صفحات الناسوليد بركسية

مأزق النظام في حرستا: التعفيش خلخل التفاهمات المحلية/ وليد بركسية

 

 

معارضون سابقون يهتفون “بالروح بالدم نفديك يا بشار”. جهاديون تائبون، وجنود يتصالحون، وثوار يتنازعون في ما بينهم، وأخوة من انتماءات سياسية مختلفة يلتقون من جديد..

هي أجزاء من المشهد السوريالي الآتي من الغوطة الشرقية، خلال الأيام القليلة الماضية، والتي قد تجعل الحرب السورية الفوضوية عصية على الفهم، أكثر من أي وقت مضى، بالنسبة للمراقب الخارجي البعيد، والذي لا يستطيع إدراك طبيعة العلاقات الشعبية المعقدة التي ترسم طبقات السياسة في البيئات المحلية السورية.

فقد بث إعلام النظام المحتفل بـ”النصر” في الغوطة الشرقية، مقاطع “محيرة” ومتناقضة خلال اليومين الماضيين، وبالتحديد تغطيته من مدينة حرستا قرب العاصمة دمشق. والتي تحولت إلى أنقاض يتصاعد منها الدخان بعد المعركة الأخيرة التي أطلقها النظام قبل أسابيع لاستعادة الغوطة الشرقية واتي ادت إلى تشريد أكثر من 95 ألف مدني على الأقل بحسب جماعات حقوق الإنسان الدولية، التي تتهم النظام السوري بارتكاب جرائم حرب في المنطقة، بما في ذلك مقتل نحو ألفي مدني هناك.

ويبرز التناقض بشكل جوهري في مقطعين، الأول يظهر لقاءات مع بعض المدنيين في المدينة الذين تحدثوا عن خوفهم من انتقام النظام، بشكل غير مباشر، وفرحهم بـ”عودة الدولة”. وكان الخطاب الرسمي هنا، والمقدم عبر محللين وقادة عسكريين وإعلاميين، مركزاً على إشاعة جو من الطمأنينة لدى المدنيين الذين لم يخرجوا إلى إدلب ولم ينضموا إلى قائمة المصالحات الجارية مع النظام، القاضية بعدم ملاحقة المدنيين عسكرياً وأمنياً.

أما المشهد الثاني فهو مقاطع وصور تجنيد “المسلحين الإرهابيين” السابقين في صفوف جيش النظام كشرط للمصالحة مع الفروع الأمنية والعسكرية. إضافة إلى المعلومات المتداولة عن اعتقال المدنيين في مراكز الإيواء، والتي تثبتها صور متداولة في صفحات موالية منذ الأسبوع الماضي.

أبرز المقاطع بلا شك، هو اللقاء الذي أجرته “الإخبارية السورية”(النظام) مع شقيقين يلتقيان للمرة الأولى منذ سنوات. الأول كان في مناطق النظام، والثاني كان محاصراً في حرستا. ورغم مظهره “الجهادي الإسلامي” من ناحية اللحية والثياب، إلا أن القناة حاولت تلطيف صورة الحرستاوي أمام جمهورها “المتعصب”، فهو يبقى سورياً مثل مئات المدنيين في حرستا الذين تم إجبارهم على الانخراط في العمليات المسلحة ضد النظام.

وفي المقابلة، سُمِح للرجل الذي لا يدلي باسمه، بالحديث عن قصته التي تبرز ظلم النظام له. فهو الذي اعتُقل 70 يوماً خلال الأيام الأولى للثورة السورية، رغم أنه لم يكن ناشطاً في أي تنظيم، ما دفع عائلته للتخلي عنه لاحقاً بسبب الخوف من الملاحقة الأمنية، فضلاً عن حديثه عن خوفه من انتقام النظام منه ومن آخرين في الغوطة الشرقية، لعدم وجود ضمانات كافية لسلامتهم. علماً أن اللقاء شهد العديد من القص والقطع بشكل واضح في كل مرة اقترب فيها الرجل من كلام مناهض للنظام. وذلك رغم أن القناة تقدم تغطيتها على أنها “مباشرة”، كما أن المراسلة رانيا الذنون منعته من البكاء أمام الكاميرا وطلبت منه التحكم بمشاعره والالتزام بما تم الاتفاق عليه قبل التصوير.

ووجد النظام نفسه على ما يبدو في موقف محرج ودقيق، بسبب عمليات التعفيش والنهب التي حدثت في حرستا من قبل عناصر في جيش النظام والميلشيات الموالية له، والتي أدت في مجملها إلى خلل في التفاهمات الهشة القائمة بينه وبين شخصيات نافذة في المجتمعات المحلية في الغوطة الشرقية. وقد يكون ذلك التفسير الوحيد للتغطية الإعلامية التي بثتها قنوات النظام، وبالتحديد “الإخبارية السورية” من حرستا، والتي ركزت على بث “الطمأنينة” لدى المعارضين، وحاولت تقديم خطاب “ودي” تجاههم باعتبارهم “سوريين” في نهاية المطاف، أي خطاب تصالحي، خصوصاً أن إشاعة جو من عدم الثقة في حرستا قد يؤثر في المفاوضات المتعثرة التي يقوم بها النظام وحليفه الروسي مع “جيش الإسلام” في مدينة دوما، التي تعتبر آخر معاقل المعارضة في الغوطة الشرقية.

ففي 22 آذار/مارس الجاري، بدأت عملية تهجير المسلحين والمدنيين المعارضين من الغوطة الشرقية إلى إدلب، وهم الأفراد الذين لم يريدوا أو لم يتمكنوا من إجراء مصالحة مع النظام. وبعد مغادرتهم مباشرة، انطلق مسلحون موالون للأسد، لنهب المنطقة الواسعة غير المحمية، متجاهلين نداءات المفاوضين المعينين من قبل الحكومة الذين قدموا وعوداً بعدم حدوث شيء من هذا القبيل. وهي اتفاقات معقدة انخرط فيها وسطاء محليون بارزون، مثل رجل الأعمال المنحدر من قرية مسرابا الاستراتيجية، محي الدين منفوش، و رجل الدين بسام ضفدع، الذي شكل اختراقاً للنظام ضمن “فيلق الرحمن” المعارض.

وحسب مجلة فورين “بوليسي” لعبت هذه الشخصيات الغامضة دوراً كبيراً في اقتصاد الحرب السياسي في الغوطة الشرقية، والتي أبقت الحصار الذي يقوم به النظام متوازناً عبر شبكات التهريب التي كانت تؤمن المواد الغذائية والحاجات الأساسية للسكان مقابل العمل على إنشاء شبكات من المدنيين الموالين للنظام ضمن مناطق المعارضة، ما أدى إلى تفتيت المعارضة داخلياً من جهة وإنشاء خلايا نائمة ساهمت في القتال إلى جانب النظام من الداخل.

التفاهمات المحلية هنا تلعب دوراً في الاستقرار الذي يرغب النظام في الحفاظ عليه قرب العاصمة، وقد تكون جزءاً من ضغوط روسية على النظام لعدم القيام بمجازر أكبر أو عمليات تهجير أوسع. لكن النظام لا يتحدث لجمهوره المحلي بكل هذه التفاصيل، بل يلجأ للشعارات والتبريرات القبيحة، مثل القول أن المعارضين المدنيين في الغوطة “مرضى ويجب معالجتهم” أو “نحن جميعاً سوريون ونعود إلى حضن الوطن”.

وتجب الإشارة أن هذا الخطاب المفاجئ لا ينجح في تهدئة تعصب الموالين الذين مازالوا يطالبون بإبادة الغوطة الشرقية ومن تبقى فيها، مبرزين رفضهم لانضمام “الإرهابيين” لصفوف جيشهم “الطاهر” مطالبين بالحذر منهم وتصفيتهم بعيداً من منطق “المسامحة والغفران” السائد، بحسب التعليقات الواردة على المقاطع المنتشرة عبر مواقع التواصل. وهذا، بلا شك، نتيجة لخطاب التجييش والكراهية الذي بثه النظام طوال السنوات الماضية، ونفى فيه وجود مدنيين في الغوطة، وحصر المعارضة بالجهاديين المتطرفين التابعين لـ”داعش” و”القاعدة”.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى