صفحات الحوار

لينا هويان الحسن: داعيات الثقافة ينتقدن «الجنس الصريح» في رواياتي/ حوار ـ كه يلان مُحَمد

 

 

تمكنت الروائية السورية لينا هويان الحسن من نحت أسلوب خاص بها، فأعمالها الروائية مُعبقة بنفس أُنثوي، إذ أن المرأة ليست مجردَ عنصرِ مكملٍ في عالم الآخر، بل هي من تؤثث فضاءها، وترتادُ دروبا مُلغمة بتابوهات، لذلك فمن يقرأُ أعمال مؤلفة «بنات نعش» يدركُ أنّ المبدأُ المحرك وراءها، هو أن السرد الذي لايُؤنثُ لايُعولُ عليه. كما أن ميثولوجيا الصحراءِ تُطعمُ بنية رواياتها بفانتازية شفيفة. يذكرُ أن آخر إصداراتها «بنت الباشا» أثارت ردود فعل متباينة بين مرحب بها ومنتقد لها.

وكان لـ«القدس العربي» هذا الحوار مع صاحبة «نازك هانم» حول تجربتها الروائية والمصادر التي تستمدُ منها الخصوصية.

■ تحفلُ رواياتك بشخصيات نسائية، بل إنَ معظم أعمالك تحملُ عناوين تُحيلُ إلى فضاءات أُنثوية، هل أردت بذلك إنصاف المرأة التي ظل وجهها مغمورا في سجل التاريخ الرسمي؟

□ لطالما قدّم الأدب العربي نساء هشّات يتوقفن عند جرح الحب الأول، يغدون محطمات مع أوّل قصة حبّ. وغالبا ما ارتُكِبت هذه الحماقة بأقلام نسائية. على مدى نصف قرن من الإبداع «النسوي» العربي، غالبا ما قُدّمت كشخصية متفانية، منهكة، تحمل شعارات كثيرة لحياتها، أهمها «الرجل الظالم الغاشم الذي لا يعرف الحب بقدر ما يعرف الخيانة». بطلات كهؤلاء كن مفضلات دائما لدى أديباتنا، تحديدا الجيل الذي سبقنا، وما زلت أقرأ لكاتبات من جيلي، الأنماط ذاتها، لم تتغير. بالنسبة لي، عمدت لاختيار «أنثى الضفة الأخرى» المرأة المستبدّة على نحو خفي، تفعل كلّ ما تريده عبر الحيلة، ربما يسوء نساء هذا الزمن الاعتراف بأن جداتنا كن أذكى منهن، كانت المرأة تنجب قبيلة من الأولاد تربيهم بدون أن تزور عيادة الطبيب النفسي مثلا. نساء هذا الزمن معطوبات، أنظر مواقع التواصل الاجتماعي وانظر حجم الحمق في تسوّل الحب والاهتمام، على طريقة المراهقات. لهذا اخترت نسائي «المحتالات، الشريرات، اللعوبات». أردت تسريب بعض العدوى للقارئات. وللأسف تتعرض رواياتي لحرب دائمة من قبل الناقدات والكاتبات والصحافيات، لأن بطلاتي، سيّدات قويّات يصعب تقليدهن. وهذا سبب لي عداوات كثيرة ومعظم الآراء النقدية التي تعرضت لها هي بأقلام «نسوية» أقلام تكرّس المرأة «المراهقة». إنهن يرفضن فكرة النضج على طريقة «برلنت» في «الماس ونساء»، أو فكرة التمسّك «الأنا» على طريقة نازك خانم، أو القدرة على تغيير الحياة، رغم أنف الكل مثل بطلاتي في «سلطانات الرمل». وبين وقت وآخر تنتقدني إحدى الكاتبات بسبب ما تسميه «الجنس الصريح» في روايتي «بنت الباشا». لا أعرف كيف سنتطور ولدينا داعيات الثقافة اللواتي يتربصن بما كُتب عن علاقة حب بين بطلة وحبيبها، كيف لي أن أكتب نصّا منقوصا؟ أحدهم وصف «بنت الباشا» على الإنستغرام بأنه يصعب تركها في البيت، بسبب احتوائها على مقاطع جنسية فاضحة؟ بينما هو نفسه يروج على صفحته لكتب هنري ميللر؟ من يفهمني هذا التناقض والغباء الثقافي؟ احدى الكاتبات وصفت روايتي «الماس ونساء» أنها تروّج للعهر؟ بينما تستشهد بمقالاتها بأقوال لفرجينيا وولف وأناييس نين، اذن مسموح لأناييس نين أن تكتب عن الجنس، لكن ليس مسموحا لي أن أكتب شيئا من ذلك. من يفسر لي هذا المأزق السخيف، الذي لا أتوقف عنده إلا على سبيل المزاح والاستهزاء؟

■ في روايتك الأخيرة «بنت الباشا» تبدو مدينة دمشق فضاء مُنفتحا على التنوع الديني، كما أن هناك احتفاء بالتراث الصوفي الذي يزخرُ بنزعات إنسانية مُناقضة لاصطفافات مذهبية، هل تعتقدين أنَّ استعادة هذه الصورة روائيا يساهم في تكريس وعي مضاد للتزمت؟

□ دائما ما أختار قصصا حقيقية، وأبني النص وفق شخصية اختارها، عشت جزءا كبيرا من حياتي في منطقة «ركن الدين» في دمشق، تعرفت على الشام من خلال نسائها، لطالما سمعت الحكايا تخرج من أفواه نساء تُلّقب الواحدة منهن بـ«الآغاية»، أي مؤنث «آغا». يتكلمن بينما أناملهن الارستقراطية مزينة بخواتم ورثنها عن جداتهن. فمعظم أمهات وجدات دمشق القديمة هن من «الكرجيات» أي الجواري الروسيات، وصلن دمشق من خلال أسواق النخاسة التي ظلت مزدهرة حتى أواخر القرن التاسع عشر، وكثير من صديقاتي كن يحتفظن بصكوك العتق لجداتهن. وقد زودت الرواية بأحد تلك النصوص القضائية التي تشبه حكــــاية خيالية أكثر من أن تكون حكما قضائيا يعتق عبدة أو جارية. كن يتحدثن عن علاقات الجوار الرائعة بين الأديان الثلاثة الرئيسية التي تعايشت في دمشق لقرون طويلة: «إسلام، ومسيحية ويهود» إضافة إلى العجينة الغريبة التي كوّنت سكان دمشق على مرّ القرون، من شركس وأرمن وتركمان وأكراد، أذريين وداغستانيين وتتار وأتراك. لدمشق حكاية فريدة مع التنوع، والتعايش الديني والمذهبي والطائفي، أردت استعادتها من خلال أعمالي للتذكير بذلك العالم المطمئن، الذي نعمت به دمشق رغم محاولات مشبوهة ومتكررة من قبل القناصل الأجانب لإثارة النعرات الطائفية بين وقت وآخر، لكن دمشق نجحت دائما في التغلب على التعصب.

■ بنية الرحلة مُهيمنةُ على رواياتك وأن الشخصيات الأساسية دائما مسكونةُ برغبة الانتقال من مكان إلى آخر، هل يمكنُ تفسير ذلك بأنَّه مجرد عامل لإضفاء مزيد من التشويق إلى بناء العمل، أو إضافة إلى ذلك يوجد ما هو مضمر وراء هذه الرغبة؟

□ أركز دائما على فكرة «التغيير، التجدد، الانبعاث، الانتقال» إذا لم يعجبك المكان، غيّره، لم لا؟ أشجع دائما على هذه الفكرة التي ركزت عليها من خلال الحديث عن ذكاء «الأفعى وهي تجدد جلدها وتخلع ثوبها القديم لتنمو» فالمرأة عليها أن تكون جريئة بخطواتها، أحاول تقديم ذلك النموذج بدون ملل، لأنه نموذج مستفز وقد يحدث صدمة لدى النساء الخانعات، وقد يكرهن «بطلاتي» لكنني أثق بأن ذلك كفيل بزعزعة قناعاتهن. لا، لحياة المستنقعات التي تشجع عليها تقاليدنا البالية.

■ يُحمّل الروائيون شخصياتهم جزءا من تجاربهم الحياتية ويُنطقونها بأفكارهم ورؤاهم هل هناك شخصية بعينها من بين الشخصيات التي نحتَّها تُمثلك أكثر من غيرها؟

□ لا أنكر أننا نكتب «مذكرات، خفيّة» نضمنها لأعمالنا، وكلّ بطلاتي هن جزء من أبعادي الكثيرة فلا أعرف حقا كم أنثى في داخلي، كلما أعتقد أنّي كتبت عن الأنثى الأخيرة لديّ، أكتشف أنها جزء من قبيلة نساء متباينات، غريبات، محيّرات، مستفزّات، لديَّ الكثير منهن. وفي كلّ مرة تتبدى سيدة جديدة لم أحدس أنها موجودة مختبئة في غابتي. فالكاتب يحمل غابة سحرية في داخله وكلما هزها أخرجت كائنات سريالية غريبة.

■ رواية «الذئاب لا تنسى» مستقاة مادتها من تجربتك الذاتية مع أحداث سوريا التي لا تزال حلبة للصراع بين الملل، وأضحت الروايات التي تستندُ إلى مشاهدات عيانية وهي قريبةُ في صياغتها من القوالب الخبرية نوعا رائجا. برأيك على ماذا تراهن تلك الأعمال لكي تُقرأ في المستقبل؟

□عندما كتبتُ «الذئاب لا تنسى» كانت جزءا من مذكراتي، لم تكن إلا مدة خمسين يوما تقريبا، إنها نص «السيرة»، لكنها مطعمة بأحداث الفجيعة السورية اليومية، ما كتبته لم يكن رؤية، إنما شهادة شخصية تتخللها الكثير من الذكريات عن البادية الشامية التي عرفتها خلال طفولتي، ليس هنالك أكثر بؤسا من تدوين الأحزان الشخصية المتمثلة بمصرع أحد أفراد العائلة. كتبتها لأشفى قليلا من حزني، لم أُحَمْلها رؤية سياسية محددة لكي لا أغامر بتصنيف نصي أو قلمي لأحد الأطراف المتصارعة في سوريا لكي أتجنب سمة: «مع، أو، ضد» أردت المحافظة على استقلال قلمي قدر الإمكان.

٭ كاتب عراقي

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى