صفحات مميزةمحمد العطار

ماذا بقي لنا من الثورة السورية؟/ محمد العطار

(إلى شباب النقطة الطبية في بستان القصر في حلب ولذكرى عباس خان.)

< يتعذر مع نهاية العام 2013 تخيل صورة أشد قتامة لأحوال سورية الوطن والثورة من تلك التي نراها اليوم. ثلث السوريين باتوا نازحين ولاجئين. المؤشرات الاقتصادية مرعبة والخراب هائل، صور أحياء مدمرة بالكامل في حمص أو دير الزور شديدة الشبه بدرسدن الألمانية في نهاية الحرب العالمية الثانية! لم يحدث أن قصف جيش محكوميه بوحشية شبيهة. خلّدَ بيكاسو مأساة «غورنيكا» الإسبانية إبان الحرب الأهلية، لكن من قصفها كانوا طيارين ألماناًَ من «فيلق الكوندور». اليوم مقابل فرق «الكوندور» الألمانية و «القمصان السود» الإيطالية التي دعمت فرانكو آنذاك، يوجد لدى النظام السوري حلفاء مخلصون يتوافدون من إيران والعراق ولبنان، ويمتلكون شهوة مماثلة للقتل، هذه المرة مغلفة بلبوس ديني عقائدي. تدخل هؤلاء المباشر بالتوازي مع تصاعد وتيرة عنف النظام بشكل محموم، شكل العامل الأساسي في «انهيار الإطار الوطني للصراع في سورية»، والتعبير هنا لياسين الحاج صالح، الأمر الذي استتبعه على المقلب الآخر، تعاظم وجود مجاهدين متشددين غير سوريين ومشاريع سلفية جهادية لدى سوريين تتعدى نطاق سورية الدولة أو الوطن. يترافق هذا ويُترجم ربما، في نزيف مستمر لناشطين مدنيين كان لهم قصب السبق في قيادة الحراك الثوري المتعدد البؤر الذي ميز الثورة السورية.

منذ ثلاثة أشهر ونصف كان لي شرف العمل مع عشرين شاباً في الرقة على تدريب في مجال الدعم النفسي الاجتماعي. نصفهم اليوم خارج سورية! أحدهم ما زال معتقلاً لدى «داعش»، فيما تعرض ثلاثة منهم للاعتقال نفسه قبل أن يغادروا. ينطبق الأمر على ناشطين وفاعلين في مناطق واسعة محررة. هناك تضييق مستمر على حركة هؤلاء، ولعل اختطاف أعضاء مركز توثيق الانتهاكات في دوما أخيراً مثل تتويجاً مفجعاً لهذا التضييق. من نافل القول إن النظام بدوره لم يتوقف عن البطش بمن تبقى من ناشطين في مناطق يسيطر عليها، ممن لم يهربوا أو يعتقلوا في مسالخ الأفرع الأمنية.

تكاد الأمور في سورية اليوم توجز على النحو التالي: عنف النظام الهائل في وجه محكوميه أدى إلى عسكرة الثورة ومن ثم انفلات الصراع من أطره الوطنية وارتكازه باطراد على عصبيات مذهبية.

إذاً ماذا تبقى لنا من ثورتنا الأولى تلك؟

تبقى صراعنا مع الموت. نحن السوريين، لاجئين ونازحين، تحت القصف أو الحصار أو في المنفى، صامدون أو منهكون، يفتك بنا البرد القارس أو خذلان الآخرين. نستمر لكي نحيا، لندفع عنا الموت.

في آب (أغسطس) المنصرم زرتُ القسم المحرر من حلب، انتابني عجزٌ هائل أمام مشاهد الدمار المتداخلة مع مشاهد الفقر لمناطق همشها النظام طويلاً لسنوات قبل الثورة. في حي بستان القصر كانت النقطة الطبية ملاذاً لأمثالي ممن وقفوا على حافة اليأس. متجرٌ للحلويات تحول إلى نقطة طبية يديرها شباب يتناوبون على النوم فيها كي تُبقي أبوابها مفتوحة طوال الوقت. كنا نمضي جل أوقاتنا هناك، نقابل جرحى ومرضى وأصحاء، أطفالاً، نساء وشيوخاً، باكين أو باسمين. كنا نأكل هناك أيضاً، ونتحدث في السياسة وفي السينما وكرة القدم. الشاب الذي قابلني أول يوم بابتسامة متهكمة عندما لاحظ ارتباكي لوجودي في مكان مكتظ بقطع الشاش الملطخة بالدماء والحقن المُستعملة وبقع الدم، استشهد بعد يومين في إحدى طلعات «الميغ» المظفرة فوق الحي. بعد مغادرتي حلب، علمتُ باستشهاد مُسعف آخر جراء قصف النظام العشوائي أيضاً. من تبقى منهم اليوم منهمكٌ في إنقاذ من بقي حياً جراء هجمة البراميل المسعورة على حلب. لحظة كتابة هذه السطور تدخل حلب اليوم العاشر من جحيم القصف العشوائي بالبراميل المتفجرة على أحيائها المحررة. حرب البراميل تعني أن الثورة اليوم في سورية تُختزل بإصرار الناس على مقاومة الموت، هذا هو كل شيء. لكن هذا الاختزال المُقلق نحو أشد الغرائز الإنسانية أصالة، هو بالذات المحرك العنيف لاستمرار هذه الثورة التي ترمي بكل ما لديها في طورها الراهن لمواصلة هدم أسس واهية لسورية لن تعود كما كانت.

لكنها لم تعد ثورة! ألم تتحول إلى حرب أهلية طاحنة؟ قبل أن توغل في عنفها لتقترب من الاقتتال المذهبي؟ يأتي الرد من طبيعتها بالذات، فالنكوص في صورة الثورة عبر أطوارها المتعددة، ناجمٌ عن عملية النبش العميقة التي تقوم بها لمحاولة تأسيس ما هو جديد حقاً. الثورة في سورية انفجارٌ لم يكن من الممكن تجنبه، وهي بجنوحها هذا عصيةٌ عموماً على التوجيه، تسعى لإكمال ما بدأته: خلق واقع جديد. في سعيها هذا تصطدم كل مرة باستحالة المضي من دون هدم المزيد من أساسات عفنة ومُتجذرة.

تشبه هذه الثورة المتعددة الأطوار والشديدة التعقيد والعنف أيضاً هذا البلد، ربما أكثر بقليل مما نرغب بأن نعتقد. في الجواب عن ما تبقى لنا منها اليوم، ندرك أن الكثير فيها تغير منذ الأيام الأولى، لكنها أيضاً غيرتنا جميعاً، ليس بالضرورة كي نصبح بشراً أفضل، لكننا بالتأكيد أصبحنا مختلفين اليوم عما كناه. نبشت الثورة مخاوفنا وهواجسنا الدفينة ودفعتها إلى السطح، أخرجت أقبح وأجمل ما فينا. لم يكن لقبوٍ أُغلق عنوة لعقود أن يخرج منه حين يُفتح إلا عفن متراكم، هذه هي حال سورية الأسد. جملة التناقضات العنيفة وأسئلة الهوية والانتماء ومخاوف الوجود والتعايش وسرديات المظلومية هي ما يبقى من الثورة اليوم، وهي ما يبقيها ثورة. لم تكن هذه البلاد لتحطم اسمها البغيض «سورية الأسد» من دون هذا المخاض الرهيب. يقاوم الشباب في النقطة الطبية في بستان القصر وفي أماكن شاسعة من البلاد الموت بالضبط لأنه الوجه الآخر للعودة إلى سورية الأسد. غريزة البقاء والاستمرار تعني سورية جديدة.

في ارتداد الثورة إلى تشبث السوريين ببقائهم أحياء، انعكاسٌ بليغ لتخاذل العالم وتواطوئه أمام عنف النظام الهائل، وتعري الصراع بينه وبين مجموعات في الطرف المقابل إلى سرديات مذهبية تعيدنا إلى ماضٍ بعيد. الحق أن في هذا خسارة لقيم نادت بها الثورة في طورها الأول. لكنه في الوقت ذاته ممارسة فعالة لسيرورة الثورة في إخراج المكبوت والمسكوت عنه إلى العلن، ومن ثم إرغام السوريين على الإدراك، بأصعب الطرق ربما، أن العلاقات بين مكونات اجتماعية وثقافية متنوعة لا تُبنى على شعار «الشعب واحد»، ولا على حُبٍ قسري، وإنما أولاً على المساواة في الامتيازات والحقوق وتوفر حدٍ أدنى من العدالة.

ماذا يبقى من الثورة إذاً؟ في الظاهر أشياء قليلة متبقية من طموحات مشروعة فجرتها انتفاضة سلمية. على الأرض، يبقى تشبث السوريين بالحياة في وجه الموت الجارف. يبقى الوجه الأقسى للثورة ربما! لكن هذا الارتداد إلى التشبث الشرس بحق الحياة هو ما سينقلنا إلى واقع جديد. سورية اليوم ليست البلد الذي نتوق إليه، لكنها لم تعد سورية الأسد كما كانت. التشبث بمقاومة الموت، هو بداية حتمية للتأسيس لسورية مختلفة، لا نعرف بعد كيف ستكون. لكنها على الأقل ستكون سورية جديدة.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى