صفحات الثقافة

في ظل التحوّل العربي.. أيّ تحوّل للنص الأدبي؟

“النهضة”، المجلة المغربية الطليعية والجدية والخائفة في مختلف المسائل والمعضلات الثقافية والسياسية والفكرية بمقاربات أكاديمية، وحية، وخاصة، تصدر عددها المزدوج، والتي تحمل عناويت ومحاور عدة منها “جوامع الكلمة” وفيها أبحاث لنور الدين العوني، وسمير أمين وخالد العبيوي وأحمد المديني ومحمد الصغير جنجار.

وفي محوري حوار النظر، تركيز على عدد من المسائل المتصلة بالمغرب، عنوانها الأول “المغرب الحديث (1912 2012)، قراءات أولية في الحقبة، والثاني “نوافذ على المسألة الدستورية!.

وتقرأ محور “اليوتوبيا والتاريخ” بأقلام محمد الحبيب طالب، وعبد الاله بلقزيز وكمال عبد اللطيف.

اخترنا شهادة الروائي والباحث المغربي أحمد المديني بعنوان جاذبية اليوتوبيا.

يوحي السؤالان اللذان يشكلان عنوان هذه المقالة، والتي نكتبها تجاوباً مع رغبة هيئة تحرير المجلة في مساءلة واستشراف قضية الكتابة، والكتابة الأجبية، بصفة خاصة بوصفها تمثل صنفاً مميزاً ومهماً في رسم ونقل حركة التحولات التي تعرفها المجتمعات العربية كما نشهدها في الوقت الحاضر، ووفق ايقاع صيرورة متدافعة ومتقدمة: يوحي السؤالان بأننا نتحدث في ظل حالة استعجالية ولميقات لا يقبل التأجيل، محمّل بالنذر، محفوف بالأخطار، ويستدعي من العاملين، أو المنتجين في حقله التعاطي معه بأدوات وأشكال وصياغات، فضلاً عن رؤى أخرى، مراجعة، إن لم تكن جديدة تماماً، قابلة للتجاوب مع ما يبدو دق ناقوس خطر داهم. هي أسئلة كثيرة خرجت دفعة واحدة من قمقم الحيرة وغياهب التيه وضغط الحاجة وكبت القمع واستبداد احتكار القول والقرار. وهي كلها. أو جلها، وبقدر متفاوت من الجرأة والنباهة، تعيد تقليب تربة الحاضر، وتعلن شبه انتفاضة غير مسبوقة على هياكله وتمثيلاته، انطلاقاً من نزعات تغيير بتصورات ايديولوجية، وحسابات سياسية، أو حركات تلقائية يغذيها الآني على الأقل في الظاهر، جزئية أو شمولية معلنة في الواقع، من وحي وبحماس اللحظة التاريخية المتغيرة، التي لا مراء فيها، بمختلف التمثيلات التي انخرط فيها قسم كبير من العالم العرب، وأطلق عليها الغرب تسمية وصفة “الربيع العربي” تمييزاً عن فصول خريف وبوار باتت لصيقة بالزمن العربي، وقدراً مقدوراً.

يوحي السؤالان كذلك، ان أخذا على وجه الاستعجال، وبالكيفية التي يتم بها تلقي الأحداث الساخنة، وتقديم التأويلات الفادحة بأنها ويا له من زعم المرة الأولى، والمناسبة الرائدة التي يتولد فيها وعي بالزمن التاريخي بشمولية أسئلته ومكوناته، في خضوعها لمحك التحول والتغيير، كأنه شأن غير مسبوق، وكأن تاريخ هذه الأمة ليس الا نفقاً طويلاً، وسباتاً عميقاً، وغفلة بلا حدود. بل الأخطر من هذا وذاك، الايحاء ان لم نقل زرع الوهم المتعمد بأن تفتق الأسئلة الثقافية، وانبثاق الوعي بصفة عامة لدى النخب العربية، المتنورة بطبيعة الحال، لا التابعة والمدجنة، انما يأتي دائماً لاحقاً على سيرورة الواقع، وهي منفصلة عنه، مغتربة دون ديناميته، غير مسهمة، ولا فاعلة فيه بتاصيل وحيوية، كما يحلو للقوى المهيمنة تعميمه لتزيد من إحكام سيطرتها على مقاليد الأمور، وتُعمق الفجوة المزعومة التي تدعي وجودها بين النخبة والجماهير العريضة، تقدم لها نماذج فاسدة ووصفات هجينة للتغيير المنشود، وفي حالتنا لشعار وبرنامج الحداثة والديموقرايطة والتغيير الحقيقي الذي يتوق له الجميع، وارتاده دائماً مثقفون أحرار. هناك من يشيع ثقافة المحور، ويعمل بتخطيط على تبديد الذاكرة الجماعية، وتفكيك حلقات التاريخ وتقطيع أوصاله، بالانتقاء والمسخ والنفي، زيادة على الاقصاء كأسلوب استبدادي مباشر، وهو ما يشترك فيه، من اسف، يمين ويسار، طالمون ومنتهكون، ليستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ليبقى احتكار الخلق، كإرادة الهية مطلقة، بيد من يملكون احتكار العنف كدولة، وعندما يولد التغيير، فليس بإرادة الشعب ولا بتخطيط قواه المتنورة، وانما يعطى هبة. ان من لا يعترف بالحق ويعطل العدالة ويزور التاريخ ويموه التنمية الفعلية التي تقود الى تحقيق العدالة والاجتماعية بالأدوات الديمقراطية، لا يمكن أن يسمح بحرية الفرد، بحق الابداع الذي هو منبع التغيير والتجديد، شكلا ومحتوى.

ماذا يكون تاريخ العرب الحديث غير سلسلة متواشجة ومتقطعة في آن، من المشاريع الفكرية، والتصورات الابداعية، والنظم الايديولوجية والبرامج الاقتصادية والخطط الاجتماعية، المنضوية كلها في اطار الاصلاح والاحياء والانخراط في الزمن الحيدث، بغية الانعتاق من التخلف والاستبداد، وتوطيد إرادة الانسان، وحقه في القول والاختيار، عبر الانتقال الى عهد التقدم والتحديث على الأصعدة كافة أي باختصار من أجل النهضة. نهضة اتخذت منذ نهايات القرن التاسع عشر واستمراراً في القرن الذي تلاه عديد أشكال ونماذج واجتهادات، ينبغي اعتبارها كلها وتقويمها من المنظور النهضوي الصرف، بعيداً عن أحكام القيمة القدحية والتفضيلية، ما دامت خططها وأهدافها قد ذهبت في الاتجاه الاصلاحي التجديدي، واقتراح البدائل الناجعة ضد أمراض التخلف والشقاء.

وما هو تاريخ وسياق الابداع العربي في تعبيراته وأجناسه وأساليبه المختلفة، الا جماع تراكم ما تفتق منذ العقود الأولى للمشروع النهضوي العربي الأول، ثم امتداداته اللاحقة، الى وقتنا الحاضر، من نصوص وقوالب وصياغات ورؤى خلاقة، وليدة حاضر وزمن يموران بالصراع ويصطبغان بأحلام وتجليات غد يمتلك فيه الانسان الحر، والشعب المتحرر، أدوات جعل الجمال والابداع زادا يومياً آخر، وحلبة مركزية من حلبات الحياة، حيث يتجاور العقل والوجدان، ويتعانق الجميل والملتزم، ويتفاعل القول واللون والايقاع، في الكيمياء التي تنتج الحياة الضرورية الأخرى، بها يكتمل العيش الكريم أو لا يتم، مع ما يعد أكثر ضرورة من منفعة استهلاكية وحاجة طبيعية؛ انه لا إبداع إلا بمعنى الخرق والارتياد الخلاق وهذا ديدن وربيع الكتاب والمبدعين العرب الدائم، وسواه ظلام.

[ سلالة الجمر

رأيت من اللازم تسجيل هذه الملاحظات والانطباعات الفورية في مدخل موضوع على قدر جليل الأهمية، ليلاً يحسب أحد أنا كنا في غيبوبة، وها حدث بقوة ما نعلم نزع عن أعيينا الغشاوة، كلا، فنحن معشر الكتاب، من سلالة الجمر المتقدر والدرر الفريدة، لم نكن من أهل الكهف، ولا عشنا أو جلبنا حطباً للزبانية، ونحن أيضاً وبالدرجة نفسها لسنا عرّافين ولا حواة، نعم نحب أن نخلب الألباب، ونصنع الكذب الجميل، وهذا لغاية الحسن، لا لتمويه الحقيقة وتسخير الواقع ضد الواقع. وانما لتثويره وتصعيده الى ذراه وأعلى، لذا لم يجرفنا كما يفترض حماس الهتاف مقدم “الربيع” وكأن الربيع يختال حقاً، ولا باستطاعتنا أن ننكر اشراف بعض تباشيره كأنما خريف العرب وشتاؤهم لا فكاك سرميديان، فـ”بأي آلا ربكما تكذبان”. فلقد تكالب على هذا الفصل الذي بتنا نرى اليوم أفضل طبيعة طقسه، ونتحسس حرارة أيامه الحقيقية من لهبه الأولا لمفترض، تكالب كثير، العادي والبادي، يتحدثون باسم ما كانوا بالأمس القريب ضده، واذ ينعون مصير الفلول هم فلول، في ضرب من الكتابة يزعم أصحابها الحضور في المكان والزمن المناسبين، قد جردوا سيف الالتزام من غمد الوعي والكلام، وها هم يصولون في وظيفة “جديدة” كما صالوا في وظائف يرونها ستبور، ومن عاش طويلاً تحت نير السخرة يحتاج الى وقت طيول ليتعلم معنى الكلام/ الكتابة الحرة، المشبعة بإرادة التغيير الناضج، والتي لا تنطلي على مواهبها أوهام العابرة والبريق الخُلّب. ضد هؤلاء، تحمل المثقفون والكتاب الراسخون أن يقال بأنها لم تكن حركتهم، ولا وراءها وقدامها ايديولوجية/ات، بنت الفطرة، سبحان الله نزلت من السماء، وهي رد فعل على فشل كل مشاريع النخب العربية المتنورة في سبيل النهضة والتقدم والتحرر (كذا) وها هم السحرة الدجالون ممن اعتاشوا دائماً على النعي والخزي يجدونها فرصة مواتية لضرب الدفوف كي يعمّ ايقاع الجناز الأخير، مقابل تهاليل وزحف الطير الأبابيل، قد ضربت كل ذاكرتنا وحرقاتنا، ربحنا وخسارتنا، بحجارة من سجيل” كان لم يكن بين الحجون الى الصفا/سمير ولم يسمر بمكة سامر” ولن يحق لنا نحن (هم) الذي شيدنا صروح النهضة العربية، وأشعلوا فتيل أكثر من ثورة وأناروا دروب الكفاح بثمن تضحيات جسام، لا يحق لنا، لهم أن يكملوا ما قاله مضاض بن عمر الجرهمي بمرارة ما بعدها:” بلى نحن كنا أهلها فأبادنا/ صروفُ الليالي والجدود العواثر”. إنما تبقي لنا رغم كل شيء فرص استحضار ماضينا، نتحمل تركته، ونعيها بنقد متبصر، وكتابتنا نستجليها، نستأنف رسالتها، من حيث نطورها، وهي التي مهدت لكل الفصول الواعدة، وارتادت الآفاق الخطرة. واهمٌ، وضحلٌ من يحسب الأدب، الابداع عموماً شأن لهو وترف، ومن ينكر دوره أو يستخف، لا خيال له ولا وجدان، شأن عديد سياسيين بسطاء (بؤساء) هو غير مؤهل لقيادة مشروع التغيير والتقدم والتحرر، وإذن: افرنقعوا!.

والآن، وبمعدى عن الموقف المتطلب من حركات الانتفاضة ضد الأنظمة الاستبدادية العربية، وهو رافض وإداني بلا هوادة، فإن ما يعني في سياقنا أحسب هو المخصوص بالدرجة الأولى بكتابته، وما يقع في صلب تكوينها، مادة وبناء ومعنى؛ وما يعنيه وما أفترضه شاغلاً أساساً، هو بأي أدوات وإمكانات، شعورية وثقافية وخبرة اجتماعية وانسانية عامة، تنهض بالطبع على مقدرات لغوية وجمالية، ضمن رؤية معينة، تتأتى له ليواصل وضعه منتجاً في الجنس الأدبي الذي اختار لقول ذاتهن وتسجيل معاينته، ونقل تجربة متحركة كما تتمثلها رؤية فنان، ومواطن انسان، في آن، فكيف وهو اليوم، وأدواته، فوق مرجل وشرر؟!.

ها نحن أمام السؤال الصعب مباشرة: كيف نكتب النص الأدبي منذ اليوم؟

إن الظرف المشتعل، بحلقاته المتبدلة، وكل ما يحبل به من مفاجآت غير محسوبة العواقب بالضرورة، لا تترك أمام الكاتب فرصة للخوض في خصوصية مهنته، حين هي مهنة، وإنما تستدعي منه في نظر المجتمع الموقع الاستعجالي، موقف الشهادة، والانخراط في فعل التغيير، نظير ما يحدث تاريخياً في شأن الثورات وأدب المقاومة والتحرر، مع تأجيل ما غير ذلك، أو اعتبار الموقف الظرفي شأناً جمالياً وتقدير معيار نقدي بناء عليه. يكمل هذا السؤال أن فعل الكتابة ذو متطلبات، تنضج تحت نار هادئة، وكيفما كان الحال، فإن الشأن الجمالي، الكيفي للكتابة، لا يستوي في أوان التوتر، لا يتأتى وما يقع خارج النص في وضع التوتر، يصعب ربط الوشيجة المناسبة مع داخله، حيث مثوى تكوينه، أو هو انفعال عابر.

وقد طرحت، هنا وهناك، على لسان بعض الأدباء والنقاد أسئلة ذات طبيعة عمومية حول هذه الشجون، واتسمت في أغلبها بالتسرع في اصدار الأحكام، والمصادرة على المطلوب، وبنصب محاكمة للمثقفين والكتاب، مع وضعهم في خانة مفردة، كأنهم فئة واحدة، متجانسة تكويناً وانتماء ومصالح ورؤى، وبذريعة أن مجرى الأحداث المنتفضة في العالم العربي يقودها جيل آخر، مختلف تماماً، غير منغمس في اهتماماتهم، كما ان خطابه ولغته، شأن شعاراته، مستجدة، ولا يدين، من عجب، بأي شيء، لأي نخبة سابقة عليه، تحسبه ولد من عدم، وهب فجأة بهذه “الرسالة”. الأعجب، بعد هذا، أن لا نرى خطاباً منظماً لدحض هذه المزاعم، ولإعادة ترتيب الأوراق بكيفية تظهر المشهد العربي “الثوري” الراهن، ضمن شجرة انسابه الطبيعية، وفي السياقات الأقرب إليه، التي إن لم تلتقط جيداً، فأغلب الظن اننا سنكون ازاء فورة، لا ثورة، وان الأمر لكذلك، وتصبح الأسئلة والتساؤلات اللاحقة بها تداعيات لغوية، أكثر منها مصيرية وجوهرية. أغلب ردود الفعل تتسم بالتعجل والانفعال، بالارتجال، وهذا من شدة وقع صدمة استيلاء قوى لم يكن يحسب لها الحساب الكافي في الصف المتنور الديموقراطي على زمام الحكم والتشريع للحاضر والمستقبل، كما في تونس ومصر، باعتبارهما المختبر الأجدر لمجرى التحول والتحليل، وحيث المثقفون والكتّاب، توزعوا بين ثلاثة اتجاهات: الرافضون المنخرطون في مواقف احتجاجية مباشرة ضد سلطة حركة “النهضة” (تونس)، و”الاخوان المسلمون” (مصر)، والميالون للحوار، أو الى موقف حوار براغماتي (انتهازي) مع هاتين القوتين للاستفادة منهما وابتزازهما نوعاً ما في نطاق لعبة مشتركة محسوبة (حوار السلطة في مصر في اطار المجلس الأعلى للثقافة، من قبل العناصر نفسها التي كانت تتصدر المنابر الثقافية في عهد مبارك)، وأخيراً المنكفئون، المعتكفون، والمتأملون من غير المعجلين، راسخون في مواقفهم وقيمة أعمالهم، وعلى هؤلاء المعوّل في ما سيلحق الكتابة من تحول أن تووع، بشكل أو بآخر، ان لم نقل اجتراح النص الجديد.

[النظام التقني

لا جرم، فكل توجه نحو كتابة جديدة، بالمعنى الأصيل لا المتحذلق، مختلف عن نص أمس، لو صح أن أمس طوي، وفي الأجناس التي تنصرف اليها النصوص، وغيرها الخارقة للنظام الفني، ليتطلب أولاً اعادة توصيف ما كتبناه، وفرز مكوناته، وتمييز خصائصه، مادة واستيحاءات وأدوات، زيادة على الرؤى التي يصدر عنها، يقنلها، والتمثيلات المعبر عنها، مما هو موكول الى اختصاص الدرس والنقد الأدبيين، البعيدين عن العجلة، المنزهين عن أحكام القيمة، وهو رهان صعب بكل تأكيد، ومثلما تحتاج الثورات الى الاستقرار لفهمها وبناء الاستنتاج عنها، كذلك النصوص الأدبية وأكثر، ما لا يمنع من الاقتراب ولو جزئياً من بعض خصائص تعينت في النص الأدبي، شعراً ونثراً، وطبعته لتصبح وجهه.

ان اعتماد التجريد نهج كتابة، وبروزه طافحاً في القصيدة، أنّى نحت، بتوسل ما يصنع كيانه، بانقطاع عن مصادر الوجود الشعري، عن البيئة، والواقع الحي في عناصره ومسمياته الأرضية، ليطبع النص الشعري العربي الى درجة تحوله الى كتلة معميات، وتجتثه عن أي محيط، فاستلهام المحيط، والانتساب الى تربة، بالصدور عن ثقافتها ومخيالها، يمثل احالة واقعية، ويصنع للقصيد تعبيراً تمثيلياً، فضلاً عن دلاليته. نعم، جائز أن تكون القصيدة المعتمدة للتجريد نسقاً اختياراً مسبقاً، وليد وعي منظم، وطريقة قول للذات والحياة، ولن تتأهل على هذا المنوال الا بتجربة مختمرة، والتوفر على إحالات مركبة، متعددة المصادر، مضمرة فيها، هي عمادها ومدار حركتها، لا اللفظ منقطعاص عن معناه، وأي معنى. وقارئ الشعر العربي اليوم لا بد سيقف على متن عسير، عكر المقروئية، يتم فيه طمس المعنى، ظناً ان المحيط الأدبي والذائقة الشعرية تنكرانه.

وبصدد التعبير الشعري دائماً، يمثل المجاز، بوصفه طريقة متعالية للقول، تصعد فوق الواقع/ الواقعي، وهي تتوسله، متخذة من وساط بلاغية بالذات أسولباً غايته شرح الخاطر وبذر المعنى، قد تضافر لصنعه دال بمدلول، اذ الصناعة قطب رحى المجاز. وهذه هي طريقة قول الشعر عموماً، ما يرى أحد من أهل الاختصاص شعراً يمكن ان يسمو، اوحتى بلا خيال، او هو أراجيز مقررة؛ شعر منسوج في صياغة متفردة، موصولة بأجنحة الصورة، قد تناغم فيها اللفظ بالمعنى. هذا يفيد ان المجاز يحتاج الى مادته، والى ضرورة صيرورته مجازاً بالأدوات التي يتأسس بها، والعناصر التي منها يصاغ، وليس وشيا، أو مساحيق، أو تهافت القول، وهو ما ساد في مرحلة ركيكة من شعرنا القديم، غلب فيها التصنع والتزويق والتكلف على الفطرة والموهبة والبلاغة الرفعية. أما اليوم فحدث عن أهوال من هذا ولا حرج، وبأي ثمن!.

وإن من تجليات التعبير المجازي، وأدواته، الاعتماد على الرمز، غرف من عديد مرجعيات، لا يستخدم عادة لذاته، للاستغلاق، وانما قناعاً ولتكثيف وتضعيف القول، يغني القول كلما اندمج به، وخرج من رحمه، مسوغاً بصورته، مزكّى بدلاليته المتشبعة بالمعنى الحضاري، ارتقاء بعد المعنى الموضوعي، ككل. أي أن الرمز بنية مركبة قولاً، وصورة، وإحالة، ودلالة. والرمز الذي نشير اليه، وهو متفش في شعرنا، ولا يرقى اليه، من المفارقة في آنن لا يعدو كنايات واستعارات سطحية، عابرة، تلوينات لفظية زركشة، قل أن يشف عن معنى عميق، أو ينزع الى هذه الغاية بقدر ما يتأتى نتجة احباط خارجي، يكره الشاعر، الكاتب، على الكشف عن مشاعره، أو مضمون خطابه، فطبيعته وسياقيته ذرائعيان، كامنان فيه، وبالتالي يحق لنا أن نتساءل عن مآل النص، كيفية تشكله، ونوعية تمثيله، حسب الجنس الأدبي، في حال تحرر من اكراهه، وأضحى القول متاحاً، بلا عوائق. من هذا القبيل تغريب النصن بمعنى بناؤه تصوراً وصياغة من منظور الغرابة، بانفصام عن الاحالة الواقعية، وصنع اختراقات وانزياحات في جلدها وما التغريب بعيداً عن المجاز، فهو أدخل في بابه العام، ويختص بحالته حين يتفرد رؤية كلية، كل شيء يشتغل عندئذ في النص لتحقيق الغرابة جزءاً وشمولاً، لنا في نصوص محدودة، مصنعة حداثية، أمثلة دالة على هذا المنزع.

يتحقق في النص السردي أكثر من غيره، لنزعته الحكائية الضرورية لتجنيسه، بحضور قوي للتاريخ، والأسطورة، والحكاية الشعبية، إما معتمدة مباشرة، أو بنية خلفية، مستبطنة في النص، تحيل الى بنيته الخارجية، الى المحكيات الظاهرية، تارة، تعاضدها تارة أخرى، أو تراها تفترق عنها مستقلة في تجليها بنسق التخييل الأسطوري، والغرابي، لا التخييل الصناعي، لو جاز، المشحوذ بموهبة الروائي، طوراً. لدينا اليوم ي الكتابات الروائية، بين العربية السعودية واليمن، تحديداً، نصوص تتحقق فيها هذه الخاصية بتميز وطرافة ونجاعة، تدعونا للمساءلة عن سبب تخلقها على صورتها تلك، وأي مآل لفظي وشكل كانت ستتخذه لو لم يكن الاكراه الخارجي، الموضوعي، ما قاد كتابها، أقول أجبرهم على اقتضاء الغرابة والانزياح، ما نتج عنه طريقة سردية هي بنت تكيف مع طرف الاكراه، كضرب من التقية، وجعل التخييل يلعب بوصفه دائماً تمويهاً لعبته المميزة.

فإن جئنا الى الرواية التاريخية، أضحت من القوالب السردية المتكاثرة لأدبنا في العقد الأخير، يلتمسها الموهوبون، لكم هم قلة، ويهتبلها المتسلطون عنوة، يحولونها الى مكبر صوت لخطب سياسي، ايديولوجي، آخر نجدها أنها تستخدم أداة لاستدعاء تاريخ مقابل تاريخ، وقيم في مواجهة قيم، النصر/الهزيمة (في الحاضر)؛ الانحطاط/ المجد (في الماضي)، وغيرهما من معارضات “ميكانيكية” كثيراً ما تفتقد الحس التاريخي، برؤية مبسطة ومعنى ضحل، يتناسى فيهما أصحاب الطريقة أن أمس ليس اليوم، ولا المخيال الماضوي يمكن استعارته دائماً قالباً لمخيال الحاضر، اذ التخييل الفني جنس أدبي بمعاييره في السرد الحديث، حتى في لبوس الرواية التاريخية، والحكاية، وما في ضربهما، اللهم لدى تطويعهما لخدمة منطق الرواية الحديثة، لا بجعل السرد تعلة تنفيس عن احباط.

ثمة أمثلة أخرى لتوسيع وتميق القول في هذا الموضوع، القرين بامكانات واحتمالات تحول النص الأدبي في ضوء تحولات بيئة تبلوره، ما يثير من بين قضايا اخرى مسألة الواقعية، مفهوماً ومنظوراً، وكيفية. هي الكيفية عينها يمكن ان تصبح موضوعاً مستقلاً لمعالجة القضية التي نحن بصدد تأملها، إذ الشكل في علم الجمال ليس هيئة خارجية، حسب، ولا دالا منبتاً، بل نسغه، خيوطه وغزله على نول محدد، مرتبط بمادة نسجه، إذ الترميز والتغريب، مثلاً، يأتيان على مقتضى عبارة وتصوير محددين، إما يعنيانهما أو بهما يوحيان. وكم يفتقر النقد العربي الى دراسات، بالأ؛رى التطبيقات على نصوص قوية، ودالة من هذه الناحية، لتميز المدونات اللغوية والبلاغية، إهاب التشكيلات الاسلوبية، في النصوص الشعرية والسردية، وعندئذ لنتبين الى جانب كيفية صوغ المعنى، كيف يتم تعويقه وتطويعه في علاقة طرد وعكس مع شروط بيئة كتابته وقهره، من قبيل هيمنة السلطة السياسية، والرقابة، والقيم السائدة، ومثله مما سميناه بعامل الاحباط الخارجي.

مما لا شك فيه، ان النص الأدبي، وهو مغلول الى قيود احباطه، وخاضع لاكراهات بعينها، ينتج بدوره اكرامية تلقيه، بحيث يسنن طريقة في التلقي تأتي مختلفة في ما لو كُتب في ظروف موضوعية مغايرة. وإذا كان التلقي هو مستوى وبروتوكول قراءة، وثقافة ومنهج تأويل، فإنه يستوجب قبل ذلك، ومعه، قارئاً عارفاً بدليل السير وسننه ليعيد النص الى منبعه، جيئة وذهاباً، قبل أن يتعرض للكوابح، أو وهو يحاول القفز فوقها. في كل حال، فإن هذا المتلقي، في حالة الاحتراف، والقارئ العام، تربّى على نصوص بعينها، وتعلم محاورتها وفهمها، من ضمن البنية التي يعمل فيها الكاتب نفسه، ويستقي منها نصه، روح نصه بالأحرى. ما يدفعنا إلى القول بأنّ التيغير الذي يطول المجتمع، أو يطمح إليه، وسيمضي فيه لا محالة، اعدالاً أو جذرياً، يمر ايضاً، عبر عملية التلقي، ويحتاج الى سندها، فالكتابة ليست أبداً من طرف واحد، صوت متعدد الأبعاد والعلائق.

لا تكتمل الصورة إلا بالإشارة إلى التيمات الكبرى التي عمرت كيان النصوص، واشتغل بها الأدباء طوال عقود تحديث الأدب العربي وربطه بمشاغل زمنه وهواجس ناسه، وتختصر في الحرمان بأنواعه ونُشدان الحرية، ضمن الرؤية الكبرى للواقعية. وستواصل هذه التيمات حضورها بقوة طالما استمرت مسبباتها، بما يجعل ادبنا محاصراً بالحاجات الأولية، بالضرورة، وملزماً أكثر بمواقف الشهادة والتعبئة بتواز مع السائد في المجتمع، والحال أن الأدب الكبير، العظيم، يحتاج إلى التحرر من الإلزام، وإلى التعبير عن أعماق النفس الإنسانية والآفاق الأرحب، عن الذات والوجود والكيانات القلقة، في عالم يفتقد فيه الانسان الى الامان والطمأنينة، ولا يكف عن البحث عن يقين وقيم متجددة لا عن معتقدات ثابتة الى الأبد. كذلك هي لغته وأساليبه وجمالياته عموماً، أبعد ما تكون عن الاستقرار في قوالب نهائية، وكلما استقرت في نظام انزاحت نحو نقضيه في جدل دائم بين حميا الحياة وقلق الكائن وأسلوب قولهما، على نحو مغاير. نزعم، إذن، ان ربيع الكتابة العربية قد انطلق منذ وقت بعيد، انها ما انفكت تتجدد، ومرتادوها ذوو المواهب الخلاقة، هم مَن يتجاوزون التوتر الآني في اللحظة الاجتماعية، بعد امتصاص نبرتها، نحو تعبير الكثافة والشفافية الانسانية، حيث التعبير قول وموقف واستيهام وأجنحة وحلم، وحقيقة لا يطولها إل الوهم، هاربة أبداً لتستمر الكتابة حالمة. لا أحد يعرف كيف سيكتب غداً، لا أعرف إلا من خلال مواصلة بحثي وحياتي على نحو مختلف، ولو عرفت مسبقاً فسأكف عن الحياة بإحساس ووعي، لكنني في الآن عينه لن انتظر، لا ينتظر الكاتب ما سيحدث غداً ليبدع نصه الخلاق، أو هو مقلد، جامد، ان “شرعيته” تتحقق في قدرته على الاستشراف واختراق الآفاق، النص الجدير بالكتابة، الوجود، أقوى وأبهى من كل الفصول.

أحمد المديني

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى