صفحات العالم

النخبة الروسية والأزمة السورية


هاني شادي

في سياق الموقف الرسمي الروسي «المتحفظ» تجاه الحراك العربي عامة و«المتشدد» تجاه الحراك السوري خاصة، تبرز أهمية التعرف على آراء ومواقف النخبة الروسية من سياسيين وإعلاميين وأكاديميين من هذا الموضوع لما لهم من تأثير على الرأي العام الروسي وربما على صانع القرار في الكرملين. ونبدأ بالسياسي المخضرم والمختص في شؤون الشرق الأوسط يفغيني بريماكوف الذي أيد عمليا ثورتي تونس ومصر وفند مزاعم روسية بأن الثورة المصرية كانت من صناعة أميركية ـ غربية في مؤتمر صحافي عقده خصيصا بعد تخلي مبارك عن السلطة في شباط/ فبراير 2011. وقال بريماكوف حينذاك «لقد ظننا أن الثورات الاجتماعية ضد الأنظمة الاستبدادية باتت من الماضي، ولم نأخذ في الحسبان التطورات التي جرت في العالم مثل تطور «الانترنت»، ووسائل الاتصال الحديثة».

ولكن مع الحراك السوري بدأ بريماكوف بالتنظير حول ضرورة التمييز بين ثورتي تونس ومصر السلميتين، وما جرى في ليبيا ويجري في سوريا. وأعلن بريماكوف في مقابلات صحافية أن القذافي وبشار الأسد واجها منذ البداية جماعات مسلحة، على عكس الطريقة السلمية التي جرت بها الأحداث في تونس ومصر، مشددا على أن الغرب خدع روسيا وشن الحرب على ليبيا، بالرغم من ان القرار 1973 لم يخوله بذلك. ويصف السياسي الروسي المخضرم موقف بلاده من الأحداث في سوريا بالأخلاقي ويقول «أعتقد ان روسيا تنتهج موقفا يمكن ان نسميه بأنه الموقف الوحيد الصحيح في هذه الأوضاع. فلو كنت رئيسا للحكومة حاليا أو وزيرا للخارجية، لكنت اتخذت الموقف نفسه. وطبعا هذا لا يعني انه حتما الموقف الفائز. والشيء الذي يعجبني ان هدفنا ليس الحصول على مكاسب من هذا الصراع بأية وسيلة، لان موقفنا أخلاقي وجوهره المحافظة على حياة الملايين من الناس، وكذلك الاهتمام باستقرار منطقة مهمة».

أما المفكر والمنظر الجيوسياسي الكسندر دوغين زعيم حركة «أوراسيا الروسية»، فيعتبر أن الولايات المتحدة تؤسس لشرق أوسط جديد انطلاقا من مصالحها فقط، عبر نشر الفوضى ومن دون أن تأخذ في الحسبان مصالح الدول الأخرى. ويقول دوغين «إن مصالح روسيا تكمن في منع تأسيس عالم أحادي القطبية والسعي لبناء عالم متعدد الأقطاب بغض النظر عن مصالح ورؤى الولايات المتحدة الأميركية». ويعتبر أن مصير العالم المتعدد الاقطاب يتقرر اليوم في سوريا ولذلك يجب على موسكو ـ برأيه ـ عدم التخلي عن بشار الأسد. ويصل دوغين إلى حد القول بأن «تخلي روسيا عن بشار الاسد سيعني أنها تكتب شهادة وفاتها ووفاة العالم المتعدد الأقطاب».

ويصر الكسندر ايغناتينكو مدير معهد دراسات الأديان والسياسة وعضو لجنة الأديان التابعة للرئيس الروسي على تشبيه ثورات الربيع العربي بالثورات الملونة في جورجيا (2003) وأوكرانيا (2004) من حيث إنها صناعة أميركية ـ غربية. ويرى أن ما يجري في بعض البلدان العربية افتعلته السعودية وقطر والإمارات من أجل مواجهة إيران، وكل ذلك مرتبط مع خطوط نقل الغاز والنفط. أما ايغور بانارين أستاذ علم السياسة في جامعة موسكو، فيشدد من جانبه على أن دعم روسيا لبشار الأسد يؤكد أن موسكو لا تتخلى عن حلفائها ويطالب بضرورة توسيع مناطق النفوذ الروسية حول العالم. ومن جانبه يؤكد الصحافي الروسي الذائع الصيت والمقرب من الكرملين ماكسيم شيفشينكو أن تجربة روسيا المريرة مع الأزمة الليبية كانت ضربة قوية لمصالح روسيا. ويطالب شيفيشنكو القيادة الروسية بالوقوف إلى جانب النظام السوري والاستمرار في دعم بشار الأسد وعدم تأييد الغرب وقطر والسعودية في مساعيهم لإسقاط النظام السوري لأن هذا في رأيه سيعني انتقال الحرب مباشرة الى الحدود الروسية. ويعتبر دفاع موسكو عن النظام السوري دفاعاً عن روسيا نفسها.

على خلفية مواقف وآراء تلك العينة المشار إليها أعلاه من النخبة الروسية والتي هي الأكثر تأثيرا على الرأي العام في روسيا، تظهر بين الفينة والأخرى آراء ومواقف أخرى لبعض المحللين والمراقبين الروس تتسم بالمرونة في نظرتها للحراك العربي. فالمحلل السياسي المعروف إيفان سافرانتشوك يعتبر أن الأزمة السورية وضعت الدول التي تدعم الأسد وتلك التي تطالب برحيله في موقف لا تحسد عليه. ويرى أن روسيا فقدت الكثير من شعبيتها في الشارع العربي بسبب موقفها من الأزمة السورية. ويقول «إن روسيا لا تريد أن تتكرر في سوريا سيناريوهات سبق أن جُـربت في أماكن أخرى وأسفرت عن نتائج مأساوية، ولا تريد كذلك أن تنتقل عدوى التطرف الديني السني من سوريا إلى منطقة شمال القوقاز أو إلى آسيا الوسطى، خاصة أن رؤساء جمهوريات أوزبكستان وكازاخستان وطاجيكستان، ليسوا أفضل من الرئيس السوري».

ويرى فيودور لوكيانوف رئيس تحرير مجلة «روسيا في السياسة الدولية» أن موقف روسيا إزاء الأزمة السورية القائل بأنها لا تتمسك بالأسد بل بمبادئ القانون الدولي لا يلقى تفهماً في العواصم العربية، لأن العالم العربي درج عفوياً على اعتبار السياسة الروسية امتدادا طبيعيا لسياسة الاتحاد السوفياتي التي كانت الند الوحيد لسياسة الغرب، أو على الأقل، التي كانت تسعى لتحقيق بعض التوازن الدولي في وجه التهور الغربي. ويقول «عندما قررت روسيا أن تكبح جماح الغرب، وتلعب الدور نفسه إزاء الأزمة السورية، فوجئت بحكومات الدول العربية، كلها تقريبا، تقف على الضفة الأُخرى». ويطالب لوكيانوف على استحياء الديبلوماسية الروسية في مقالات أخرى بإعادة النظر بدرجة أو بأخرى في كيفية حل الأزمة السورية.

وتعتقد مارينا سابرونوفا الاستاذة بجامعة العلاقات الدولية والمتخصصة في العلوم الشرقية بعدم قدرة أي طرف من أطراف النزاع في سوريا على الحسم العسكري. وتقول «في هذه الحالة ينبغي إنعاش الحلول السلمية من جديد حيث يمكن لروسيا أن تساعد الأخضر الابراهيمي في هذا الشأن». وتضيف الباحثة الروسية «أن موقف الابراهيمي من التسوية في سوريا قريب من الموقف الروسي والصيني حيث إنه يدعو إلى ضرورة مشاركة جميع الاطراف في المفاوضات السلمية، بمن في ذلك الرئيس بشار الأسد». وترى مارينا سابرونوفا أن الوقت حاليا مناسب لقيام روسيا بالوساطة من خلال الضغط على الحكومة السورية، كما أنه مناسب ـ من وجهة نظرها ـ من حيث ضرورة اللجوء إلى المراقبة الدولية لما يجري على الأرض في سوريا وإمكانية البداية بمفاوضات ولو جزئية بين الأطراف المتنازعة عن طريق عقد مؤتمر دولي في عاصمة محايدة. وتخلص مارينا سابرونوفا إلى استنتاج مفاده أن مصالح روسيا في الشرق الأوسط تكمن قبل أي شيء في مجال الأمن وأن استعادة سمعة روسيا في هذه المنطقة، التي تضررت على خلفية الربيع العربي، ستكون أمرا معقدا وصعبا لأن موسكو تخسر بقوة في الحرب الإعلامية الدائرة حاليا.

هكذا تبدو مواقف وآراء النخبة الروسية من الحراك العربي ومن الأزمة السورية وتتراوح كما رأينا بين تبنّ كامل للموقف الرسمي ومحاولات بتوخي بعض الموضوعية. وقد لعبت هذه الآراء وتلك دورا كبيرا على مدار العامين الماضيين في تشكيل الرأي العام الروسي الذي بات في قسم كبير منه ينظر بحذر للربيع العربي.

كاتب وصحافي مقيم في موسكو

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى