمي شابّ فيتكئ على شوبنهاور، لكي يساجل بأنّ كونراد أدرك الركائز الأخلاقية، ثمّ الإبستمولوجية، الإمبريالية الأوروبية.

كانت ليلة قراءات شاقة، غنيّ عن القول، باعثة على ما يؤرق الذهن ويمتعه معاً. ولكن، لأنها كذلك، خصوصاً في استذكار معلّم كبير، فإنها عندي بألفٍ مما أعدّ لسواها من ليالي «إعادة شحن» الوعي.

القدس العربي

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى