ابرهيم الزيديصفحات الناس

مأساة الفئة الثالثة من السوريين/ إبرهيم الزيدي

 

 

 

ليس كل الناس مهتمين بالسياسة، أو على معرفة بها. ثمة شرائح واسعة من المجتمع السوري، لم تمتد أحلامها إلى تلك الحقول المفخخة بالألغام، ولا تعرف الفرق بين الحكومة والدولة، لكنها تعرف كل الطرق المؤدية إلى لقمة عيشها، بما في ذلك الطرق غير الشرعية، وقد تواضع الحاكم والمحكوم على ذلك. فالفساد في سوريا ثقافة عامة كنّا نتداوله ببداهة اليقينيات.

مع تقادم الزمن كانت تلك الثقافة تضرب جذورها في الواقع السوري أكثر، فأكثر، وقد ساهم في ذلك، ظهور طبقة اجتماعية، قوامها رجال الدين، وشيوخ العشائر، وكلاهما كانت هذه الفئة أداته، في الوصول إلى غاياته النفعية، فانخرطت هي الأخرى، حسب مقتضى الحال، ضمن الخيارات المتاحة، التي انحصرت في خيارين لا ثالث لهما “العودة إلى الله، أو إلى العصبية القبلية”، علما أن هذين الخيارين، بينهما الكثير من الأبواب والنوافذ، إلاّ أنهما لم يندمجا ويتوحدا، وكانت تظهر استقلالية الواحدة عن الثانية في حالات معينة. ارتفعت الأرصدة الشعبية لهاتين الفئتين، رجال الدين وشيوخ العشائر، وانتقل التمثيل العشائري والديني، من شكلهما الاجتماعي، إلى الشكل الرسمي من طريق مجلس الشعب. خاضوا الانتخابات التشريعية، بمباركة السلطة ودعمها، وكثرة الأصوات المؤيدة لهم. فقد مجلس الشعب صفته التشريعية، واحتفظ بامتيازاته النفعية. تحولت هذه الفئة إلى مجموعة أصوات ناخبة، لإمام المسجد، أو لشيخ العشيرة، إلى درجة أن أحد خطباء المساجد في مدينة حلب، حصل على 180000 صوت في انتخابات مجلس الشعب، وحصل أحد شيوخ العشائر في الرقة على 110000 صوت! هذه الأرقام ليست قليلة بالنسبة إلى عدد الناخبين. يمكن تفسير ذلك الذوبان لشخصية الفرد، بما يسميه غوستاف لوبون “النفس الجماعية” حيث تسيطر القيم الاجتماعية على الفرد، من دون محاكمة عقلية لهذه القيم، وهذا ما كرسته العادات والتقاليد، والدين الإسلامي أيضا. فقد جاء في الحديث الشريف “من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات، مات ميتة جاهلية”. هنا كان لرجال الدين دورهم في تفسير الحديث، بطريقة تجعل الناس تسلم في الأمور، ولا تحاكمها منطقياً. لا بل يشعر الفرد من خلال ذلك بأنه يمارس دوره الاجتماعي. تتم هذه التبعية عادة بمباركة رجال الدين، وتشجيعهم، وبمباركة الفئات المهيمنة، المستفيدة من هذا العماء. هذا يحدث في كل الجماعات، على اختلاف حاملها الموضوعي، سواء أكانت جماعة دينية، أم قومية، أم عرقية، أم سياسية. وقد تكلست تلك السلوكيات في أذهان الناس، وأغلق عليها التابو أبوابه بقفل المقدس، وأصبح من السهل التلاعب بتركيب الهوية، لصالح الفئات المهيمنة على المجتمع. توافق على هذا الاستلاب، كل من المرجعين الديني والسياسي. بل نشأ بينهما تحالف ضمني.

هذه الحال لم تكن وليدة يوم وليلة، إذ تم الاشتغال عليها، وتكريسها منذ العام 1982، فتم استبدال جماعة “الإخوان المسلمين”، بما يتناسب مع واقع الحال، ورجع المجتمع السوري إلى مرحلة ما قبل الدولة، وتضاءل دور النخب فيه، إن لم نقل انعدم، وساعد هذا المناخ في ظهور طبقة من المثقفين النفعيين، ساهموا في تكريس ما هو قائم، وحوّلوا المبادئ الإنسانية إلى آراء شخصية. سادت اللغة المواربة، التي لا تقول شيئاً في المحاضرات، والأمسيات، التي كانت تغص بها المراكز الثقافية. وضاعت الحقائق بين الواقع والرأي وصار المثقف السوري مسكونا بهاجس بيع كتبه، فتراه يحمل معه إلى المحاضرة أو الأمسية، ما يستطيع حمله من كتبه، وعرضها مع ماء وجهه، على المراكز الثقافية التي تتورط بدعوته. مرّ عليّ الكثير منهم، أثناء عملي في مديرية الثقافة. إلى أن قامت الثورة، وإذ بهذه الفئة “الفئة الثالثة” وقود الثورة في الداخل، وضحاياها في الخارج، فاستعاد المتبصرون بأوضاع هذه الفئة من الشعب السوري، مقولة “ساداتنا في الجاهلية، ساداتنا في الإسلام”، علما أنها الفئة الأكثر عددا، وهي في طبيعة الحال الأكثر تضرراً. فامتلأت بهم مخيمات اللجوء، ومراكز إيواء النازحين، كما امتلأت المقابر بضحاياهم وتخلى عنهم رجل الدين باعتباره معنياً بالآخرة، وكذلك شيخ العشيرة الذي لم يعد بحاجة لأصواتهم في المواسم الانتخابية. فعبروا الجحيم، ولم يبلغوا الجنة. أصبحوا عرضة لمن يريد أن يتسلط عليهم، أو أن يتسلط بهم.

هذه هي قصة الفئة الثالثة من الشعب السوري التي خسرت كل شيء، وما زالت تبدع المزيد من الألم، أما مفهوم الوطن فلا يزال يسبح في مدلوله الافتراضي.

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى