صفحات سوريةميشيل كيلو

مأزق الإسلام السياسي/ ميشيل كيلو

 

 

هناك ظاهرة تحدّت الإسلام السياسي بقوة، مذ وجد “الإخوان المسلمون” أنفسهم أمام سؤال: ما العمل، الذي طرحته عليهم مبادرة النظام الناصري إلى إحكام قبضته على المؤسسة الدينية، الأوقافية والأزهرية من جانب، وتبين لقادتهم أن عائد نشاطهم الدعوي يميل، سياسياً، نحو الصفر، وأن بديله العسكري لا يستطيع حماية الجماعة، بل هو مكلف إلى درجةٍ تهدّد بالقضاء عليها، كما أكّد، خلال الخمسينيات، صدامها مع النظام العسكري الجديد في القاهرة، من جانب آخر.

ولأن الجماعة لم تقدم جواباً ناجعاً على تحدٍّ سياسيٍّ تلازم مع ضمور شعبيتها، وصعود جماهيري كاسح لخصمها الناصري خصوصاً، والقومي عموماً، ولأن تلاشي قدراتها ودورها بدا وكأنه يؤذن، في الوقت نفسه، بتلاشي دور الإسلام السياسي في حياة المجتمعات العربية الراهنة، فقد طرح أتباع العمل السياسي الإسلامي على أنفسهم مهمة البحث عن بديلٍ، يعيده إلى موقعه، طرفاً نقيضاً للنظم القومية الصاعدة، وقد جاء الرد من تيارين رئيسين، حاولا سد الفراغ الذي ترتب على تراجع تيار التغيير، من خلال الدعوة، واعتمدا سياسة إسلامية، قالت بالحاكمية الإلهية، بتطبيق الشرع. هذان التياران جسّدهما:

تيار سني كانت أطراف منه منتسبة إلى جماعة الإخوان المسلمين أو قريبة منها، بيد أنها انفكت عنها بتأثير من فكر أبي الأعلى المودودي ثم سيد قطب، وأنشأت تنظيمات جهادية مسلحة آمنت أن الإسلام يقدّم نظريةً في الحكم قدسية الماهية، تسمو على أية نظرية وضعية بلورها بشر، وأن في استطاعة المسلمين إقامة نظام إلهي المصدر، لا تخالطه أية شوائب دهرية أو دنيوية، وأن إقامته رهن بتأسيس فرق أو كيانات جهادية سرية، لا بأس عليها إن كانت قليلة العدد، إن أوكلت تحقيق دعوتها وبلوغ هدفها إلى السلاح: أداتها الرئيسة لتعبئة المجتمعات الإسلامية، وإعدادها لمعركة تكمن دعويتها في سلاحها ووعد الدولة الإسلامية، الذي يتكفل باجتذاب المؤمنين إلى الجهاد، وبالانفكاك عن دعاة هم في “فقهاء السلطان” الذين يجب تحرير عقول المؤمنين مما يزرعونه فيها من خروجٍ على الدين، يتجسّد في دعوتهم إلى التعايش والتمازج بين الإسلام والنظم الوضعية، برفع قبضتهم عن المسلمين، وقصر العلاقة مع النظم القائمة على الجهاد ضدها، ومواجهة قمعها وعنفها بأقصى قدر من القوة والعنف، وإسقاطها كنظم كفر وعلمانية، وعداء لله ورسوله.

تيار شيعي أوصلته الثورة الإيرانية عام 1979 إلى الحكم في طهران، تزعمه الخميني، وادّعى لنفسه شرعية إسلامية، استمدها من نظريةٍ جعلت ولاة الفقيه منتدبين من الإمام الغائب، ومزودين بصلاحياته في الحكم طوال غيبته، وحولت مذهب أهل الشيعة إلى أيديولوجية قومية للدولة الإيرانية، والمذهب الوحيد المطابق للإسلام، ووفقت بين رجل الدين ورجل السياسة، وبين سياسته والدين، وجعلت الملالي ساسةً والساسة ملالي، والمذهب الشيعي عقيدةً، تنوجد

“تنفرد تركيا بالتوفيق بين تعاليم الإسلام الأخلاقية ومبادئه القيمية ومتطلبات بناء دولة حديثة ومجتمع تعدّدي” الدولة الإسلامية بها دون غيرها، فهي مصدرها الذي يبطل أي مصدر آخر. ويطرح علاقة الإسلام بالسياسة في سياق مغاير لكل ما سبق للحركات الإسلامية أن طرحته، جماعة الإخوان المسلمين كما الجماعات السلفية والجهادية التي يجب أن تعمل إيران على منع وصولها إلى السلطة في أي بلد إسلامي، كي لا يكون هناك أي بديل لنظامها: ممثل الإسلام الوحيد، وإن كان من المفيد تغذية نزعات التطرف السني، واستخدامها أدواتٍ إرهابيةً، تمكّن طهران من الضغط على العالم، وزج الإسلام السني في صراعاتٍ داخليةٍ، تستنزفه وتسلبه القدرة على امتلاك خيارات يقبلها المؤمنون والعالم، تستطيع بناء نظم تنفذ خططاً تنموية، تتفاعل بصور متبادلة وإيجابية مع العالم المتقدم، وتكوير العالم الإسلامي حول خياراتٍ يقبلها، أبرز نماذجها في أيامنا نظام حزب العدالة والتنمية الذي يقود تركيا، ويقدم بديلاً ناجحاً وعقلانياً لنظام ملالي إيران المغرق في الطائفية والعداء للمختلف من المسلمين من جهة، وللسلفية الجهادية وتنظيماتها السنية التي اخترق كثيرا منها، من جهة أخرى.

بسبب التطرّف الشيعي الذي تجسّده دولة الملالي وتنظيماتها المسلحة، المعادية لوسطها الأغلبي، السني، والمزروعة في أماكن متعدّدة من ديار المسلمين، والتطرف السني الذي نجح في تأليب العالم ضده، وأجبره على اعتبار وصوله إلى الحكم في أي مكان خطاً أحمر يستدعي منع تخطيه استخدام القوة لضرب السلفيين والجهاديين، باعتبارهم إرهابيين يهدّدون أمن البشرية وسلامها. ونتيجة للخيارات الخاطئة التي اعتمدها نظام الإخوان في مصر، بقيادة الرئيس محمد مرسي، وأفقدته، بسرعةٍ قياسيةٍ، ما كان قد اكتسبه من قوة وحضور خلال ثورة عام 2011، أو حصل عليه من شرعية عبر انتخابات رئاسية نزيهة، يبدو الحكم الإسلامي وكأنه فقد أهليته السياسية في التجربتين، وقابليته لحماية استقلاله النسبي عن المذهبية، وقدرته على ابتكار أنماط من الحكم، ليست من حاكمية البشر (الملالي) أو الجهاديين (القاعدة وداعش)، ويبدو أنه انخرط في تطرفٍ تمزيقي يحول دون نجاح أي جهدٍ سياسيٍّ، يدير الدولة والمجتمع، استناداً إلى قيمه، من دون أن يكون دينياً بالضرورة، أو بصورة حصرية.

بانفراد تركيا بالتوفيق بين تعاليم الإسلام الأخلاقية ومبادئه القيمية من جهة ومتطلبات بناء دولة حديثة ومجتمع تعددي من جهة أخرى، وبتخلق معركة يخوضها الغرب ضد العالم الإسلامي، يحاول ترجمتها إلى اقتتال شيعي/سني، تمس حاجة دول كبرى وإقليمية عديدة إلى إفشال تجربة “العدالة والتنمية” في تركيا، ويناصبها التطرّفان، الشيعي والسني، العداء، ويعملان لإفشالها بالوسائل كافة، وتقييد قدرتها على منع العالم الإسلامي من الانتحار بأيدي مكوناته المذهبية، وما أعدته للاقتتال بينها من أسلحة وجيوش ومرتزقة وإرهابيين. وإذا كان حكم “العدالة والتنمية” قد أفشل انقلاب العسكر بالديمقراطية ووحدة الشعب التركي، فإنه سيواصل، على الأرجح، صموده عبر دفع نظامه الديمقراطي إلى أكثر صوره وأشكاله تقدماً، واستخدام ممكناته الهائلة لحل ما تواجهه دولته ومجتمعه من مشكلاتٍ، سينجح في ثلم مخاطرها بقدر ما تتعمق ديمقراطيته بالمواطنة المتساوية وحقوق الإنسان، وتترجم إلى عدالة ومساواة وكرامة إنسانية.

يكمن جذر استهداف تركيا في استثنائية نموذجها وعقلانيته وفرادته، وتحوله خلال فترة قصيرة إلى خيار وطني/ مجتمعي من طراز رفيع، واتخاذه صورة ردٍّ واقعي وناجح على السعي الدولي إلى تفجير العالم الإسلامي من خلال تناقضاته وخلافاته وصراعاته، التي لم تجد حكوماته القائمة، الضعيفة والتابعة، سبيلاً إلى وقفها أو تخفيف وطأتها، وتحرّضها، في المقابل، حركاته الدينية مذهبية الطابع، المعادية للعقل والعصر. بما أن انفجار العالم الإسلامي يتطلب، بين أشياء أخرى، الإجهاز على النموذج التركي، فإن هذا النموذج يرجح أن يبقى مهدّداً بمخاطر نجح في تخطي أولها بالأمس، ولا بد من نجاحه في تجاوز بقيتها غداً، ما دامت نجاته تعني وجود فرصةٍ حقيقية لنجاة العالم الإسلامي.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى