صفحات الثقافة

لينا شماميان… عجزت عن كبح دموعها امام الجمهور وعن اخفاء تعاطفها مع الثورة

 


مازن معروف – القدس العربي:

قد لا يكون للهوية، بمعناها العرقي أية اهمية الآن، وبخاصة إذا كان المرء سوريا. فالحرية هم إنساني في المقام الاول، وحق شددت عليه الجماهير منذ أن بدأت تشارك في الحياة السياسية بعد أفول زمن الأمبراطوريات، والتحول الأنظمة إلى برلمانية.

وبهذا المعنى، فإن الفنانة السورية لينا شماميان، تحمل في دمها ثقافة عربية وأرمنية وتراثين يتقاربان كثيرا دون أن يتخلى الواحد منهما عن خصوصيته أو قيمته في الموروث الحضاري الإنساني العام. إلا أنها في بيروت، لن تفكر سوى ببلدها سوريا. يطفو القلق على سطح الحوار معها حول مشاركتها في مهرجان بيروت للموسيقى، فهناك، وعلى مبعدة من سلسلة جبال، تقف سوريا، على أكتاف ابنائها الذين تصغي شماميان، بألم إلى أنينهم، وإن حاولت أن تحتفظ بالمها الخاص لنفسها، وأن تتفاعل معه خارج التصريحات الإعلامية. لم تقف لينا شماميان على المسرح منذ بدء الثورة السورية. هزتها الاحداث الأخيرة، وجمَّدت فيها الرغبة في الغناء. أي معنى تحمل الموسيقى في ظل الموت الواضح؟ وما الذي باستطاعة فنانة شابة تقديمه لابناء يموتون يوميا، بغض النظر إلى الجهة ينتمون إليها بحسب الفنانة. كلهم أبناء الوطن تقول، وإن أرقها أخبار القتل، فإن ذلك لا يحول دون أن تكلم ناسها في سوريا، مشيدة بهم، وبدمائهم التي بذلوها. لا تفرق شماميان بين موت مواطن وموت آخر. الجميع، وعلى اختلاف انتماءاتهم، ابناء الوطن، وهم في النهاية ضحايا، سواء اظطروا إلى مواجهة الموت، وهم يعرفون بهذا، او قتلوا غدرا.

مشاركتها في مهرجان بيروت للموسيقى، كانت قرارا نهائيا بعد تردد طويل. صوتها، المتنقل بين اغاني الشتات الارمني والتراث السوري، تجاوز الدلالة الفنية، ليكون في نهاية المطاف، سفيرا يصوِّر رائحة الشام ودمشق والأحياء وحالات الحب ومساءلة المجتمع، منقطعا بين حين وآخر إلى مخاطبة الجمهور اللبناني، حول ألم الحروب وألم البلد الذي يتجاوز بمراحل ألم الذات أو أي ألم شخصي آخر. عجزت شماميان عن كبح دموعها أمام جمهور لبناني بدا متحمسا للثورة السورية ومتعاطفا معها إلى حد كبير. القدس العربي التقتها في بيروت قبيل الامسية.

‘ ما هي العوامل التي دفعتك إلى الإشتغال على التراث الموسيقي السوري؟ وهل كان من السهل التعاطي مع هذا الإرث وتجديده؟

‘ كل ما حدث كان عن طريق الصدفة. اظن ان الصدفة هي التي تجرف الفنان نحو مصيره الفني في بادئ الامر. دعني ابدأ من الشق الثاني في السؤال. ففيما يخص التراث السري، لطالما سحرت به، واحببته. كنت استمع دائما غلى الاغاني التراثية. حرصت فيما بعد على أن اشتغلها وأعيد تسجيلها لكن بالطريقة التي استمع إليها في داخلي. اردت أن أبيِّنها أيضا بصوتي الداخلي. أما بشأن توزيعها موسيقيا، فأعتبر نفسي كذلك محظوظة إذ صدف أيضا وتواجدت مع أشخاص لهم رؤيا مجددة وشبابية وجميلة في الكتابة الموسيقية. وقد تقاطعت توجهاتنا، وكان أمرا جميلا جدا أن تلتقي باناس يشاطرونك الخيار نفسه، وهو امر أعزوه كذلك غلى تواجدي في الكونسرفاتوار في سوريا. الموسيقيون الذين تعرفت إليهم في تلك الفترة، كانوا قد وصلوا مراحل اكثر مني، في الجاز تحديدا، فكنت اتعلم معهم وأجرب. وأول اغنية عملتها معهم كانت ‘هلأسمر اللون’ ثم ‘على موج البحر’. التراث مساحة غنية جدا، وجميلة وواسعة أيضا. أحس أن لا تدوين للتراث العربي، كما أن هناك دوما ذلك الاتهام للتراث على انه موسيقى قديمة. التراث ليس موسيقى قديمة، وإنما هو الموسيقى القديمة الاصل التي تحمل في طياتها تطور المجتمعات التي عبرت بها. لأن على كل موسيقي او فنان واجب ان يضيف شيئا على القاموس الموسيقي، وهي تتم بالتناقل. كما إنها تعكس ريقة حياة الناس. حينما تدخل في ثنايا الموسيقى التراثية، تومض أمامك أشياء وتفاصيل لم تكن قد لاحظتَها أو فكرت فيها أو وصلتَ إليها من قبل. ثم يصبح الامر كسلسلة، اغنية تؤدي إلى أغنية أخرى، وتجد نفسك ماخوذا بالتبحر اكثر في هذا التراث واستنهاضه بروح معاصرة وتوزيع جديد. مثلا، اعثر على أغنية تعبر عن بيئة معينة، ويصبح السؤال، كيف يمكن لي أن اترجم هذه الاغنية في الوقت المعاصر بصورة تشبه تلك البيئة، بيئتها الاصلية. تحولت المسألة من مجرد صدف إلى بحث جدي، ومسؤولية وطريقة الطرح واغناء والتفكير في الاغنيات.

‘ لكن، بما انك أديت أغنيتك الأولى وأنت في عمر الخمس سنوات، فنفترض بأن منزل العائلة شماميان هيأ لك مناخا مواتيا للتعلق بلموسيقى والتعرف عليها منذ الصغر، وأسس لمكونك الفني. هل هذا صحيح؟

‘ نشأت في بيت غير تقليدي. فأن تنتج عائلةٌ، فتاةً تغني، ليس بالأمر السهل. في البيت، كان أبي موسيقيا. أبي كان عازف ساكسوفون في فرقة كان مديرها إيطالي. كما أن عمتي كانت قائدة جوقة أرمنية. بالطبع، لم يكن ذلك مستحبا من قبل المجتمع بالنسبة إلى العمة، غير أن ذلك يعكس البيئة العائلية التي آمنت بالموسيقى رغما أنف الاعتبارات الاجتماعية الضيقة آنذاك. أما من جهة امي، فكانت البيئة مختلفة، تهتم بالتحصيل العلمي الاكاديمي. كان لدي بيئتان مختلفتانن إلا انه في المحصلة، كان هناك حبا للموسيقى وتعلقا بها. منذ صغري، كانت الألعاب العابا موسيقية، والهدايا كتبا. ربيت في بيت كانت الحظوة فيه أن تعمل فنا. أما الوقت الذي كنت اقضيه مع ابي في طفولتي، فكنا نملأه بلعبة من نوع خاص: الصولفاج على البيانو. كانت فعلا لعبة غريبة وليست سهلا عليه ايضا. عندما أتممت دراسة التجارة، فزت بجائزة في مسابقة الأغنية الفرنكوفونية، ثم بدأت العروض تنهال علي لإقامة حفلات غنائية. ثم اعتبر البعض ان خامة صوتي من النوع النادر. تنقلت من الجاز إلى الكلاسيك ومن ثم عدت إلى الجاز بعد اكتشافي لمجموعة من الشبان الموهوبين والمهتمين فعلا بهذا النوع من الموسيقى.

‘ كيف تجدين بيروت الآن، التي تبعد مسافة عشرات الكيلومترات فقط عن سوريا؟ ألا تري فيها مدينة كسولة في ظل الثورات الجارية في العالم العربي؟

‘ على العكس. أظن انها مدينة ناجية. ما تمر به المدن العربية كافة أمر صعب. يمكنك كفرد ان تشعر بالشلل وأنت تتفرج على الأحداث. آخر حفلة لي كانت في 21 آذار/ مارس الفائت. بعدها، شعرت بالشلل أمام ما يحدث في سوريا. أُلغيت بعض المشاريع، وتأجل إطلاق البومي الجديد أيضا. توقف كل شيء. بيروت، هي المدينة الوحيدة التي عبرت بكل هذه الظروف، وهي مدينة، مهما تعرضت للالم، تراها تنهض مجددا، وسريعا، بوقت قياسي، لتعيش من جديد. ليست مدينة درامية، هناك تحد، ورغبة بالحياة، ومهرجانات متنوعة.

لكن، ربما كان ذلك بسبب النظام الطائفي الذي لا يتيح تشكيل راي عام لبناني ذي قاعدة مؤثرة أو محركة للجماهير لكي تخرج إلى الشارع وتتظاهر. اللبنانيون منقسمون ومشتتون، لذلك لا إمكانية ربما لحدوث ثورة، وهذا لا يعتبر نجاة بأية حال.

لا أعتقد ذلك. لا أتكلم عن ثورات أو غيرها. أنا اتكلم عن الظروف السياسية العاصفة التي قد يمر بها أي بلد في وقت من الاوقات. هناك عوامل كثيرة تتدخل، كالتكامل الاقتصادي، والضائقة المعيشية والسياسية، والموقع الجغرافي وغيرها. لكن تكيُّف بيروت مع الاحداث على أن تكون ناجية وليست ضحية، أمر عظيم. في كل مرة، تزداد هذه المدينة جمالا.

‘ أنت تقدمين تراثا سوريا بحلة معاصرة. وبما أن ما يحدث في سوريا الآن يجذب اهتمام الناس في المقام الاول. هل ترين أن تفاعل الناس معك اختلف، او أصبح اكثر تعاطفا كونك مواطنة سورية؟

‘ كان صعبا علي ان أستعيد لينا شماميان على المسرح. هناك وجع حقيقي في بلدي. الناس موجوعون. طرحت على نفسي سؤالا: ما الذي أفعله؟ الشلل الذي أصابني بسبب الأحداث في سوريا، كان كبيرا. أنت فقط في حالة ترقب، لا تفهم شيئا. ترى وتشاهد ولا تستطيع تفسير الامر. لا يكفي أن تكون موجوعا، عليك إما أن تعيش أم تموت. حالة النصف حياة الصف موت هي أبشع من الموت نفسه. أحسست بأنني إذا كنت أريد أن اقول شيئا عن سوريا، فسأقول بأن بلدي هو اكبر من هذه الفترة المؤقتة. هو بلد عمره خمسة آلاف سنة. اعرف أنها مرحلة وستعبرها سوريا. أقل ما يمكنني فعله لهذا البلد هو أن ابقى على قيد الحياة. لو كنت أماً، فبالتأكيد سأريد لأطفالي أن يحيوا. أبسط ما يمكنني أن أفعله للشعب الذي أنا منه، هذا الشعب الذي يموت كل يوم، هو أن أقول أن هذا البلد سيظل حيا. كنت في سوريا طيلة فترة الاحداث. لم أهرب. طريقة غنائي اختلفت. أشعر بهذا. اشعر بأن كينونة صوتي تغيرت. تختلف علاقتك ببلدك في حالتيِّ الرخاء وعدم الإستقرار. لم أعرف مثل هذا الشعور من قبل. أعيش هذا الشعور لأول مرة. كنت أرى وأتفاعل مع ما يحدث في لبنان وفلسطين، وحتى مع ما حدث في تونس ومصر، إلا أن الامر يختلف حينما تعرف انها بلدك، وأن احدا ما تعرفه، مات. هناك حكمة تتعلمها من الالم، وهي حكمة لا يعلٍّمك إياها الرخاء.

‘ هل ستعودين إلى سوريا بعد حفلتك هذه؟

‘ كلا، لن أعود. ليس لأنني لا أريد العودة بل لأنه سيكون علي العودة إلى باريس لمتابعة دراستي الموسيقية في البيانو جاز، كما سيكون عندي جولة فنية في فرنسا وأستراليا، وعلي أن أكمل تسجيلات تتعلق بألبومي. هناك مجموعة اشياء تلزمني بالبقاء في باريس. أنا ابنة سوريا، وسأعود بعد إتمامي لالتزاماتي الفنية والاكاديمية في الموسيقى.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى