صفحات الثقافة

معنى كلمة “الألم”/ عماد فؤاد

 

 

 

الكتابة هي الشّبح الذي زرعته أنتِ بداخلي، هي الحافّة الزّلقة التي دفعتِني إليها دفعاً ذات يوم، وكنت أعرف أنّني لن أنجو من السّقوط من فوقها وإلى الأبد، كنت أكتب في البداية لأهرب من وطأة غيابكِ، وكي أستعيد اللحظات التي مرّت علينا من جديد بألق آخر وسحر مغاير. لم أكن أعرف أنّ للكلمات حين تتراصّ جوار بعضها بعضاً هذه القداسة التي تكبر بداخلنا يوماً بعد يوم، بدأت أمسك القلم وأخطّ تفاصيلنا، ليس بغرض التّدوين، بل لأراكِ بشكل أفضل، لأضعك في بقعة ضوء أستطيع من خلالها أن أتبيَّنك من وراء حجب عتماتكِ الأثيرة، صرت أكتب كالمحموم كي أثبِّت صورتكِ المهزوزة الغامضة في داخلي، وكي أُبطئ من سرعة جريان الحياة بقربكِ، كنت ألهث لأجمع التّفاصيل التي تغرمين بتضفيرها وتعليقها في ذيل كلّ تصرف من تصرّفاتك، حتى صرت أشبه بالنّحلة التي تجمع قطرات الرّحيق من مئات الورود، لتصنع منها في النّهاية طعماً واحداً، لا يشتبه على أحد.

أنت السّبب في أنّني الآن مدمن على الكتابة، مدمن على اللعب بالكلمات كي أحفر فيها معانيَ جديدة، وصوراً لم تكن لتخطر على عقل أحد، كنت أظنّ أنّني قادر على الفرار سريعاً من شهوة هذا الفخّ الذي أضع قدميّ فيه كلّ ليلة عن طيب خاطر، قلت سأتعب، سأمّل، وسأهرب منه إلى صرعة أخرى، كعادتي حين أنشغل فجأة بشيء جديد ثم أعفّ عنه بعد أيام. اكتشفت وأنا أحاول أن أكتبك أنّني إنّما أكتب ذاتي، وجدت أنّ روحي صارت مثل نبتة دبّت فيها الحياة من جديد حين بدأت أسقيها قطرات الكتابة على مهل، ويوماً بعد يوم، صارت لروحي ساق خضراء قوية، وأوراق يانعة، وزهرة جديدة تتفتّح تحت ضوء النّهار وأشعة الشّمس، كنت أحفر مثل مزارع دؤوب في تربتك، أخرج الدّيدان والحشرات الضّارة، لا لكي أتخلّص منها، بل لأتأمّلها، وأدرسها، وأعيدها من جديد إلى أماكنها، بالقرب من الجذر الذي ضربه السّوس والعطن، الجذر الذي أعرف تماماً أنّه فاسد، وأنّه لن يدوم طويلاً، قبل أن تجفّ السّاق، وتذبل الزّهرة.

صارت دفاتري المكوّمة جوار فراشي، هي كنزي الذي أحرص عليه مثلما يحرص أرمل على أولاده الصّغار، من قال إنّني عرفتك؟ من قال إنّني اقتربت يوماً منكِ ولمست روحك؟ من قال إنّني شخص آخر سواكِ، أو أنّك شخص آخر سواي، أشعر أحياناً أن أحدنا اخترع وجود الآخر، ابتكره كي يهرب من عزلته، وبدأ يتعامل على أنّ هذا الآخر هو شخص حقيقيّ في حياته، محاولاً أن يلتمس الدّفء في وجوده، ولو واهماً.

حين كنت أعيد قراءة الصّفحات التي كنت أكتبها في لياليَّ الطّويلة من الوحدة، الصّفحات التي حفرتها كلمة كلمة، كي أتمكّن من رسم صورة لواحدة من حالاتك العديدة، كنت لا أجدك فيها، لا أجد هذه المرأة التي تنتصب أمامي على أصابع قدميها العشر، وهي تمارس سطوتها على معنى الأنوثة، معنى الوجود، معنى أن تكون امرأة بلا جذر تنتمي إليه، حين تبدأ بوادر الطّوفان تحيط بها من كلّ جانب، كنت لا أجد هذه الرّوح التي هي مزيج غريب من أرواح عدّة، احتلّت هذا الجسد المجنون حتى ضاق بها، وبدأ يظهر كلّ يوم وروح مناقضة لسابقتها تتلبّسه، أنتِ مجمع أرواح، مستودع منسيّ للخرافات والأساطير والأكاذيب والحكايات التي لم تروَ بعد، وأعرف أنّني لا أملك أن أعتصم بشيء وأنا واقف الآن على هذه الحافّة الزّلقة، إلا أن أكتب وأكتب. ذراعاي يحاولان السّيطرة على اتزان جسدي قبل السّقوط، وقدماي تشعران بالسّطح الزّلق الذي تقفان عليه، والرّيح تدفعني ذات اليمين وذات اليسار، وما من منقذ.

الكتابة كانت محاولتي الأخيرة لأنقذ نفسي من مصير السّقوط المدويّ، صرت أكتب لأنسى، لأخرجك من تحت جلدي، صرت أكتب كلّ يوم، كلّ ليلة، أكتب كلّ شيء، كلّ تفصيلة، كلّ نأمة، أكتب عنك، وإليك، مستعيناً بالوهم كي يحملني إلى ضفاف أخرى، ولكي أطيل زمن استمتاعي برؤية هذه الضّفاف، كنت أستمرّ في الكتابة، مثل محكوم بالإعدام، يعرف مصيره جيداً، لكنّه لا يعرف الموعد الذي سيموت فيه.

كنت أكتب متخيّلاً أنّني أكتبكِ، وفي الصّباح أعيد قراءة ما كتبت، فلا أراك، ولا أقبض عليك. كنتِ مثل الزّئبق الذي كلّما حاولت القبض عليه بين أصابعي، انفلت من بين أصابعي وانسكب. أنتهي كلّ ليلة من الكتابة وأنا شاعر بالارتياح والطّمأنينة، وفي اليوم التّالي أعود إلى ما كتبت، فلا أجد إلا نتفاً من روائحك، بصماتك التي خلّفتها دون أن تشعري على مخارج الحروف وإيماءات الوجه وأنت تنطقين الجمل المنتقاة، أجد نتفاً ليس إلا، وأشعر بنفسي كما لو كنت طفلاً حاول إمساك حمامة بيضاء حطّت بالقرب منه، وحين اقترب منها، ومنَّى نفسه بالغنيمة، لم يجد بين أصابعه بعد طيرانها، سوى نتف من ريش أبيض كثير، يلمع بين أصابعه تحت الشمس.

(شاعر مصري)

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى