صفحات سوريةماهر الجنيدي

ماذا تريد اليونان من السوريين؟/ ماهر الجنيدي

 

 

قد يتخذ السؤال بعداً إنسانياً محضاً إذا جعلناه يُعنى باللاجئين السوريين. لكنّه بالتأكيد سيأخذ بعداً أخلاقياً مؤرّقاً صادماً إذا صغنا السؤال على النحو التالي: هل تتواطأ الحكومة اليونانية مع مافيات التجارة بالمهاجرين السوريين غير الشرعيين؟ ثم، أين أخلاقيات اليسار الحاكم في اليونان من هذا التحالف الأسود؟

يجهد السوريون اليوم في تعلّم خبرات بعضهم في مواضيع الهجرة واللجوء والاندماج مع المجتمعات الأخرى. فالهجرة أمر، واللجوء أمر آخر. وبالنسبة للسوريين الذين يفكرون باللجوء إلى إحدى الدول الأوروبية، هناك في البداية مصطلحان أساسيان ينبغي عليهم استيعابهما، ويتعيّن فهمهما جيداً قبل البدء برحلة «العمر».

المصطلح الأول هو «شِنْغِن». و»شنغن» هي تأشيرة دخول، يحصل عليها المرء من معظم الدول الأوروبية المنضمّة إلى الاتحاد الأوروبي، وتتيح لحاملها التجوّل بين دول منطقة «شنغن» من دون حواجز أو تدقيق أو تفتيش، وكأنه في رحلة داخلية من حلب إلى حمص أيام زمان، أو من غازي عنتاب إلى مرسين هذه الأيام.

بعض دول الاتحاد الأوروبي ليست من «شنغن»، بمعنى أنها تتطلب تأشيرة خاصة لدخولها. إيرلندا والمملكة المتحدة مثلاً. من دون أن ننسى أيضاً أن بعض الدول الأوروبية ليست في الأصل عضواً في الاتحاد الأوروبي: سويسرا الجميلة الخلابة.

المصطلح الثاني هو «دبلن». و»دبلن» هي اتفاقية تتعلق باللاجئين إلى الاتحاد الأوروبي. تقضي هذه الاتفاقية بمنح الدولة التي استقبلت اللاجئ أولاً شرف إبقائه لديها لاجئاً ورعايته والاهتمام بأموره وفق أنظمتها المحليّة. أن يحطّ اللاجئ في إسبانيا أولاً، ثم يختار اللجوء إلى بلجيكا أو غيرها، أمر لا ترضى به إسبانيا لأنه يحرمها شرف استضافة اللاجئ، ولا ترضى به «عملياً» بلجيكا إذ يضيف على كاهلها عبئاً فوق أعباء تنوء بها، وهي ترى أن إسبانيا أَولى بإيوائه واستضافته.

إذاً، يمكن السوري المحظوظ الحصول على التأشيرة، ليصول ويجول في دول منطقة «شنغن» كما يشاء، يسرح فيها ويمرح من دون عوائق، شرط أن لا يفكّر بتقديم اللجوء إلا في بلد دخوله الأول إلى هذه المنطقة، وفق ما تقتضيه «دبلن».

الاستثناء الوحيد في هذا الأمر يتعلّق باليونان. فاليونان غير ملزمة باتفاقية «دبلن»، ما يعني أن بمقدور زائرها السوريّ الحاصل على تأشيرة نظامية منها أن يمضي ليطلب اللجوء في أي دولة «شنغن» أوروبية أخرى. فاليونان تتنازل عن شرف منح اللجوء لأي دولة «شنغن» أخرى.

واليونان إحدى الدول الاستثنائية إن لم تكن استثناء وحيداً من حيث التدابير الحدودية مع الدول المجاورة. فالخارجون من اليونان عبر حدودها البريّة أو موانئها البحريّة أو الجويّة، يخضعون لتفتيش دقيق على صلاحية ثبوتيات هوياتهم وتأشيراتهم. وهنا يضطر من لا يحمل مثل هذه الوثائق أن ينفق ما بين 3 و7 آلاف يورو، على المهرّبين، في رحلة انتقاله إلى ألمانيا مثلاً. يدفعها لهم مقابل حصوله على وثائق مزيفة، أو مزورة، أو منحولة، ووسيلة انتقال بري تستغرق أياماً، في رحلة لا تخلو من مخاطر قطّاع الطرق، جزء منها سيراً على الأقدام. وإلا، فأمام اللاجئ أن ينحو نحو المحاولات المتكررة للسفر جواً إلى دولة «شنغن» أخرى، إما أن تكون الدولة التي يرغب باللجوء إليها، أو دولة عبور أقل تشدداً في تدابيرها الحدودية نحو الدولة المرغوبة. كم يتمنّى السوريّ لو أن السويد تتبادل مع اليونان موقعها الجغرافيّ!

فاللاجئ غير الشرعي العابر باليونان، القادم من لجّة البحر بعد أن نجا من قراصنة البحر الملثمين الذين قد يعترضون طوافته ليصادروا أمواله ومن ثم روحه، ينفق في بلاد الإغريق مبلغاً مهماً بالمقارنة مع إنفاق سائح سوري نظامي، يحصل على تأشيرة «شنغن» نظامية من السفارة اليونانية في بلد إقامته، ويستقل طائرة يونانية للوصول إلى أثينا، ويستأجر سيارة يونانيّة خاصة متنقلاً طيلة مدة إقامته بين جزر اليونان ومنتجعاتها. فاللاجئ «غير الشرعي» يدفع أيضاً أجور إقامة فندقية لمدة أطول بكثير من السائح الذي يمضي أسبوعاً في اليونان، يرتحل بعدها إلى إيطاليا، أو ربما يعود إلى مكان إقامته الأصلية.

السؤال الذي يطرح: هل حقاً يشكّل اللاجئون (السوريون وغيرهم) غير الشرعيين الذين يحطون في شواطئ اليونان مصدراً مهمّاً للأموال، بالمقارنة مع ما يمكن لمواطنيهم (السوريين وغيرهم) أن ينفقوا في رحلة نظامية؟

قد تتفاوت الإجابات، لكن حظر الحصول على تأشيرات يونانية، أو عرقلتها، يعدّ وفق خبراتنا في دول الفساد مصدراً مهماً لاقتصاد موازٍ، لاعبوه الأساسيون متنفذون في بنية صنع القرار في اليونان.

ومن هنا، فإن الاستفادة من حظر الوصول النظامي إلى اليونان لا يفيد فحسب مافيات التهريب، وقطّاع الطرق، وعصابات النصب، على حساب دماء وأرواح وأرزاق السوريين وأمثالهم، بل قد يفيد أيضاً بعض الموظفين الفاسدين الذين عثروا على مصدر هائل للرشوات، فلا يمررون تأشيرة «شنغن» نظامية، إلا مقابل المعلوم.

ثمة تحالف أسود يستشعره السوريون، اللاجئون غير الشرعيين، العابرون في اليونان: تأخير في المعاملات، ابتزاز للأموال، استخفاف بالأرواح. أفخاخ القراصنة قبل الوصول إلى البر، وأفخاخ قطّاع الطرق قبل الولوج إلى أوروبا الكبرى.

أسئلة تكتسب مشروعيتها: ماذا تريد اليونان من السوريين؟ ألا يغدو السؤال مشروعاً عمّا إذا كانت تدابير الحكومة اليونانية تمثّل تواطؤاً غير معلن مع مافيات التجارة بالمهاجرين السوريين غير الشرعيين؟

لماذا، يا ربّ، لم تقع اليونان في شمال القارة الأوروبية، والسويد في جنوبها؟

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى