صفحات مميزة

ماذا حدث ويحدث في ايران؟ -مقالات مختارة-

 

حقائق وتساؤلات حول الأحداث في إيران/ أكرم البني

يتباهى أصحاب العقل التآمري بالقول إن الاحتجاجات الشعبية في إيران لم تفاجئهم، بل كانوا يتوقعون حدوثها، مرة أولى، استناداً لما يعتبرونه مخططاً خارجياً تنفذه أيادٍ ترتبط بالصهيونية والشيطان الأميركي الأكبر للنيل من الجمهورية الإسلامية وما حققته من «انتصارات» على صعيد نفوذها الإقليمي، ومرة ثانية، خضوعاً لأوهام وتقديرات سطحية عن سلطة دينية مطلقة القوة والجبروت، يبدو الخروج عنها برأيهم، أشبه بمسرحية مرسومة الأدوار، إن في سياق تنافس مؤسساتها على النفوذ والهيمنة، وإن لامتصاص الاحتقانات الداخلية المتصاعدة وتفكيك ما يخطط له الناشطون المعارضون، ودليلهم أن تجمع مدينة مشهد الذي شكل شرارة الانطلاق للاحتجاج على الفساد والغلاء كان مقرراً مسبقاً من قبل جماعات محسوبة على النظام، في إطار حملة يقودها التيار الشعبوي المتشدد لإضعاف موقع الرئيس روحاني!

صحيح أن إيران راكمت الكثير من العداوات وباتت أشبه بدولة منبوذة ومرفوضة جراء تجاوزاتها وسياستها التدخلية النشطة في المنطقة وتطاولها على مصالح الآخرين وحقوقهم، وصحيح أن ثمة صراعاً، غرضه تمكين السيطرة بين مراكز قوى النظام الإيراني، يغدو أحياناً جدياً ودموياً كما حصل إبان الثورة الخضراء عام 2009، لكن الصحيح أيضاً أن ثمة دوافع وأسبابا داخلية عميقة ما فتئت تحض الناس على التحرك والتظاهر والتمرد، بدءاً بالتردي غير المسبوق للأوضاع الإنسانية والمعيشية وارتفاع نسب التضخم والبطالة وأعداد الإيرانيين الذين باتوا يعيشون تحت خط الفقر، مروراً باتساع ظواهر الظلم السياسي والقهر الثقافي، وأيضاً فشل الحكومات المتعاقبة في محاصرة فساد مستشرٍ وفي تقديم إجابات شافية عن أسئلة تثار اليوم حول الفئات المستفيدة من الأموال المحررة بعد توقيع الاتفاق النووي، ولماذا لم ينعكس تخفيف العقوبات الاقتصادية على الحياة اليومية للبشر! وانتهاءً بتنامي امتعاض الإيرانيين وقلقهم من تواتر وصول جثامين أبنائهم الذين قضوا في حروب سورية والعراق واليمن، ما يفسر الحضور القوي لشعاري، «إيران أولاً»، ثم «لا غزة ولا سورية ولا لبنان، روحي فداء لإيران»، إلى جانب الشعارات المطلبية المتعلقة بمحاربة الفساد وتحسين الأوضاع المعيشية.

والأهم، ألا يصح ربط تلك التطورات بمتلازمة عانت منها العديد من الأنظمة ذات النزعات التوسعية أو الإمبراطورية، وهي متلازمة الاستهتار بالبنية الداخلية ومشكلاتها لقاء تعزيز النفوذ الخارجي؟ ألم يعان الاتحاد السوفياتي منها وقد امتص عافيته وطاقته سباق التسلح والصراع على مناطق النفوذ في العالم ما أفضى إلى انهياره السريع؟ أولا يصح النظر من القناة ذاتها إلى الأزمة التي لا تزال تعتمل داخل الولايات المتحدة الأميركية، نتيجة حروبها الاستباقية في العراق وأفغانستان؟ وأيضاً، ألا يصح القول إن حكومة طهران تسير على المنوال ذاته، نتيجة توظيف قدراتها التنموية في معارك التنافس على الهيمنة الإقليمية تاركة شعبها يئن تحت وطأة العوز والحاجة، فكيف الحال وهي الأفقر اقتصادياً والأقل قدرة على التجدد سياسياً؟ ثم إلى متى قد يصمت الإيرانيون عن سياسة «تصدير الثورة» وهي تمتص عافيتهم وكفاءاتهم وتفاقم مشكلاتهم ومعاناتهم؟ وهل ثمة أوضح من تحذير نواب في البرلمان الإيراني من أن الدولة والمجتمع لا يستطيعان تحمل تكاليف مغامرات التدخل الخارجي، وأن الشعب الإيراني لن يقبل أن يعود أبناؤه في أكفان قتلى دفاعاً عن أنظمة أخرى، حتى لو تم تبرير ذلك بأنه دفاع عن أمن الجمهورية الإسلامية؟!

المشكلة أن النظام في إيران لا يزال يعيش على الفهم التقليدي للقوة ببعدها العسكري والأمني، وليس بصفتها تضافر جملة من العوامل والارتباطات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والعسكرية، الأمر الذي أفقده القدرة على صياغة خطة موضوعية متكاملة للنهوض بمجتمعه وللتعاطي الإيجابي والمثمر مع بلدان المنطقة والعالم، وزاد الطين بلة إصرار النخبة الحاكمة، كلما احتدمت أزمتها، على الهروب إلى الأمام والسعي، بدلاً من البحث الجدي عن مخارج حقيقية لما هي فيه، نحو استجرار مغامرة تلو المغامرة متوهمة القدرة على معالجة أزمتها بمزيد من توسيع السيطرة الخارجية عسكرياً، تحدوها تعبئة مذهبية بغيضة وتطلع لاستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية، ربما لأنها لا تعرف السباحة خارج هذه المياه أو لأن ما تقوم به لم يعد خياراً بل نهجاً إجبارياً لقاء استمرارها في السلطة وحماية امتيازاتها.

لكن، إن عاشت الإمبراطوريات في الماضي عشرات وأحياناً مئات السنين، فإن عمرها اليوم بات قصيراً وربما قصيراً جداً في ظل المتغيرات النوعية التي حدثت عالمياً وتنامي وعي الشعوب لحقوقها وتقدم حدة المنافسة على الهيمنة مع تطور مذهل للتكنولوجيا العسكري ولثورة الاتصالات، والأهم في ظل الأثمان الباهظة بشرياً ومادياً، لتكلفة تحقيق النفوذ والانتصار، فكيف بتكلفة البقاء والحفاظ على الوضع الجديد، ناهيكم عن تكلفة فقدانه.

والحال، ربما لن تتمكن التحركات الشعبية في إيران من إحداث فارقاً نوعياً يبشر بتغيير الوضع القائم أو على الأقل يشغل السلطة ويحد من تدخلاتها الخارجي، وربما يتمكن نظام الاستبداد بوسائله القمعية المجربة وعنفه العاري من محاصرتها وإجهاض فرص تطورها، لكنه لن يستطيع إزالة ما تخلفه من آثار، بداية بهتك وهز صورة سلطة تدعي الانتصار والجبروت، ثم بتعميق التحولات والانقسامات في المجتمع الإيراني وتشجيع تبلور كتلة اجتماعية وتيار ثقافي وسياسي، تجمعهما مواجهة مستمرة ضد الاستبداد والفساد والحرمان والتهميش والتمييز؟.

واستدراكاً، ألا تصح قراءة الاحتجاجات الشعبية في إيران من زاوية مفاقمة أزمة الإسلام السياسي، ما يؤكد، من جديد، عجزه عن حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وتالياً حقيقة إخفاق أنظمة الحكم الشمولي وفشلها في قيادة المجتمع وإنجاز برامجه التنموية؟ والأهم من زاوية تغذية الأمل لدى مجتمعاتنا العربية باقتراب موعد الخلاص من الفوضى والعنف والشحن المذهبي ربطاً بالتدخل العضوي متعدد الوجوه لحكومة طهران وأدواتها في شؤوننا، ودورها في ما وصلنا إليه؟!

الحياة

 

 

 

 

إيران.. الحاجة إلى ثورة على الثورة/ عمار ديوب

يتفق أغلبية المتابعين للاحتجاجات الشعبية في إيران  أن لها جذراً مطلبياً واقتصادياً، وتسمى “انتفاضة الفقراء”، فهي انطلقت إثر إفلاس شركات مالية وبنوك في مدينة مشهد، وعدم تعويض الحكومة لهم، أو إجراء ملاحقات قضائية لاسترداد حقوقهم، وتضرّر أكثر من 160 ألف عائلة بسببها، وضياع نقودهم المودعة من أجل الحصول على مساكن. هناك عامل آخر، وهو أيضاً اقتصادي، ومتعلق بالميزانية الجديدة للعام 2018، والتي فيها تعزيز للسياسات الاقتصادية الليبرالية، وفيها بنود “ظالمة” تخصُّ رفع الأسعار وزيادة الضرائب وتخفيف الدعم للسلع الأساسية للمواطنين، والتخلي عن الدعم الحكومي للمعدمين والفقراء، ويقدَّرُ عدد هؤلاء بين 20 مليونا و30 مليون إيراني، وفق إحصائيات متضاربة. ولو أضفنا نسب الفساد الضّخمة، والتي لا توفر حتى مرشد الجمهورية ذاته، علي خامنئي، ومؤسسات الحرس الثوري، فإن هناك أسباباً اقتصادية حقيقية للاحتجاجات. وثانياً، ولأن للأمر هذه الحيثية، فقد تقدمت الشعارات المطلبية والسياسية المتعلقة بالأزمة الاقتصادية العامة في إيران، بينما لم تظهر لحظة راهنة شعارات متعلقة بالتظلمات القومية أو الدينية، أو حتى بين الإصلاحيين والمحافظين بشكل كبير؛ الجدال بين الإصلاحيين والمحافظين، وأن الأخيرين هم من دفع نحو التظاهر، ثم “فلتت” الأمور، ربما يكون صحيحاً؛ لكن الأمر أكثر جذرية، وشعارات الاحتجاجات لم توفر كلاً من روحاني وخامنئي، ويتكرّر شعار: فليسقط روحاني وليسقط الديكتاتور، ولترحلوا، وألا تخجلون.

انتفاضة الفقراء

تتفاوت الأوضاع الاقتصادية هذه، بين الأقاليم وبين القوميات، فتصل نسب البطالة لدى الكرد

“فئات كثيرة متضرّرة من نظام الولي الفقيه، ومن نظام روحاني، علماً أن الأخير لا يعتبر من الإصلاحيين بشكل كامل”

والعرب إلى 60% مثلاً، والنسبة العامة للبطالة هي 13%، وهناك طبقة عاملة مفقرة أيضاً وتعدادها 27 مليون إيراني، والتضخم يتزايد بشكل كبير، ما يقلل من قيمة الدخل إزاء الأسعار في الأسواق. الأوضاع المتدهورة لأغلبية المواطنين هذه اضطرت الرئيس السابق، محمود أحمدي نجاد (2005-2013)، إلى وضع قانون لدعم الفقراء، بما يعادل 11 دولارا للشخص الواحد شهرياً. وطبعاً بسبب التضخم يصبح هذا الرقم عديم القيمة والأهمية، وبالتالي، تشكلت كتلة بشرية متضرّرة من النظام، بإصلاحييه ومحافظيه؛ وقبل حكم أحمدي نجاد، واستمرت معه ومع روحاني.

غازل الرئيس روحاني، ومن أجل التجديد لولايته، مؤسسات الحرس الثوري؛ ففي وقتٍ خفف من ميزانية البنية التحتية، والقوات المسلحة الرسمية، ورفع الدعم، وزاد أسعار المحروقات، فقد رفع من ميزانية الحرس الثوري، وهذا عامل مهم للاحتجاجات؛ فأغلبية الإيرانيين، ولا سيما فئات الشباب، والتي ولدت بعد “الثورة” 1979، وبعد الحرب مع العراق، وهي نسب كبيرة، ترفض سياسات الحرس الثوري الداخلية والإقليمية وهدر الأموال على مليشيات طائفية، تخرّب في العراق ولبنان وسورية واليمن، ولا تجد سبباً حقيقياً لذلك الدعم، بينما هم يموتون جوعاً. وبالتالي، شكل هذا، أي بند رفع ميزانية الحرس الثوري، سبباً مباشراً للاحتجاجات، وأن الإيراني أولاً وليس غزة أو سورية أو لبنان “لا غزة ولا لبنان روحي فداء إيران”. ولا يغير في الأمر شيئاً إن كانت هذه الشعارات لأسباب عنصرية وعرقية ضد العرب عرقا، أو ضدهم بسبب مساعدة العرب “الممانعين”، ويُكذبُ فكرة العنصرية هذه أن المظاهرات امتدت إلى كل مناطق قوميات إيران، ولم تظهر تطلعات قومية بعد كأطروحات حكم ذاتي أو ما شابهها.

اختلاف واتفاق

يميل أغلبية المعلّقين إلى أن أسباب تحركات 2018 مختلفة عن الحركة الخضراء 2009، فالثانية تمثّل مطالب سياسية من الطبقة الوسطى، وهي من أوساطٍ ليست ضد النظام، لكنها مع إصلاحات كثيرة فيه، بينما الاحتجاجات الحالية هي من الطبقات المفقرة والمهشمة، ومن الشباب العاطل عن العمل، وليست متمركزةً في طهران، بل تعمّ كل الأقاليم والقوميات، ولم ترفع شعاراتٍ تخص حسين مير موسوي، أو مهدي كروبي، القابعين تحت الإقامة الجبرية للحظة الراهنة، وكذلك لم تستجِبْ جماهيرُ القياديين للاحتجاجات وتنضم إليها. وبالتالي، هناك روحٌ ثورية وتمرّدية جديدة، ولا ترتبط بأي حال بأوساط 2009. ربما تنتظر الأوساط الأخيرة اشتداد عود المظاهرات، وهو حال المعارضة الخارجية، لتندمج فيها بشكل كبير، على الرغم من أن المعارضة والأحزاب القديمة بدأت تتحرّك لنصرة الاحتجاجات.

إذا هناك فئات كثيرة متضرّرة من نظام الولي الفقيه، ومن نظام روحاني، علماً أن الأخير لا يعتبر من الإصلاحيين بشكل كامل، وربما هو بين المحافظين والإصلاحيين. وأوساط المحتجين حالياً كما حال أوساط محتجي 2009، لا يعادون أميركا، وهذا يناقض الأيديولوجيا السائدة، والتي تؤكد على موقفٍ رافض للولايات المتحدة. أي أنّها أوساط أقرب إلى الليبرالية واليسار، وتريد تغييرات كبيرة في مجال العمل والحريات والسياسة، وكذلك تريد إيقاف كل أشكال الدعم للمليشيات الخارجية المدعومة منها، وأيضاً تريد إنهاء الحرس الثوري وقوات التعبئة الشعبية (الباسيج)، وكل الظواهر الخارجة عن الدولة. وإذا أضيف إلى كل هذه الأوساط المثقفون الإيرانيون الراغبون بالفصل بين الدين والدولة، وهو أمر متأصل عند كثير من رجالات الدين والمثقفين الإيرانيين، وإنْ من زاوية الإسلام، وكذلك الرافضين فكرة الولي الفقيه، فإيران مقبلة على احتجاجات كبيرة وعنيفة؛ إذ هناك سقوط كامل للأيديولوجيا الحاكمة، ورغبة في تبني أيديولوجيا ورؤية جديدة للعصر، وتنطلق من علاقات طبيعية مع الجوار العربي ومع العالم، ووفق أسس المواطنة وحقوق الإنسان.

الحرس الثوري ومؤسساته والباسيج وقوات أخرى بقيادة الولي الفقيه وجماهيره، وربما قطاع

“قتل نظام الولي الفقيه آلاف المعارضين السياسيين، ولا سيما من حركة مجاهدي خلق وحزب تودة الشيوعي”

من الإصلاحيين، وليس فقط المحافظين، سيصطفون مع النظام بوجهيه، وهذا سيعقّد المشهد كثيراً؛ الجيش “الوطني” والشرطة “الوطنية”، ربما ستضطر للتدخل للحفاظ على الدولة، سيما أن ميزانيتها أقل من ميزانية الحرس ومتضرّرة من وجوده، ولكن هذا يتطلب وقتاً إضافياً، والخوف الآن من انشقاقاتٍ كبرى فيه، كما حدث في 1979 في إيران، وكانت سبباً في إنهاء حكم الشاه! وربما يكون للانشقاق طبيعة مختلفة كما حصل في سورية، وهذا سيشكل مشكلةً كبرى على مستقبل إيران.

مشكلة القوميات المتعددة، ولا سيما الأذريين والأكراد والعرب والبلوش وسواهم، أيضاً ستُطرح بقوة، وقد أصبحت قواهم التاريخية تتحرّك في إطار الحركة المطلبية، ولم تستخدم السلاح بعد، أو الأطروحات القومية، كالحكم الذاتي وسواه. لو أضفنا القوى السياسية التي هزمها نظام الولي الفقيه، وعلق مشانقها أيضاً وهي بالآلاف، وهي المعارضة التاريخية، وهناك الشاه وأنصاره؛ هذه كلها فئات متضرّرة، وستتحرّك على أكبر أزمة اجتماعية، أزمة تتفجر بشكل واسع، وفي إطار دولة يزيد سكانها عن 80 مليونا، وأكثر من نصفهم فقراء، والمتضرّرين من سياسات النظام الحالي، ويختلفون معه في كل شيء، في سياساته الطائفية والإقليمية والتسليحية والدولية؛ أزمة بكل هذه الضخامة تتطلب حلولاً سياسية وتنازلات ضخمة، وتغييرات في الاستراتيجية الكلية للنظام. ولم يتحسّس النظام أزمته الحقيقية بعد، وهو يطوّر يومياً من خياراته الأمنية.

أدوار إقليمية

ساهم النظام الإيراني بأدوار خطيرة في إخماد الثورة في اليمن وسورية، وكذلك في إخماد الاحتجاجات في العراق وخلق “داعش”، ولعب دور خطير، ومنذ السبعينيات، في اجتثاث المقاومة الوطنية في لبنان، واستفاد أيما استفادة من تدمير الاحتلال الأميركي للعراق، وفرض هيمنة عليه، ونهب كثيرا من ثرواته، لكن مشاريعه الجنونية في تسليح المليشيات والسلاح النووي والباليستي، والرغبة في تشكيل دولة إمبراطورية والسيطرة على العرب، دفعته إلى تخصيص المليارات، وبسبب العقوبات المفروضة عليه من أميركا وأوروبا، وبسبب عدم إفراج الرئيس الأميركي عن المليارات المحتجزة وفق الاتفاق النووي، وتراجع قيمة العملة المحلية، فإن هذا النظام دخل بأزمة عميقة، وبالتالي أصبحت “الثورة” ضرورة تاريخية.

وكان للنظام الإيراني الدور الأكبر في تقوية النظام في سورية، وفي تطييف الثورة وفصائلها، وهذا ساهم في إخماد الروح الثورية في كل الدول العربية. وبالتالي، يشكل اندلاع الاحتجاجات في إيران فرصة جديدة لتجدّد الثورات العربية. وباعتبار علماء اجتماع كثيرين يؤكدون أن انتصار الثورة الإيرانية في 1979، وبقاء نظام الملالي قائماً، ساهم في تقوية النزعة الأصولية السنية. وبحدوث ثورة ضد نظام الولي الفقيه، سيما أنه لعب دوراً طائفياً في العراق واليمن وسورية ولبنان وسواها، فإن تحجيم حكم الملالي، وربما تغييرات كبرى ستحدث فيه، سيكون لها أثرٌ كبيرٌ في تجدّد الثورات العربية، وتقليص الحضور الديني السياسي، وربما سيساهم الأمر في بروز حركاتٍ علمانيةٍ وليبرالية ويسارية كذلك؛ علماً أن هناك ميلاً علمانياً واسعاً لدى المحتجين الإيرانيين حالياً؛ دور المرأة فيها مؤشرٌ بارزٌ.

أربعون عاماً مضت على إسقاط الشاه في 1979، وتمّ ذلك لأسبابٍ شبيهةٍ بما يجري الآن في إيران، ربما باستثناء استمرار أيديولوجيا نظام الملالي برفض أميركا وإسرائيل، علماً أن هذا النظام تعاون مع أميركا في كل من باكستان وأفغانستان والعراق؛ ففي العراق منذ إسقاط نظام الأخير بيد الاحتلال الأميركي 2003 تم تسليمه لحكومة تسيطر عليها أحزاب طائفية تابعة للنظام الإيراني، وتحديداً للحرس الثوري وللولي الفقيه. يُضاف أيضاً أن النظام الإيراني وظّف أكثر من سبعمائة مليار دولار في البرنامج النووي، وهو ما فعله الشاه حينما كان شرطي الخليج، و”المقاوم” الأبرز في الخليج، ومناطق كثيرة ضد الحركات الشيوعية، وأكبر مستورد للسلاح من أميركا، ووصل إلى 15 مليار دولار، وهو ما فعله النظام الحالي ضمن برامج التسليح، ودعم المليشيات الطائفية التي تفتك بالدواخل العربية، ضمن مشروع تصدير الثورة. وهناك الفساد الكبير، ويشمل كل الطبقة السياسية الحاكمة في إيران، ويكرّر بذلك حالة الشاه نفسها. الأسوأ حالياً أن الجيش جيشان، وهناك رفض شعبي واسع للحرس الثوري، والذي وظيفته حماية نظام الولي الفقيه تحديدا، وقمع الناس حينما تتظاهر بشكل يهدّد مصير الحكم، كما يفعل حالياً في كل المدن الإيرانية.

بين 1979 وما بعده

قتل نظام الولي الفقيه آلاف المعارضين السياسيين، ولا سيما من حركة مجاهدي خلق وحزب

“مؤشرات عديدة تشكّل ملامح أوليّة للتغير، وهي وضعية ثورية بامتياز”

تودة الشيوعي، ومن بقية الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والاتحادات الطلابية، وهو ما فعله النظام السابق لما قبل 1979. إذا هناك عناصر متشابهة بين حالتي 1979 والاحتجاجات أخيرا. ويضاف إليها الآن، أنه إذا كان الشاه، باعتباره حاكما مطلقا ومستبدا يتحكم بإيران، وتنوعت المعارضة ضده من رجالات دين وطلاب وأحزاب سياسية، فإن رجال الدين سقطوا في امتحان السلطة، وأصبحوا من أبرز الفاسدين، ومارسوا حكماً مطلقاً، وأحكموا “أيديهم” في مؤسسات النظام “المدني” من خلال مؤسسات تابعة للولي الفقيه، وتشلّ مدنية الحكم، كما الحال مع مؤسسة تشخيص النظام والحرس الثوري نفسه. وبالتالي، هناك رغبة عارمة لتحقيق الفصل بين الدين والدولة، وإنهاء حكم “الديكتاتور آية الله خامنئي”، كما يردّد المتظاهرون، أي أن أغلبية الشعب الإيراني، وكما ظهر في أوساط “الحركة الخضراء 2009، والأوساط الحالية تريد حكماً مدنياً بالكامل، وإعادة الدين الشيعي الاثني عشري إلى ما قبل ولاية الفقيه التي أسس لها الخميني، وأن يتخصص بقضايا الدين حصرياً.

هناك نقطة جديدة وتشابه ثورة 1979، هي أن الطلاب بدأوا بمظاهرات 1977، والتي لم تتوقف إلى لحظة رحيل حكم الشاه. يتكرّر الآن أيضاً المشهد نفسه، ويتطور كما ذكرنا إلى كل المدن الإيرانية. محاولة النظام الالتجاء للشعب وإخراج مظاهرات مندّدة بالاحتجاجات، هي وسيلة استخدمتها كل الأنظمة العربية ضد ثوراتها، وهي دلالة ضعف كبيرة في النظام، وفقدانه للمشروعية الدستورية والشعبية.

.. إذا هناك مؤشرات عديدة تشكّل ملامح أوليّة للتغير، وهي وضعية ثورية بامتياز. تطور الوضع الإيراني يتوقف على دور النظام هناك، وقد ذُكرت الخيارات الممكنة أعلاه. ويضاف هنا إن النظام لو تمكّن من دحر الاحتجاجات، ماذا لديه من مشاريع لتفادي الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي أوضحت السطور السابقة بعض أوجهها؟ وكذلك كيف سيتصالح مع “الحركة الخضراء” أيضاً؟ فقد النظام في عام 2009 الطبقة الوسطى، وربما تهاوت أغلبيتها إلى شباب الاحتجاجات الحالية. وبالتالي، هناك أزمة كبيرة في إيران، وتتطلب حلاً فوراً. تسكين الوضع بالقمع، كما تفعل الأنظمة العربية، كحال مصر والسعودية وتونس وسورية وسواها ليس حلا. وبالتالي، هناك ثورات واحتجاجات وتمرّدات متعدّدة، يصعب إخمادها بشكل كامل، قبل أن تنال الشعوب حقوقها الاقتصادية والاجتماعية والقومية والدينية والسياسية وسواها.

العربي الجديد

 

 

عندما يشدّ بوتين وأردوغان على يد خامنئي/ عمر قدور

بخلاف انتفاضة 2009، التي نالت دعماً غربياً لفظياً فحسب، لم تنل المظاهرات الأخيرة سوى تصريحات غربية فاترة وعمومية تتعلق بحق إبداء الرأي. في هذا الصدد، تغريدات دونالد ترامب المساندة للمتظاهرين لا يُنظر إليها بجدية تفوق تباهيه بامتلاكه زراً نووياً أكبر مما لنظيره الكوري الشمالي، وربما تكون أكثر صدقية تصريحات أندرو بيك، نائب وزير الخارجية لشؤون إيران والعراق، لجريدة «الحياة» حول سعي إدارته إلى تغيير في سلوك إيران، لا تغيير نظامها.

ولعله من المستغرب وجود اتفاق عام على فضيلة تحييد الغرب عن الشارع الإيراني، ما يعكس لدى البعض انعدام الثقة بوجود دعم غربي حقيقي لحقوق الإنسان، ولدى البعض الآخر نكوصاً (أو عداء أصيلاً) لكل ما يمت بصلة لقضايا العالمية أو العولمة. في حين لا تخفى النتائج المتوقعة لبقاء الإيرانيين وحدهم في العراء أمام آلة قمع جهنمية، آلة تستعيد تفاصيل تعامل تنظيم الأسد مع بدء الثورة لتشير إلى العقل المدبّر في طهران، ولتُنذر بمآل لا يريد الغرب تحمل تكاليفه إذا رغب الإيرانيون في مواجهته.

في مقابل نكوص الغرب وانكفائه، لم يتردد الكرملين والإعلام التابع له في تأييد نظام الملالي، ليتبعه مكتب أردوغان ووزير خارجيته في إعلان التأييد، وإذا أتى الدعم التركي من بوابة دعم توجه الرئيس روحاني، فالمغزى الأهم في الإشارة التركية إلى أن المظاهرات لا تحظى سوى بتأييد نتانياهو وترامب! أول ما يعنيه هذا الاصطفاف أن تفاهمات القوى الثلاث انطلاقاً من الملف السوري أعمق من التوافق الآني أو الموضعي، وأن ما كان يُشاع عن تنافسها تشبّهاً بالماضي تدحضه الوقائع، فلا حرب مقبلة بين القيصر والسلطان، ولا حرب محتملة أيضاً بين ورثة الصفويين ووريث العثمانيين.

ربما يكون الغرب الأوروبي بعدم تأييده الإيرانيين قد فوّت فرصة التصويب عليه من قبل أردوغان، خاصة مع موقف رئاسة ماكرون الذي بدأ بالانقلاب على موقف سلفه من بشار الأسد، ليصل اليوم إلى ما يشبه مباركة لنظام الملالي، مع التهيؤ لاستقبال أردوغان بعد عدم توفير الأخير أية فرصة لمهاجمة أوروبا والنيل من أنظمتها الديموقراطية. مصدر نقمة أردوغان على أوروبا ليس في عدم قبول بلاده ضمن الاتحاد الأوروبي، فإشهار هذه النقمة يتزايد مع كل عملية قمع يقوم بها في تركيا، أي أن استهداف النموذج الأوروبي توظيفٌ في الداخل وتبرير لما يحدث فيه، ووفقه قد يأتي الانسحاب من اتفاقيات الشراكة مع أوروبا تخلصاً من التزاماتها الحقوقية في الداخل، لا انتقاماً لعدم نيل العضوية الكاملة وإرضاء لنرجسية الشعور القومي المحلي.

في ما يذكّر بأسباب نقمة متظاهري إيران، تقع العملة التركية في أسوأ مستوى لها منذ استلام حزب العدالة الحكم، ويتراجع مؤشر الحريات الأساسية على نحو خاص منذ الانقلاب المضاد بعد فشل المحاولة الانقلابية. في الوقت ذاته، تقتسم أنقرة النفوذ في سورية مع موسكو وطهران بالتحالف معهما، وتسعى إلى اكتساب مناطق نفوذ تصل إلى أفريقيا. وكما هو معلوم، تلازم التردي الداخلي والطموح الخارجي هو سمة الاستبداد، يُضاف إليه تردي العائد المتوقع من التوسع الخارجي على العكس من القراءة الخلدونية لصعود الأمم وهبوطها ومن مسيرة الاستعمار عموماً.

لا غرابة في أن يستلهم أردوغان تجربة نظيره الروسي، فبوتين أيضاً يتربع على عرش المافيا الحاكمة، يخوض مغامرات عسكرية خارجية، ويكاد يصور نفسه كما الاسكندر بينما مؤشرات الاقتصاد الروسي في مستوى متدنٍّ، والعملة المحلية تنوء بثقل تضخم لا يعكس نمواً اقتصادياً بل تراجعاً في مختلف القطاعات. أما للدلالة على حال الحريات فلا تكفي الإشارة إلى تداول السلطة بين بوتين وميدفيدف، ما لم تقترن بالإشارة إلى التصفية الجسدية لبعض المعارضين أو الافتراء على بعضهم الآخر لتصفيته معنوياً وحرمانه أية فرصة للمنافسة السياسية.

في الواقع ليست المشتركات مع نظام الملالي هي ما يدفع بوتين وأردوغان للشدّ على يد خامنئي، فإلى جانبها هناك طموح مشترك لاستغلال فرصة استراتيجية تاريخية متعينة بالانكفاء الأميركي والغربي عموماً عن المنطقة. الطموح، لدى أطرافه الثلاثة، يتغذى على تراجع الغرب عن تبشيره بقيم حقوق الإنسان، وتالياً على اعتبار المنظومة الدولية لحقوق الإنسان في حكم المنتهية والتأسيس لما يناقضها في البلدان الثلاثة وفي مناطق نفوذها المكتسبة، إن لم تكن الأخيرة على نفس سويتها أو أدنى. التهجم على القيم الغربية، التي يُقصد منها تحديداً الدفاع عن حقوق الإنسان، هو الغطاء الأيديولوجي للأنظمة الثلاثة التي لا تتقاسم أية منظومة مفاهيمية سوى الطموح إلى السيطرة داخلياً وخارجياً، وإلى الاستقواء بالسيطرة الخارجية على الداخل.

وعلى رغم القول التقليدي أن السياسة لا تحتمل صداقات دائمة إلا أننا عايشنا صداقات مديدة، تحديداً منها تلك القائمة على تشابه في أنظمة الحكم ومقاصدها. تأييد موسكو وأنقرة نظام الملالي ضد المتظاهرين يندرج في هذا السياق، ويجدر به التخفيف من التحليلات التي تراهن على شقاق روسي- إيراني يبدأ من سورية، أو تلك التي تراهن على براغماتية أردوغان، من دون التفكر في طموحاته التي تنسجم مع حلفائه الجدد بمقدار ما تتناقض مع القيم الديموقراطية الغربية.

التغيير الديموقراطي في إيران ليس شبحاً يؤرق بوتين فقط وهو يستعد لتجديد ولايته الرئاسية، وإنما يؤرق أردوغان وهو يحصد مكاسب استفراده بالسلطة. انفلات التعدد الإثني والديني في إيران شبح آخر يؤرق الاثنين، ولا يتوقف عند القضية الكردية التي توحد بين أنقرة وطهران داخل حدودهما وخارجها. هذا الموقف ينسجم مع جملة المواقف الغربية التي باتت تفضّل الاستقرار، بضمانة أنظمة الاستبداد، على تحول غير مضمون النتائج، إلا أن السياسة الغربية المستجدة تملك من قصر النظر بقدر تدني دوافعها الأخلاقية، ولا تتوقف بتعقل ضروري أمام الواقع الذي يقول إن روسيا التي تقود التحالف الجديد هي أكبر مورِّد للنازحين واللاجئين إلى الغرب تاريخياً، سواء من ضمن الاتحاد الروسي أو السوفياتي أو من شعوب الأنظمة التي حظيت وتحظى بدعم روسي. مع مجمل هذه السياسات، مؤشر الأمل هابط جداً، وربما يحمل الروس والإيرانيون العبء الأكبر للارتقاء به.

الحياة

 

 

 

 

الانتفاضة السورية والاحتجاجات الإيرانية: أي قواسم مشتركة؟/ صبحي حديدي

كانت صفات مثل «الزعران» و«الشوارعية» و«الحفيرية»، ثمّ في خيار ثالث أكثر تفذلكاً: «الدهماء»، هي بعض التسميات التي استقر عليها عدد من المثقفين السوريين في توصيف المشاركين في أولى أنشطة الانتفاضة الشعبية السورية؛ ابتداءً من تظاهرة حي الحريقة الدمشقي العريق في 17/2/2011، مروراً بالتظاهرات التي خرجت من المسجد الأموي عصر 15/3، ثم شرارة درعا في «جمعة الكرامة» التي أشعلت الاحتجاجات ونقلتها إلى سائر أرجاء البلد، وليس انتهاءً بتظاهرات ريف دمشق واللاذقية وحمص وحماة ودير الزور والقامشلي. كانت التسميات تلك تلجأ إلى التوصيف السلوكي أو الأخلاقي الغائم والتعميمي، لكي تخفي المحتوى الطبقي تارة (فقراء الهوامش، والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى)، أو تطمس السمة الأجيالية (غالبية ساحقة من الشباب)، أو تتعامى عن غياب النخب (بعض «مشاهير» أولئك المثقفين أنفسهم، من مبتكري التسميات، وبينهم عدد من معارضي النظام المخضرمين أو المتقاعدين).

حال شبيهة، بعض عيناتها تلوح متطابقة تماماً وعلى نحو مذهل، نشهدها اليوم في توصيف احتجاجات الشارع الشعبي الإيراني الراهنة؛ من زاوية أولى مشتركة، هي أنّ غالبية المتظاهرين تنتمي إما إلى الشرائح السفلى من الطبقة الوسطى (بالنظر إلى أنّ الشرائح العليا بقيت، إجمالاً، بعيدة عن المشاركة)، وإما إلى هوامش المدن ومراكز العمران، فضلاً عن هيمنة «أقليات» مثل الأحواز والبلوش والآذريين والبختياريين والقشقائيين والتركمان. وكما كانت التوصيفات السورية تتوخى القدح، وتسفيه الانحدار إلى هذا المستوى «الهابط» من معارضة النظام؛ فإنّ التوصيفات الإيرانية تستهدف الغرض ذاته تقريباً، أي نزع الصفة الطبقية والاجتماعية عن الاحتجاجات، وإلصاقها بنزوعات تمرّد «شارعية» وأعمال شغب وتخريب ونهب ممتلكات. هذا إذا وضع المرء جانباً حقيقة اتفاق المثقف، السوري والإيراني، معارضاً كان أم موالياً، مع السردية الأبكر التي أشاعتها السلطة؛ في أنّ جهات خارجية هي التي تغذي الاحتجاجات.

في المقابل، وكما تمتّع النظام السوري بـ»رصيد» جماهيري لدى فئات اجتماعية وطبقية ليست محدودة، لا تؤيد النظام بالضرورة، لكنها في الآن ذاته ليست متضررة من سياساته، وليست ضحية استبداده أو فساده؛ كذلك فإنّ النظام الإيراني، وهذا يشمل سياسات حكومة هذا الرئيس الإيراني أو ذاك، تمتع بأرصدة جماهيرية مماثلة، لا تمسها مباشرة آلام الغلاء والبطالة والفقر، ولا تؤذي محافظها المالية مغامرات تصدير الثورة والتورّط السياسي والعسكري والمذهبي في لبنان والعراق وسوريا واليمن. لكنها جماهير، على نقيض جماهير النظام السوري هذه المرة، استجابت للحراك الشعبي الهائل في سنة 2009، احتجاجاً على ملابسات انتخاب محمود أحمدي نجاد، وانخراطاً تحت قيادة شخصيات «إصلاحية» من طراز مهدي كروبي ومير حسين موسوي. وهي جماهير قابلة، في كلّ حين أغلب الظن، للمشاركة في تحرّك تقوده تلك الشخصيات، وقد تنضم إليه شخصيات لا تقلّ شعبية مثل الرئيس الأسبق محمد خاتمي، يستهدف إصلاح مبدأ الولي الفقيه، على نحو يحدّ، ضمناً ولكن أساساً، من السلطات القصوى التي يتمتع بها المرشد الأعلى.

لا تسعى هذه المقارنات إلى المساجلة بأنّ حراك الاحتجاجات الراهن في إيران قد انقلب لتوّه، أو يمكن أن يتطور، إلى انتفاضة شعبية على غرار ما شهدته سوريا في ربيع 2011؛ فالمعطيات مختلفة تماماً، وكذلك المشهد الاجتماعي والسياسي والديمغرافي، فضلاً عن طبيعة النظام السياسي. لكن هذه السطور تسعى، في المقابل، إلى تلمّس بعض أواليات تغييب الأبعاد الاجتماعية والطبقية، أو ترحيلها إلى عناصر تعميم إطلاقية عن سابق عمد تارة، أو عن تجاهل وتغافل تارة أخرى. من الصالح، مثلاً، أن يرى المرء بُعد الاستبداد، في معظم تجلياته، خلف الشعارات المطالبة بإسقاط «الدكتاتور» مثلاً، خلال الانتفاضة الشعبية السورية والحراك الشعبي الإيراني الراهن. المستبد الإيراني، شخص علي خامنئي هنا، ليس سليل نظام وراثي عائلي قوامه الاستبداد والفساد والنهب وشبكات الولاء وهيمنة الأجهزة والتمييز والتعبئة الطائفية، على غرار ما انتفض الشعب السوري ضده. لكنه نظام يمنح الولي الفقيه صلاحيات خرافية ترقى إلى مصافّ الاستبداد، وتُفرغ الكثير من مؤسسات الدولة وأحكام الدستور والحقوق العامة من مضامينها.

على سبيل الأمثلة، الأبرز في الواقع لأنها كثيرة ومتشعبة، للولي الفقيه أن يسمّي أعضاء مجلس المرشدين، ومجلس القضاء الأعلى، ورئاسة القيادة العليا للقوات المسلحة (بما في ذلك تعيين أو عزل رئيس الأركان، وقائد «الحرس الثوري»، وأعضاء مجلس الدفاع الأعلى، وقادة صنوف الأسلحة)، وإعلان الحرب والسلام والتعبئة. وله أن يقرّ أسماء المرشحين للانتخابات الرئاسية، وتوقيع مرسوم تسمية رئيس الجمهورية بعد الانتخابات، وإدانة الرئيس وعزله بموجب أسباب تتعلق بالمصلحة الوطنية، وإصدار مختلف أنواع العفو. وقد شهدت إيران اجتهادات عجيبة في تأويل مبدأ ولاية الفقيه، كتلك التي أصدرها أحمد أزاري ـ قمّي، واعتبر بموجبها أنّ للوليّ الفقيه سلطة إصدار «منع مؤقت» من أداء فرائض دينية مثل الحجّ، أو الأمر بهدم بيت مواطن متهم بـ«الشرك»، وإلزامه بتطليق زوجته!

ولقد قيل الكثير عن الوضع المعيشي للمواطن السوري، في نموذجه القياسي الأعرض وليس الاستثنائي، على امتداد 41 سنة من نظام «الحركة التصحيحية» وليس ساعة انتفاضة 2011 فحسب؛ وكيف انحطت طبقات اجتماعية كبرى، الوسطى منها بصفة خاصة، تحت وطأة تسلّط عائلة السلطة، آل الأسد وآل مخلوف في المقام الأوّل، واستنزافها مقدّرات الاقتصاد والثروات الوطنية والمال العام. لكنّ الانتفاضة انطلقت لاعتبارات أبعد من تلك الاجتماعية ـ الاقتصادية، بل لعلّ السياسيّ فيها لم يكن يقتصر على الحريات العامة وسيادة القانون ومساواة المواطن، بل كان يخصّ الكرامة الإنسانية في جوهر أساسي من الوجدان الجَمْعي الذي حرّك الاحتجاجات. وإذا كان هذا العنصر، الكرامة الإنسانية، ليس غائباً عن مطالب الشارع الشعبي الإيراني، اليوم، بدليل مهاجمة مقارّ الاستخبارات الإيرانية والتعريض بالصفة الدكتاتورية لشخص خامنئي؛ فإنّ المحرّك الأبرز هو الوطأة الاجتماعية لنظام مصدّر كبير للنفط، لكنه يرفع أسعار المحروقات والخبز في الداخل، وينفق المليارات على مغامرات تصدير الثورة المذهبية إلى الخارج.

يُشار، أيضاً، إلى أنّ الموقف من الانتفاضة السورية كان قد تباين لدى الأحزاب التقليدية، أي تلك التي كانت قائمة فعلاً في آذار (مارس) 2011، بين التأييد والانخراط المباشر (جميع الأحزاب المعارضة، غير الداخلة في أي تحالف أو تعاون مع السلطة)؛ والرفض الصريح، واعتناق سردية «المؤامرة الخارجية»، وتأييد النظام (وتلك كانت حال الأحزاب المنخرطة في «الجبهة الوطنية التقدمية» والمستوزرة في الحكومة، أو السائرة في أفلاك النظام على نحو أو آخر). لافت، في المقابل، أنّ التيارات الإيرانية التي تُصنّف عادة في الخانة «الإصلاحية» لم تتحمس لتظاهرات الاحتجاج الراهنة، حتى حين امتدت من الهوامش إلى المراكز؛ ولم تُسجّل أمثلة جلية على مقاربة كبار «الإصلاحيين» للحراك، سواء من حيث الانخراط فيه، أو التعليق عليه، أو حتى نقده.

صحيح، أخيراً، أنّ استبصار مآلات الحراك الشعبي الإيراني الراهن ليس بالصعوبة ذاتها التي اتسمت بها قراءات الانتفاضة الشعبية السورية، ساعة انطلاقها وعلى امتداد سنواتها السبع، واليوم أيضاً. صحيح، استطراداً، أنّ نزول «الحرس الثوري» إلى شوارع إيران يعني أنّ البطش الأقصى سوف يكون سيد اللعبة خلال الأيام أو الأسابيع القليلة المقبلة. الأصحّ، بالطبع، أنّ جذور الاحتجاج الشعبي لن تُقتلع بسهولة، بل الأرجح أنها ستضرب عميقاً في تربة خصبة كفيلة باستنبات كلّ عناصر الثورة ضدّ النظام، لأسباب لن تقتصر هذه المرّة على أسعار الخبز المحروقات، أو ولاية الفقيه.

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

 

 

 

تفجر البركان الإيراني/ بكر صدقي

بقدر ما فاجأتنا حركة الاحتجاجات القوية في إيران، بقدر ما كانت متوقعة أيضاً. فالتوقع لا يتضمن الجواب على أسئلة متى وكيف؟

ثمة بلد كبير منغلق على نفسه بواسطة نظام شمولي ذي إيديولوجيا دينية متشددة، منذ نحو أربعين عاماً، ومتدخل بنشاط في محيطه الجغرافي، في آن معاً. مجتمع مكبوت بقوة الأجهزة القمعية وإرهابها، والإيديولوجيا الدينية ـ المذهبية – القومية، مقابل نظام تدخلي ذي طموحات امبراطورية توسعية قائمة على أساس مذهبي. في حين أنه، أصلاً، ذي بنية امبراطورية متعددة القوميات والأديان والمذاهب، بنظام لا يعترف بهذا التعدد، بل يبقيه معاً تحت الضغط القمعي وحده. فإذا أضيفت المصاعب الاقتصادية، سواء تلك الناتجة عن تدهور أسعار النفط، أو عن الحصار الاقتصادي القاسي الذي لم يكسره الاتفاق النووي، أو عن الكلفة الباهظة للحروب الإقليمية التي تخوضها ميليشيات موالية بالوكالة عن إيران، وتجلت في تضخم منفلت وبطالة مرتفعة وفساد الجماعات المرتبطة بمركز النظام.. اكتملت عوامل انفجار اجتماعي كبير شهدنا قمع أقرب بروفا له في العام 2009، حين خرجت مظاهرات كبيرة احتجاجاً على تزوير الانتخابات الرئاسية لمصلحة محمود أحمدي نجاد الذي كان مقرباً من مركز السلطة، ولي الفقيه علي خامنئي.

غير أن الموجة الحالية التي مضى على بدايتها أسبوع واحد، تبدو أكثر راديكالية بكثير من «الثورة الخضراء» التي كانت «ثورة» من داخل النظام تهدف إلى إصلاحه لا تغييره. في حين أن حركة الاحتجاجات الواسعة اليوم، ترفع شعارات تستهدف نظام ولاية الفقيه مباشرة، وتنبئ بالإطاحة بحكم الملالي إذا ما قيض لها النجاح.

ويأتي توقيت الاحتجاجات الشعبية حساساً أيضاً في ظل «عقيدة ترامب» التي ارتسمت في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، وتضع في هدفها تقويض النظام الإيراني من خلال مواجهة نفوذه الإقليمي بصورة رئيسية. ولا بد أن حركة الاحتجاجات التي لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً مهماً في الدعوة لها وتنظيمها، ليست على جهل بهذا الاستهداف الأمريكي، وربما تأمل بالاستفادة منه لضرب النظام في أصعب أوقاته. من غير أن تفقد، بسبب ذلك، من مشروعية تحركها. وهذه هي نقطة ضعف الحركة الاحتجاجية، من وجهة نظر النظام وإعلامه ومناصريه في إيران والاقليم، خاصة مع صدور موقفين أمريكي وإسرائيلي داعمين لفظاً للحركة الشعبية المناهضة للنظام.

وهكذا يتكرر المشهد ذاته الذي بات مألوفاً لنا منذ الثورة الخضراء في 2009، مروراً بثورات الربيع العربي، وثورة حزيران 2013 في تركيا: شارع محتقن وجد فرصة مؤاتية للمطالبة بالتغيير، على أرضية أوضاع لا تطاق تراكمت منذ عقود في ظل أنظمة متكلسة متعفنة. والرد واحد من قبل تلك الأنظمة جميعاً: رفض المطالب الشعبية، وقمع الحركة الاحتجاجية، ثم المزيد والمزيد من القمع، وصولاً إلى تفخيخ المجتمع بمنظمات إرهابية واستدراج التدخل العسكري من قوى ودول خارجية، وتحويل البلد إلى ساحة حروب أهلية أو إقليمية أو كليهما معاً. وإذا كانت تونس استثناء من هذا المسار المأساوي، فلم تفلت مصر من عملية وأد ثورتها العظيمة بواسطة انقلاب السيسي، وتم تخريب المسار الثوري في كل من ليبيا واليمن بعد الإطاحة بالعائلتين الحاكمتين. أما في سوريا، فقد «صمد» نظام البراميل والكيماوي ولم يخطر في باله لحظة واحدة التنحي والفرار على طريقة بن علي، للحفاظ على «الدولة ومؤسساتها» على ما صدع الروس رؤوسنا، نحن السوريين، قاصدين بهما الأسرة الحاكمة وأجهزة بطشها.

لا أحد يتمنى لإيران أن تمضي في تكرار هذا السيناريو المدمر ذاته، ربما باستثناء الإدارة الأمريكية وإسرائيل. لكن ردود فعل النظام على حركة الاحتجاجات لا تبشر بالخير. فهو يتهم المحتجين بأنهم أدوات للخارج، وبإطلاق النار على قوات الأمن (كذا!) وبتخريب الممتلكات العامة. في حين يبدو من افتتاحية جريدة الأخبار الصادرة في بيروت، والممولة من إيران، كأن هناك اتجاهاً داخل النظام يميل إلى تقديم الرئيس حسن روحاني «المعتدل» كبش فداء لامتصاص الحركة الاحتجاجية بقدر أقل من الدماء. فهي تكاد تصف الحركة الاحتجاجية بأنها محقة، وتعيد سبب هذا الغضب الشعبي إلى أن الاتفاق النووي لم يؤد إلى النتائج المأمولة منه فيما خص رفع العقوبات الاقتصادية. فوفقاً لهذه الوصفة يصبح «مهندس الاتفاق النووي» حسن روحاني هو سبب كل بلاء أصاب عامة الشعب. بالمقابل كان ولي الفقيه علي خامنئي يعلن رفضه للاتفاق قبل توقيعه. وهكذا تمنح وصفة «الأخبار» مخرجاً محتملاً من أزمة النظام، على الأقل في اللحظة الراهنة.

لكن الإيرانيين يعرفون، كما يعرف غير الإيرانيين أيضاً، أن رئيس الجمهورية في النظام السياسي في إيران لا يعدو أن يكون شبيهاً، إلى حد ما، برئيس الوزراء في أنظمة حكم دكتاتورية يمسك الرئيس فيها بجميع الصلاحيات المهمة، تاركاً للحكومة ورئيسها سلطة تنفيذية لتوجيهاته، تقتصر غالباً على الشؤون الخدمية.

السوريون المعارضون الذين شتتتهم الحرب في مشارق الأرض ومغاربها لا يخفون ابتهاجهم بما يدور في شوارع المدن الإيرانية، يصدرون غالباً عن مشاعر أقرب إلى الشماتة بنظام الملالي الذي قاتل في سوريا، بواسطة الميليشيات الشيعية المستوردة، للحيلولة دون سقوط النظام الكيماوي، وربما بأمل ساذج في أن تؤدي حركة الاحتجاجات إلى الإطاحة بالنظام الإيراني، وإلى انسحاب إيران من مسارح تدخلاتها الإقليمية، وضمناً سوريا.

في حين يجدر بهم إظهار التعاطف مع حركة شعب يطالب بالحرية، كحال السوريين أنفسهم قبل سبع سنوات، بصرف النظر عن تأثير ذلك على توازنات القوى في سوريا.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

المؤامرة” على إيران/ سلامة كيلة

مثل كل الأحداث حينما تقع، يجري الخلط في وقوعها بين السبب والنتيجة، حيث يميل بعضهم إلى تحويل النتيجة إلى سبب. وبالتالي، تغييب السبب الذي فرض وقوعها. ولا شك في أن خلف ذلك قصورا نظريا، أو ميولا مسبقة تفرض قلب الأمور. وهذا ما ظهر في الموقف من الحراك في إيران، وقبلها الثورات في البلدان العربية، حيث يرى بعضهم الأمور من منظور الواقع الدولي، وموقع الدول من العلاقة مع “الإمبريالية”، التي هي فقط أميركا.

في كل الأحوال، فرض انفجار الحراك الإيراني اتخاذ مواقف من قوى ودول. وهذا طبيعي، حيث تريد الدول الإفادة من الحدث، أو استغلاله خدمة لمصالحها، وهو الأمر الساري منذ أزمان طويلة. بالتالي، وهنا، فإن الحدث ذاته هو الذي فرض هذه المواقف على ضوء علاقة هذه الدول مع النظام في إيران، أو مصالحها التي تدفعها إلى الإفادة منه. لهذا، إذا تابعنا المواقف، في الأيام الماضية، سنلمس كيف أن المصالح هي التي فرضت المواقف، وهو ما يظهر في الانقسام بين الدول الكبرى والدول الإقليمية. حيث وقفت أميركا مع “الشعب الإيراني”، وكذلك فعلت السعودية والإمارات. لكن موقف روسيا مختلف، وأيضاً تركيا، وحتى فرنسا ومجمل الدول الأوروبية. وهناك دول كثيرة تنتظر مآل الحراك لكي تحدد مواقفها.

كانت أميركا، منذ وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة، تضغط على إيران، وقرّرت “قصقصة” أذرعها، على الرغم من أنها لم تفعل أكثر مما كان يفعل الرئيس السابق، باراك أوباما، الذي كان حريصاً على التفاهم مع إيران. لا شك في أن أميركا ستعمل على استغلال الحدث من أجل الضغط على النظام، وقد أعلنت (بالضبط كما فعلت في سورية) أنها تريد “تغيير سلوك النظام” وليس إسقاطه، وهي تعني ذلك بدقة لأنها لا تريد تفكّك إيران، حيث إنها مفصل مهم في حصار الصين و”حماية الخليج” كما تقرّر منذ أوباما. وبالنسبة لها، المطلوب هو حصر إيران في حدودها، والتفاهم معها في سياق السياسة العامة الأميركية. لهذا سوف تنشط “إعلامياً” في “دعم الشعب”، لكنها لن تقدّم أكثر من ذلك، وهذا “الدعم” سوف يكون ذا فائدة للنظام الذي سيشكك في الحراك، كونه “مؤامرة أميركية”. بمعنى أن الدبلوماسية هي التي ستحكم الموقف الأميركي، والمناورة من أجل الوصول إلى توافق مع النظام بعد إضعافه، مع “حرق” الحراك الذي لا تميل أميركا إلى انتصاره. وفي كل الأحوال، هذا هو تكتيكها السوري، فيما عدا أنها في إيران تريد “التحالف” مع النظام، بينما قامت في سورية ببيعها الى روسيا.

تتمثّل مصلحة أميركا، إذن، في الاستفادة من الحدث، لترتيب العلاقة مع النظام الإيراني. ولكن السعودية والإمارات تعملان على أكثر من ذلك، حيث يطمحان نتيجة التنافس الحادّ في السيطرة على المنطقة في أن تتفكّك إيران، وأن “تتدمر” حتى، ولهذا يعملان على تشجيع حراك “الشعوب غير الفارسية”، ويمكن أن يدعما مجموعاتٍ إرهابية وسلفيين (ربما في مناطق البلوش). فما يهمها من كل ما يجري هو “نهاية لإيران”، والتخلص من شبح القوة التي تمتلكها. وهو الأمر الذي يدفعهما إلى “تبني” الحراك، وقيام إعلامهما بالنقل المستمر للتظاهرات.

في المقابل، تدافع روسيا عن حليف لها، وهي تعرف أن انتصار ثورة في إيران يعني القطيعة معها. أما تركيا فهي في “علاقة وثيقة” مع إيران منذ وصول حزب العدالة والتنمية الى السلطة، وساعدتها في مرحلة الحصار الأميركي، وكانتا في أجواء “محور الممانعة” (مع قطر). وعلى الرغم من الخلاف الذي ظهر في موقف كل منهما حول سورية فقد أُعيد ترتيب الأولويات، وباتا، مع روسيا، يشرفان على الحل في سورية. والعلاقة الاقتصادية بين البلدين متطورة. ولهذا ليس في مصلحة تركيا أن تحدث ثورة في إيران، وأن يسقط نظام الملالي. وهي أيضاً، كما روسيا، ترتعب من سماع كلمة ثورة، ولم تؤيد الثورات في البلدان العربية، حتى في سورية، حيث عملت على دعم طرفٍ لكي يكون بديلاً للنظام، بعد أن يئست من أن يقوم النظام ببعض الإصلاحات، وخافت من تدخل أميركي، وهو الأمر الذي جعلها تحاول فرض بديلها (المجلس الوطني آنذاك). ولا شك في أن قطر أميل لإيران، كما تركيا، خصوصاً أن هناك مصلحة مشتركة تجمعهما، هي التشارك في حقل نفطي في الخليج العربي. وقد باتت معنية أكثر باستمرار النظام الإيراني، بعد أن فتحت كل من السعودية والإمارات حرباً معها، وفرضت حصاراً عليها. لهذا ظهر واضحاً أنها تدعم النظام الإيراني، وإعلامها (على الرغم من إدّعاء المهنية) يبرّر للنظام، ويحاول الإيحاء بأن الوضع مستقرّ.

فرنسا، وربما ألمانيا وحتى بريطانيا (ويمكن الاتحاد الأوروبي) لا يميلون إلى دعم الحراك، ولقد رفضت فرنسا “التدخل الأميركي”، على الرغم من أن كل هذه البلدان تدين “قمع المتظاهرين”. ولا شك في أن الاتفاق النووي فتح لها باباً للكسب الاقتصادي، حيث عقدت صفقات عديدة مع النظام الإيراني، وهي تريد أن يستقرّ الوضع، وأن تحصل على “أرباحها”.

وبذلك، يظهر واضحاً تناقض المصالح بين كل هذه الدول، حيث يبدو نشوء محورين: أميركا والسعودية/ الإمارات من طرف، وروسيا وتركيا/ قطر وفرنسا (ربما دول أوروبية أخرى) من طرف آخر. وكل منهما يريد استغلال الحدث لتحقيق مصالحه، وكلها ترفض الثورات أصلاً، ولم تدعم الثورات في البلدان العربية، على الرغم من ادعاء بعضها بذلك. وهذه المواقف هي نتاج المصالح التي كانت توضح، منذ زمن، أن هناك دولا تطور علاقاتها مع

“يدافع اليسار الممانع بعد الثورات في البلدان العربية عن نظام الملالي، بعد أن كان يتهم هذا النظام بتدمير العراق بالتحالف مع أميركا”

النظام الإيراني، وتعقد صفقاتٍ معه، وأخرى تخافه وتريد ليس سقوطه، بل أكثر من ذلك، أو تريد إضعافه كما تفعل أميركا، لكي تجعله حليفاً لها في منطقةٍ هي تحتاج إليه فيها في سياق إستراتيجيتها القائمة على “حصار الصين”. هل منها من سيدعم الثورة؟ لا بالتأكيد، بل ستقوم بتشويهها، حتى التي تدعي دعمها. هذا ما حدث في الثورة السورية.

هل لذلك كله علاقة بمطالب المتظاهرين؟ لا بالتأكيد، حيث يطالب هؤلاء بالخبز والعمل والحرية، والتي هي نتاج الاقتصاد الليبرالي الذي أسسه نظام الملالي، والذي يسير فيه بشكل متوافق مع شروط صندوق النقد الدولي ممثل الطغم الإمبريالية، وهذا ما ظهر في ميزانية السنة الجديدة التي حملت زيادة كبيرة في الضرائب، مع زيادة الأسعار من دون ميلٍ إلى زيادة الأجور. وهذا ما بات يمارس في كل الدول التابعة. بالتالي، تقوم مطالب المتظاهرين، وهم من الفقراء أصلاً، على تجاوز النمط الاقتصادي القائم، وهذا ما يتناقض مع مصالح تلك الدول. حتى أميركا لا تقبل تحقيق مطالب هؤلاء، بالضبط لأنها أساس فرض الاقتصاد الليبرالي بكل وحشيته، كما يمارس في إيران. الأمر الذي يوضّح حدود “الدعم” الممكن من أميركا التي تريد، كما أشير، فقط الضغط على النظام من أجل “تتحالف” معه، أو يقبل التبعية لها، من دون أن يتخلى عن كل السياسات التي تسحق الشعوب في إيران. المطلوب منها أن تنسحب من “العواصم الأربع” التي تسيطر عليها، وأن تدخل في صفقةٍ مع أميركا تحدّد دورها في الخليج. هذا ما تريده الدولة الأكثر دفاعاً عن “مطالب الشعب”. وبالتالي، كل الخطاب الإعلامي بلا معنى، وربما يهدف إلى تشويه الحراك بإعطاء الذرائع بأنه من فعل أميركي. هذا يفرح أميركا طبعاً التي تظهر أنها محرّك كل ما يجري في العالم.

أين وقف “اليسار الممانع”؟ هو يدافع منذ زمن (بعد الثورات في البلدان العربية فقط) عن نظام الملالي، بعد أن كان يتهم هذا النظام بتدمير العراق بالتحالف مع أميركا، ونسي ذلك الآن، فإيران بالنسبة له “ضد أميركا” (أو ضد الإمبريالية). لهذا تستحق الدعم، أما شعوب إيران فليس في قاموس هذا اليسار كلمة شعب إلا في الخطابات. وفي الواقع، ليس هناك وجود لهذه الكلمة. وهو ينطلق من “الصراعات العالمية”، حيث يكون من يبدو على خلاف مع أميركا “وطنياً”، و”ثورياً”، الأمر الذي يفرض عليه الوقوف معه والدفاع عنه. ولهذا وجد ذاته في هذا الحدث، ليس مع روسيا فقط التي يعتبر أنها تمثّل دولة مستقلة معادية لـ “الإمبريالية”، وقائدة قوى “السلم العالمي”، بل مع تركيا وقطر وفرنسا (بل أوروبا)، أي مع رأسمالية أخرى لا تختلف مع أميركا بشأن ضرورة سيادة الليبرالية في الاقتصاد. لكن بالأساس هذا “اليسار” يدافع عن نظام ليبرالي، مفرط في ليبراليته، وتحكمه رأسمالية مافياوية. إنه مع الرأسمالية المافياوية ضد الشعب، الشعب المفقر الذي يطالب بالعمل والخبز والحرية.

العربي الجديد

 

 

 

حزب الله والمال الإيراني “النظيف”/ محمد ديبو

اعتاد الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، أن يكرّر، في خطاباته، عبارات من نوع “المال الشريف.. المال النظيف”، ردا على خصومه، وإجابة على تساؤلاتٍ تُطرح بشأن مسألة أموال حزب الله ومصادرها.

وعلى الرغم من أن الرجل لم يخف يوما مصدر الأموال، إلا أن هذا التكرار كان بهدف أمرين، الأول: ليقول إن المال “الآخر” الذي يتلقاه خصومه هو مال غير شريف ومشبوه، وذلك كجزء من المنظومة التي يعمل بها حزب الله، عبر رفع سلاح التخوين في وجه كل معترض. والثاني لشحذ ورص عصبيّة مؤيديه، خصوصا بعد تكاثر الاتهام الموجه للحزب بأنه عميل وتابع لحكم الملالي.

اليوم، يرفع المتظاهرون في إيران شعارات “الموت لحزب الله”، و”اخرجوا من سورية”، و”اهتموا بنا لا بفلسطين”، “اتركوا سورية وشأنها، افعلوا شيئاً لأجلنا”… هي شعارات واضحة في مطالبها، فأصحاب “المال الشريف والنظيف” يطالبون بأموالهم التي يسرقها الملالي ليوزّعوها هنا وهناك في حربهم الإقليمية، الأمر الذي يعني اليوم، وبوضوح، أن الشعب الإيراني يصرخ في وجه ملالي طهران، كما في وجوه الحوثيين والحشد الشعبي وحزب الله وكل المليشيات التي تتلقى الدعم الإيراني: أعيدوا مالنا إلينا، أنتم تسرقون قوت يومنا، أنتم شركاء للولي الفقيه في قتلنا وتجويعنا!

تحتاج الأنظمة المستبدّة والمتسلطة دوما إلى التمدد خارجيا، بغرض تثبيت النظام، وبحثا عن “شرعية” له تُستمد من القضايا المخترعة، فالنظام القائم على العنف والاستبداد يدرك جيدا أنّ القمع وحده لا يكفي لإسكات الجماهير، لذا يتم اختراع إيديولوجيات يسعى المستبدون إلى إحلالها مكان مطالب الشعب الحقيقية. وهنا تغدو قضايا مثل تحرير فلسطين ومواجهة الاستكبار الأميركي…، بمثابة قضايا حاجبة لمطالب الجماهير التي تنسى قضاياها هذه أحيانا، إذ تتماهي مع إيديولوجية الطغاة، وهذا يحصل في السنوات الأولى من عمر الثورات أو الأنظمة، إذ تتوهم الجماهير أن تلك الأنظمة تحمل الخير والرفاه لها. وأن دعم أنظمتها لتلك القضايا ناجم عن بعد ثوري وأخلاقي، إلى أن تكتشف لاحقا كذبها فتثور عليها، ومن بوابة تلك القضايا بالذات.

هذا ما حصل مع النظام السوري في قصة الممانعة، وحصل مع حزب الله، بعد أن أصبح طريق القدس يمر من القصير، وهو يحصل اليوم مع النظام التركي، إذ ملاحظ أنه في موازاة تراجع الديمقراطية التركية على يد حزب العدالة والتنمية، يتم التمدّد التركي في الإقليم، طبعا من دون أن يُغفل هنا أن التمدّد هذا لا يمكن فهمه بدوافع الأنظمة المستبدة فقط، فالطموحات الإمبراطورية لإيران وتركيا وروسيا هي جزء من تاريخ هذه الدول، وهي جزء من طبيعة التحولات الجارية في العالم، لأن الفراغ الذي تخلفه رحيل قوة ما لا بد أن يُملأ.

وضمن هذا السياق، تغدو هذه القوى والمليشيات، ومنها حزب الله، أحد أدوات تلك القوى المستبدة، لقمع شعوبها وتحقيق تمدّدها، بهدف حماية النظام من جهة، وتحقيق تمدّدها الإمبراطوري من جهة أخرى. ما يعني أيضا أن حزب الله وغيره يدرك، منذ اللحظة التي تأسس فيها، أنه جزء من مشروع ديني أصولي، إذ لا يُنسى هنا أن “ولاية الفقيه” هي الإيديولوجيا الدينية التي تجمع الفرع مع المركز، وهي الإيديولوجيا التي تمنح “القداسة”، وبالتالي تمثل الغطاء الديني لهذا النهب والسرقة لقوت الشعوب، تحت مبرّرات واهية، تبدأ من “الجهاد في سبيل الله”، ولا تنتهي عند انتظار “بروز المهدي المنتظر”، أو تمهيد الطريق لظهوره، ما يعني عمليا أن علينا أن لا ننتظر أبدا اعتذار حزب الله، أو أمينه العام، عن سرقة مال الشعب الإيراني النظيف، هذا المال الذي يجب أن يتوقف إرساله هنا وهناك، وتخصيصه لتحقيق المطالب العادلة للشعب الإيراني، فما بالك إن كان هذا المال يخصص أيضا لقتل الشعوب، وقمع تطلعاتها الحرّة، كما يحصل في اليمن وسورية؟

ليس مالا “نظيفا” هذا، بل مال اليتامى والفقراء والمحكومين الإيرانيين، فصفة النظافة تنطبق عليه، حين يصرف لمستحقيه، في حين يغدو نقيضه حين يصرف في الأماكن التي يصرف فيها اليوم. وإذا استعرنا الإيديولوجيا الدينية التي يستند إليها الملالي وحزب الله، فإن سرقة أموال اليتامى والضعفاء تغدو “حوبا كبيرا” (وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا).

العربي الجديد

 

 

 

 

إلى إيران وغيرها: الكرامة ليست خبزًا فقط/ سوسن جميل حسن

بين شامتٍ بالحراك الشعبي الإيراني ومهلل له، تنأى المفاهيم أكثر عن الإدراك، وعن الوعي العام في منطقتنا العربية التي تعيش تحت رحمة الزلازل والهزّات بدرجات مختلفة، لكنها عنيفة من دون شك. انقسم الشارع، السوري بخاصة، بين مؤيدين لهذا الحراك نكاية بالنظام الإيراني المساند للنظام السوري، والمشارك في العمليات العسكرية، بدوافع لم يبقَ في وعي الغالبية مجال لفهمها بغير الفهم الطائفي، وآخرين يستنكرون معتبرين أن الحراك مؤامرة على الدولة الإيرانية نظامًا وشعبًا. لم يرقَ مستوى التحليل والفهم إلى مستوى الحدث، مثلما هناك خطاب رسمي لدى دول عديدة يشجع الشعب الإيراني للاستمرار بمظاهراته من أجل الحرية والديمقراطية، بينما تمارس تلك الأنظمة المشجعة القمع والاستبداد والتضييق على الحريات، بطرقٍ لا تقل عن النظام الإيراني، وربما تتفوق عليه، لكنها تبني مواقفها على أساس العداوة القائمة بينها وبين الكيان الإيراني القائم أساسًا على حساسيات طائفية عريقة.

الانتفاضات الشعبية مؤشّر حيوي، وعندما ترنو إلى أن تكون ثورةً فهذا دليل حياة، وهو من حقوق الشعوب، لأن الحرية بحد ذاتها مطلب وحاجة ضرورية للحياة، بل هي الوجه الحقيقي لها بفطرتها الأولى، فالمطلب الأساس للشعوب هو الحرية والكرامة، بل الحرية التي تحفظ الكرامة وغيرها من حقوق الإنسان.

تشهد الدول الغربية باستمرار مظاهرات شعبية، تحرسها الشرطة وعناصر حفظ النظام، وقد تحدث فيها أعمال شغب، يمكن أن تتطور إلى عنفٍ بدرجة ما، لكن هناك حدودًا لتلك

“الانتفاضات الشعبية مؤشّر حيوي، وعندما ترنو إلى أن تكون ثورةً فهذا دليل حياة”

الفعاليات، ليس لأن الأنظمة في تلك الدول أكثر ديمقراطية فقط، بل لأن ثقافة الديمقراطية صارت مفهومًا شعبيًا تعرف أي شريحة من الشعب أن تمارسه وأن تعبر عن مطالبها من خلاله، فهناك انتخابات لمرشحين، ينتمون إلى أحزاب وقوى سياسية عديدة، لها برامجها وأجنداتها ووعودها لناخبيها، والناخب يعرف أن هذا السياسي الذي منحه صوته، الذي هو أول حق في حقوق الإنسان، سوف يتابع أداءه، ويحاسبه إن أخطأ. كذلك تقيم الحكومات وزنًا للمطالب الشعبية، وتعرف كيف تتدارسها وتطرح الحلول إلى التصويت، ويعرف الشعب أن القرارات لا تؤخذ بمعزل عنه. لذلك، العملية الديمقراطية رافع استقرار تلك الدول والمجتمعات، وهي سندها ودافعها في مسيرة التطور، حتى المثليون الجنسيون الذين يشكلون حقيقة لا يمكن نكرانها حصلوا على كثير من حقوقهم، عن طريق الحراك السلمي والتظاهر والتعبير ورفع المطالب ورصد المؤيدين من الناخبين والمرشحين.

لماذا لا نسمع خطابًا عن المؤامرات الخارجية في تلك الدول أمام الاحتجاجات الشعبية؟ ولماذا هذا الخطاب هو الرد المباشر على أي حراك في منطقتنا التي تعاني من كل أشكال القمع؟ والمؤامرة حقيقة لا يمكن تجاهلها، فهي ظاهرة سياسية تاريخية لم تنجُ منها ثورة أو حركة تغيير، لكن المؤامرة حركة انتهازية، تستغل الثغرات ونقاط الضعف لدى الأمم، فتدخل من خلالها لتحقيق مصالحها ومطامعها. السبب موجود وراسخ بقوة في التركيبة البنيوية لهذه الأنظمة، ليس السياسية فقط، بل الاجتماعية والدينية والمعرفية وغيرها، الأنظمة الشمولية التي تقوم على إعدام الفردية، وتحويل المواطنين إلى رعايا يسوقهم النظام بالقوة والهيمنة والاستبداد. صحيح أن نسبة المشاركين في اقتراع الانتخابات الرئاسية في إيران أخيرا، كانت 73%، وفاز حسن روحاني بنسبة 56% من الأصوات، وكانت انتخابات تنافسية إلى حد ما، وديموقراطية قياسًا بالتي يحصل فيها المرشح الوحيد في بعض الدول العربية، ومنها سورية، على نسبة أصوات تفوق الـ 99%، إلاّ أن هناك نظامًا عميقًا يتحكّم في كل مفاصل الحياة الداخلية والخارجية، فالحرس الثوري هو وحدة خاصة في الجيش لها إمبراطورية اقتصادية كبرى. وهناك نظام أمني سياسي، ومؤسسة دينية قوية وطاغية. وقد وجّه الرئيس روحاني خطابه إليهم في حملته الانتخابية، ليكسب مزيدًا من الأصوات، مثلما قال في مؤتمر انتخابي في مدينة همدان “إلى هؤلاء الذين لم يفرضوا إلا الحظر في السنوات الماضية… من فضلكم، لا تنطقوا كلمة حرية، لأن ذلك عار على الحرية”، لكن أعضاء البرلمان الذين يفترض أن يمثلوا ضمير الشعب، ويكونوا صوته المطالب، فإنهم ينقسمون إلى تكتلين رئيسين: أحدهما يؤيد أجندة معتدلة، والآخر يتخذ موقفًا متشددًا.

لذلك، عندما أبرم روحاني اتفاقًا مع قوى عالمية بشأن البرنامج النووي الإيراني في مقابل رفع العقوبات، أخذ الشعب الإيراني يحلم منتظرًا منه تحقيق وعوده، لكن الفوائد الاقتصادية المباشرة لرفع العقوبات تأخرت، والتغيير الاجتماعي الذي كان مرجوًا منه لم يحصل، وإن حصل فهو ببطء شديد لا يكاد يُلحظ.

في الأنظمة الاستبدادية عندما ينطلق الناس في فورة غضب، للتعبير عن مطلبٍ يبدو أنه الأساس، تكون تلك الفورة بمثابة شعلةٍ سوف يمتد حريقها، إذ هذه هي طبيعة الانتفاضات والحركات الاحتجاجية لدى الشعوب، خصوصا التي مرّ عليها زمن طويل تحت رحمة نظام مستبد سياسي وديني واجتماعي، سوف تلتحق المجموعات التي تعاني من الاضطهاد، أو التي تشعر بالمظلومية شيئًا فشيئًا إلى الاحتجاج الأولي. وسوف يتضخم عدد المتظاهرين، ولكل مجموعة سببها المباشر، فالكرامة شعور أصيل لدى البشر، حتى لو كان فطريًا، لكن كل أشكال القمع اعتداء صارخ عليها، يمكن لكل أشكال المظلومية أن تحثّه على الصراخ، حتى لو كانت مظلوميةً قائمة على العصبيات المعيقة لمسيرة التقدم. لكن عندما يكون هناك وعي ثوري، وهذه مهمة الأحزاب والنخب، يمكن أن تحتوي الحراك الشعبي وتوجهه.

فإذا كان الناس قد خرجوا إلى الشوارع، للتعبير عن غضبهم إزاء التضخم، وما اعتبروه فشل

“على الأنظمة التي تدّعي الوطنية أن تردم الهوة بينها وبين شعوبها حتى لا تفتح أبوابًا للـ “مؤامرات”

الرئيس حسن روحاني في الوفاء بوعده بالازدهار الاقتصادي، بعد أن أملوا في أن يؤدي الاتفاق النووي الذي أبرم في عهد رئاسته الأولى مع القوى الدولية إلى إنهاء عزلة إيران، وإلى تدفق الاستثمار الأجنبي، وتوفير فرص عمل تخفف من البطالة التي وصلت نسبتها إلى 12,5%، فإن دائرة المطالب قد اتسعت، وهذا طبيعي ومتوقع من شعبٍ عانى من نظام متغلغل في أدق تفاصيل حياة مواطنيه، ليس عبر التوعية والقوانين، بل عبر مؤسساته المستبدة، خصوصا المؤسسة الدينية، وليس نزع بعض النساء الإيرانيات حجابهن، والنزول إلى المظاهرات، إلاّ دليلاً على هذا المطلب، أو الشعارات التي ردّدها المتظاهرون: “لا نريد جمهورية إسلامية”.

ليست الكرامة لقمة خبز فقط، إنها قبل كل شيء: حرية. حرية أن يكون للإنسان صوته، وكلمته، ورأيه، وموقفه، وميوله ورغباته، ومساهمته في القرارات المتعلقة به، ضمن دولةٍ يرتبط معها بعقد اجتماعي، تقوم على أساس المواطنة الفاعلة والفعلية، دولة المؤسسات والقانون. وعلى الأنظمة التي تدّعي الوطنية أن تردم الهوة بينها وبين شعوبها حتى لا تفتح أبوابًا للـ “مؤامرات”، إذ ليس من قوة غير قوة الشعب، عندما يقف إلى جانب حكوماته، ليكون سدًّا منيعًا في وجه المؤامرات التي تسارع تلك الأنظمة إلى تحميلها مسؤولية أية انتفاضة شعبية، وإلاّ فإن المستقبل لا يبشر إلاّ بالدمار، خصوصًا في عهد رئيس أعتى نظام في العالم يتباهى كمراهق أرعن بأن “زرّه” النووي هو الأكبر.

العربي الجديد

 

 

 

تركيا والحراك الاحتجاجي في إيران/ عمر كوش

تميز الموقف التركي من حركة الاحتجاجات ضد النظام الإيراني بالحذر والتريث والانتظار، فلم يصدر في الأيام الأولى للمظاهرت أي موقف تركي رسمي، ثم مع اتساع رقعة الحراك وامتداده، أصدرت الخارجية التركية بياناً عبّرت فيه عن القلق من “تمدّد المظاهرات في إيران وإيقاعها قتلى”، ودعت إلى “تغليب الحكمة للحيلولة دون تصاعد الأحداث في إيران، وتجنب التدخلات الخارجية المحرّضة”، وإلى “تغليب المنطق لمنع أي تصعيد”، و”ضرورة تجنب العنف وعدم الانجرار وراء الاستفزازات، مع الأخذ بالاعتبار تصريحات الرئيس حسن روحاني في هذا الإطار، والتي أقر فيها بحق الشعب في التظاهر السلمي، لكن من دون انتهاك القوانين والإضرار بالممتلكات العامة”.

وكان لافتا في البيان التركيز على دعم موقف الرئيس روحاني. وبعد ذلك، اتصل وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، بنظيره الإيراني، محمد جواد ظريف، وتناول معه الوضع في إيران، الأمر الذي اعتبرته الصحافة التركية بمثابة رد الجميل على اتصالات ظريف شخصياً مع المسؤولين الأتراك ليلة المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا منتصف يوليو/ تموز 2016.

وخرج الموقف التركي عن الحذر الذي اتسم به في البداية، وتتوج بالاتصال الهاتفي للرئيس رجب طيب أردوغان بنظيره الإيراني، حسن روحاني، وأثنى فيه على تصريحات الأخير بشأن ممارسة الحق في الاحتجاج السلمي، مع الحرص على عدم انتهاك القانون، معتبرا أنها كانت “ملائمة”، وأكد له أن تركيا تولي أهمية للمحافظة على الاستقرار والسلم الاجتماعي في إيران. ثم توالت تصريحات المسؤولين الأتراك حيال الوضع في إيران، حيث دعا نائب رئيس

“تعتقد قيادات حزب العدالة والتنمية أن النيران إذا اشتعلت في طهران فهدفها التالي أنقرة”

الحكومة التركية والمتحدث باسمها، بكر بوزداغ، الحكومة والشعب الإيرانيين إلى التحرّك بحصافة، وحذر من “الفخاخ المنصوبة والتي ستنصب لهم”. وأكد أنّ “تركيا تعارض تولي وتغيير السلطة عن طريق التدخلات الخارجية، أو استخدام العنف أو الطرق المخالفة للدستور والقوانين”. ودعا إلى مواجهة التحريض والاستفزازات، والحفاظ على هدوء بلادهم وسلامتها واستقرارها، فيما اعتبر وزير الخارجية التركي أن المظاهرات في إيران يؤيدها شخصان، هما الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. واستنكر التدخل الخارجي في الشأن الإيراني الداخلي، مكرّراً قول روحاني إن الولايات المتحدة وإسرائيل أثارتا الاضطرابات في بلاده، وهو قول اعتاد المسؤولون الإيرانيون تكراره، كلما حدثت في بلادهم احتجاجات على ممارسات نظام الملالي وسياساته.

والملاحظ أن الموقف الرسمي التركي حيال الحراك الاجتجاجي في إيران ركّز على ثلاث نقاط أساسية. أولها دعم مواقف الرئيس روحاني، ويفهم منه أن القيادة السياسية التركية تعتقد أن هناك من يحاول في إيران من المتشدّدين وسواهم تحميله مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع. وثانيها ضرورة المحافظة على استقرار إيران، أي دعم النظام السائد والمحافظة على استقرار الأوضاع فيها. وثالثها التركيز على العمل الخارجي في تأجيج الحراك الاحتجاجي، والمقصود الولايات المتحدة وإسرائيل اللتان تتآمران على النظام الإيراني.

واعتبرت الأوساط السياسية والإعلامية في المعارضة التركية أن الموقف الرسمي التركي مرتبك، وغير متماسك، ويعكس تخوفاً تركياً، بقدر ما هو موقف حيال ما يجري في إيران، لكن اللافت أن موقف أحزاب المعارضة لم يختلف عن موقف الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية، حيث أعلن نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض، أوزتورك يلماز، أن حزبه يقف مع إيران ضد الولايات المتحدة، وأن القوى الخارجية تحاول التحكّم في المنطقة، معتبراً أنهم “ضد أن تسرح أميركا وتمرح في هذه المنطقة، وأن تدير مصالحها من خلال الآخرين، لذلك نقف مع إيران”، واعتبر أن الاضطراب الذي سيُثار في المنطقة قد ينعكس على الداخل التركي. ورأى رئيس حزب الوطن والكاتب في صحيفة آيدينليك، دوغو برينتشاك، أن إيران، شعباً وحكومة، سيفشلان هذا “التمرد الأميركي”.

وعلى الرغم من التأييد الرسمي، اعتبرت صحيفة يني شفق، المقرّبة من الحزب الحاكم في تركيا، أن ضحايا الشركات المفلسة شكلوا الغالبية العظمى من المواطنين المشاركين في الاحتجاجات الإيرانية، إذ حظيت المظاهرات بدعم الطبقات الفقيرة في المجتمع والمجموعات السياسية المعارضة. وشكلت المطالبة بتحسين الظروف المعيشية في البلاد والاحتجاج على الفقر والبطالة والأوضاع الاقتصادية السيئة الأهداف الرئيسية للمتظاهرين، إضافة إلى انتقاد البنية المتداخلة للسياسة الخارجية مع الاقتصاد في إيران. وأبرزت الصحفية شعارات المتظاهرين وهتافاتهم، وخصوصا المتعلقة بالسياسة الخارجية الإيرانية، مثل “لا تنفقوا أموالنا على سورية وغزة ولبنان”، و”الشعب صار متسولاً”، و”اتركوا سورية وشأنها واهتموا بأحوالنا”، و”لا لغزة، ولا للبنان، و”يسقط حزب الله”، و”لا نريد جمهورية إسلامية”، و”استقلال وحرية وجمهورية إيرانية”.

وذهب الكتاب والباحثون الأتراك إلى تبيان أسباب الحراك الاحتجاجي في إيران، وتناولوا دور التدخلات الأجنبية فيها، وخصوصا الأميركية، حيث اعتبر الكاتب مليح ألتنوك، في مقال في صحيفة صباح التركية، “التحركات في الداخل الإيراني محرّكها الأصلي هو الوضع المرحلي في العالم والمنافسة بين الدول”، وتساءل عن “أي من الاضطرابات التي سعت إليها دائمًا الولايات المتحدة كانت فيها الديناميات الداخلية العامل الرئيسي”، معتبراً أن الولايات المتحدة أيدت الاحتجاجات، “ما أن خرج الإيرانيون إلى الشارع. في رأيكم هل تكترث الولايات المتحدة كثيراً لرخاء إيران والإيرانيين”؟

وفي السياق نفسه، اعتبر البرلماني السابق والكاتب، رسول طوسون، “أن القوى الخارجية، مثل الولايات المتحدة وإسرائيل، تريد من الاحتجاجات التي اندلعت في إيران إدخال هذا البلد في فوضى، كي تنتقم بواسطتها من المنطقة بأكملها”. وعلى الرغم من رفضه السياسة الخارجية لإيران وتدخلاتها الإقليمية، إلا أن تركيا، حسب زعمه، لا تنظر إلى إيران، بوصفها “دولة شيعية”، ورفض إرجاع الموقف التركي الرسمي إلى تخوف من انتقال رياح الاحتجاجات إلى الداخل التركي، معتبراً أنه لا داعي لانتقالات ولا أسباب، ومذكّراً أن تركيا تعرّضت لأحداث مشابهة في 2013، خلال أحداث “غزي بارك” في اسطنبول، حيث صمدت تركيا، وأنهت “ألاعيب إمبريالية أميركية وإسرائيلية ضدها”. في المقابل، اعتبر الباحث في مركز أبحاث الشرق الأوسط في جامعة سكاريا، مصطفى جانير، أن ترديد المحتجين في إيران شعارات مناهضة لروسيا، بدلا من الشعارات التقليدية المناهضة لأميركا وإسرائيل، يعكس غضب المتظاهرين من السياسات الإقليمية لبلادهم، وأن من الخطأ محاولة تفسير الأحداث الاجتماعية من خلال سبب واحد، فالاحتجاجات التي بدأت بدوافع اقتصادية تحولت بسرعة إلى مظاهراتٍ مناهضة للنظام، وتوقع أن الحكومة الإيرانية ستقمع المحتجين باستخدام القوة المفرطة ضدهم.

والواضح أن الموقف التركي من الاحتجاجات الشعبية الإيرانية محكوم بعدة عوامل، خصوصا

“القيادة التركية تدرك خطورة اشتعال الوضع في إيران، بوصفها بلداً متعدّد الإثنيات والمذاهب الدينية”

بعد تخلي الولايات المتحدة والغرب عموماً، عن حليفهم التركي في المسألة السورية، وفي مجمل قضايا المنطقة، وعقد تحالفات مع عدوه اللدود، حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، في سورية، الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا، الأمر الذي اضطر تركيا إلى بناء تفاهماتٍ مع كل من روسيا وإيران، وإحداث انعطافةٍ في السياسة الخارجية التركية، إضافة إلى أنه على الرغم من التضارب الكبير في الرؤى والإيديولوجيات ما بين الساسة الأتراك والإيرانيين، والاختلاف في وجهات النظر بشأن معظم الملفات الكبرى في المنطقة، إلا أن البلدين نجحا في تأسيس شراكة إستراتيجية، قوية، على المستوى الأقتصادي خصوصا، حيث تمكنا من رفع حجم التبادل التجاري بينهما في السنوات القليلة السابقة، حتى تجاوز العشرة مليارات العام الماضي، ويطمحان إلى رفعه ليبلغ 40 ملياراً، الأمر الذي يفسر عدم تحمس أنقرة للدعم التغيير في إيران وتفضيلها الاستقرار فيها.

ولعل العامل الأهم في تحديد الموقف التركي حيال الأوضاع في إيران أن تركيا لا تريد أن تضحي بتفاهماتها مع إيران، سواء المتعلقة بمسار أستانة في القضية السورية، والوقوف بوجه قيام كيان كردي انفصالي في شمالي سورية، أم المتعلقة بالموقف من قضية استقلال كردستان. يضاف إلى ذلك أن القيادة التركية تدرك خطورة اشتعال الوضع في إيران، بوصفها بلداً متعدّد الإثنيات والمذاهب الدينية، ولن يستطيع أحد أن يسيطر على انفلات الوضع فيها إذا اشتعلت النيران، خصوصا أن هناك ملايين الأكراد في إيران إلى جانب الأتراك الأذريية وسواهم. لذلك، تعتقد قيادات حزب العدالة والتنمية الحاكم أن النيران إذا اشتعلت في طهران فهدفها التالي أنقرة، وهو ما تسعى إليه القوى الغربية، بعد أن أدخلت تركيا في دائرة الاستهداف. وبالتالي على القيادة السياسية التركية إبعاد الأخطار عن بلادها، وإبقائها مستقرة بعيدة عن مغامرات قد تنعكس سلباً على تركيا، وعلى الأتراك، وتركيبتهم الاجتماعية وحياتهم المعيشية.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

الذين في الشارع الإيراني/ مصطفى علوش

تداخل غريب وعجيب: سلطة في إيران تحتل بلداً آخر، لا بل أربعة بلدان عربية، دفاعاً عن سلطات أخرى ومن أجل قمـــع ثورات الشعوب، والآن تخرج جماهير تلك السلطة لتقول كلمتها في الشوارع، حيث تعرف تماماً ماذا ينتظرها من قمع.

ليس غريباً أن تتضايق السلطة التركية الراكضة وراء تثبيت أردوغان كزعيم أوحد ووحيد، في سعي صريح لضرب الديموقراطية التي أوصلت أردوغان إلى السلطة، وليس غريباً أيضاً أن يعبّر بشار الأسد عن استيائه وانزعاجه من احتجاجات الشارع الإيراني، فها هو يقتطع ما يريد من جغرافية سورية ومعها ثروات ويبيعها ويرهنها لمصلحة السلطة الإيرانية ومعها طبعاً سلطة بوتين.

على رغم كل هذا السواد في المشهد السياسي العالمي، أتت تظاهرات الشعب الإيراني لتقول إن التاريخ البشري ومهما زورته قوى القهر والاستبداد، لا يمكن أن يسير إلى الأبد كما يريد طغاة العصر.

في قلب كل احتجاج شعبي كسر وتكسير لما يسمى «الأبد»، هذه الكلمة التي سُرقت من الكتب المقدسة ووضعت في خدمة سلطات مستبدة سرقت كل شيء في بلدان هي الأغنى في العالم.

صورة الخامنئي الآن تهتز، حتى لو تم قمع الاحتجاجات حالياً، واهتزاز هذا الأبد القمعي ضرورة من أجل تكسيره وتغييره.

قال القذافي للناس: «من أنتم؟»، وقال بعده بشار الأسد للناس: «أنتم جراثيم». هذا هـــو منطق الطغاة، يتعاملون مع البلد وكأنـــه بلا شعب، كأنه آلة لخدمة جنونهم نحو التسلط.

دروس بالغة التعبير قدمتها تلك التظاهرات للبشرية والتاريخ، ثمنها دم وأرواح تقتل، دروس فكرية وسياسية وأخلاقية تقدمها الناس التي اعتقد الخامنئي أنها طيعة وخانعة.

وإذا تركنا التوقعات والتنبؤات جانباً فإن ما يحدث على الأرض هو مساندة فعلية للأخلاق والخير المتبقي على هذا الكوكب.

في التظاهرات الإيرانية تكسير لتلك الخرافة الأيديولوجية التي بنى عليها النظام الإيراني خطاباته وسياساته وشعاراته، تظاهرات تقول إن الأرض تدور والزمن يدور.

يحتـــاج الإيرانيون الآن إلى مظلة أممية تحميهم، مظلة لا تكتفي بالتصريحات الإعلامية (كما حدث مع السوريين)، إنما تعمل بالليل والنهار في شكل جدي من أجل متابعة تكسير صورة الديكتاتور.

فهل يفعلها ترامب جدياً ويتابع على الأرض وليس على التويتر، حماية الشعب الإيراني من مخالب الحرس الثوري واستخباراته؟

يمكن للعالم أن يفعل الكثير من أجل حماية الشعب هناك، ويجب أن لا تترك الناس وحدها في مواجهة الرصاص والمشانق. يكفي تلك التظاهرات أنها أقلقت راحة الخامنئي ومعه بوتين وبالتأكيد بشار الأسد. يكفيها أنها جرفت في طريقها كذباً عمره عقود، وأحلت محله الصدق، الصدق الذي يرعب السلطات في هذا الشرق.

لا تنتظروا الغد إنما اصنعوه. هذا ما يمكن أن نتعلمه.

*كاتب سوري

الحياة

 

 

 

إيران صراع الأجنحة والأجيال/ هوازن خداج

الحركات الاحتجاجية والتصادم مع الحكومة ليسا جديدين على الواقع الإيراني والدوافع المطلبية المتعلقة بتحسين الأوضاع المعيشية هي الأساس، فمن انتفاضة 1952 لتأميم النفط ونيل إيران القليل من نفطها، أو الثورة البيضاء عام 1963 ضد تزاوج السلطة والثروة وتفشي الفساد في مؤسسات الإدارة والاقتصاد إلى يومنا هذا، يتوالى سوء تقدير قوة المعارضة الشعبية لسياسات التجويع، مثلما يتوالى القمع وسقوط القتلى فهو الرد الأكثر تعبيرا عن استبدادية الدولة بغض النظر عن الحكومة الموجودة أو مآلات تلك الاحتجاجات.

الامتعاض الشعبي من أداء حكومة الرئيس حسن روحاني وملفات الفساد المتراكمة وانهيار آمال الإيرانيين الذين وُعدوا بحياة أفضل بعد توقيع الاتفاق النووي واستغلال أحلامهم في مؤسسات وهمية كانت سببا أساسيا في اندلاع الحراك، والإشارات إلى أنها احتجاجات مدبرة بأياد خارجية، أو داخلية بالقول إن الاحتجاجات جزء من المناكفات السياسية بين التيارين الرئيسيين في إيران المحافظ والإصلاحي، لن تغير من واقع الاحتجاج ووصوله لكل مكوّنات الإيراني وتغطيته مساحة جغرافية كبيرة من إيران، ولن تلغِي الرفض لتزاوج السلطة والثروة وتشابك مصالح رجال المال والسياسيين في هرم الدولة، وكبت الحريات العامة واتباع أساليب عنيفة في تصفية المعارضة عبر جهاز الأمن الإيراني الذي يثير الهلع والذعر في أوساط المجتمع.

حالة الاحتقان الشعبي التي وصل إليها الإيرانيون لها أسبابها الكثيرة النابعة من رفض الخضوع لدولة جرى تحويلها إلى مشروع عقائدي يسعى لتصدير نموذجه عبر دعم ميليشيات وهويات فرعية داخل محيطه وخارجه، مع زيادة الاستنزاف لأرزاقهم فيما سمي “الاقتصاد المقاوم” والذي يعني شد الأحزمة والصبر على الوضع الاقتصادي المتردي خدمة لتدخلات إيران الإقليمية ومشاريعها في بناء النفوذ والسيطرة تحت ذريعة حماية إيران وتأمين مصالحها، وما هي إلا هروب من مواجهة الأزمات الداخلية والصراعات القائمة على السلطة، والتي لم تعد مقبولة من الرأي العام الإيراني وهو ما كان واضحا في شعار المحتجين “لا غزة ولا لبنان.. حياتي فداء لإيران”، والذي تبعه كسر المحرمات والمساس بهيبة الولي الفقيه وإحراق صوره. فالجيل الجديد من المولودين بعد وفاة الخميني بات نظامهم الغيبي وسياساته التمهيدية لظهور المهدي، غريبا على تطلعاتهم المعولمة.

التحديات التي يواجهها النظام في طهران تكمن في أنه يرفض التعامل بواقعية مع المتغيّرات البنيوية في منظومة التفكير لدى شرائح عديدة من المجتمع الإيراني كنتيجة طبيعية لاجتماع عدة عوامل سياسية واقتصادية وثقافية ودينية واجتماعية، أدت إلى تغير الأجيال التي إضافة للمظالم الاقتصادية تشكو غياب الحرية السياسية والاجتماعية، وتعاني الكثير من القيود على الحريات، بحيث لا تنفع مع تلك الأجيال محاولات التذكير بشعارات الثورة الإسلامية و“مجتمع بأقل قدر من الأزمات” التي استعملت لاستمالة الشباب أيام الشاه، في مجتمع تضاعفت أزماته تحت وطأة حكم الولي الفقيه وسياسات العزلة والتشدّد غير القابلة للتغيير ونمت فيه كراهية نظام “إسلامي” صارم وُلدوا فيه ولم يشهدوا سواه.

الانتفاضة الإيرانية سواء تسنّى لها النجاح أو قُمعت أو خَبَت هي دليل على تغيّر منظومة التفكير ونشوء قناعات مخالفة لما تؤمن به القوى السياسية إصلاحية أو محافظة وهي إشارة تحذير إلى نظام استبدادي ديني لم يطالع تحوّلات المجتمع، ولم يقتنع أن الشعوب لا يمكن قولبتها وعزلها عن متغيّرات العالم.

كاتبة سورية

العرب

 

 

 

 

المفاجأة الإيرانية/ فيكين شيتريان

الاندلاع المفاجئ للمظاهرات في إيران يضعنا أمام مفارقة، فبينما تحتفل السلطات الإيرانية بسلسلة من الانتصارات في عام 2017، وامتداد غير مسبوق لنفوذها في الخارج، نكتشف فجأة هشاشتها الداخلية. هذا التناقض ينبغي على الأقل أن يضعنا أمام معضلة سقراط، التواضع الواعي لحدود معرفتنا. في أحسن الأحوال ينبغي أن نسجل الملاحظات ونتعلم شيئاً من دروسها، وهو أن السياسة المحلية مهمة. وينبغي أن يكون عنصر المفاجأة في صميم دراستنا للأحداث الإيرانية، إذا كنا ننوي تعلم بعض دروسها.

شهد عام 2017 مزيداً من التوسع في النفوذ الإيراني خارجياً، وهو اتجاه كان موجوداً بالفعل من قبل، إلا أن قتال “الدولة الإسلامية” (داعش) في العراق وسوريا عززه. إيران هي الفائز الأكبر من القتال ضد داعش، أكثر من أي دولة أخرى تقاتل داعش، بل وأكثر من القوى العظمى مثل الولايات المتحدة وروسيا؛ بينما استخدمت الولايات المتحدة قوتها الجوية وعدة آلاف من “القوات الخاصة” في كلٍ من سوريا والعراق في قتال داعش، وشنّت روسيا قصفاً هائلاً، مع عدة آلاف من القوات المرتزقة (القوات البرية التي تعمل على أساس تعاقدي)، كانت الآلاف من الميليشيات الموالية لإيران، سواء وحدات الحشد الشعبي في العراق، أو ميليشيات شيعية مختلفة في سوريا، هي من وفرت جنود المشاة. تلك القوات شبه العسكرية التي تنسق أنشطتها مع قيادة الحرس الثوري الإيراني، هي من ستبقى على الأرض، وستمدّ نفوذ الدولة الإيرانية في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

من المعروف أن إيران عانت  من توتراتٍ اجتماعية واقتصادية حادة، إضافة إلى انتقادها العلني من قبل عدد كبير من السكان. أثار “الاتفاق النووي” الذي أُبرم عام 2015 مع إدارة باراك أوباما والقوى الكبرى آمالًا كبيرة في انفتاح البلاد، ووصول الاستثمارات، وحصول الاقتصاد على دفعة من الهواء النقي. كل ذلك لم يحدث. ولكن يمكن للسلطات الإيرانية أن تلقي باللوم على القيادة الأميركية الجديدة، وعدائها تجاه إيران والتهديدات بشنّ حروب جديدة. ووفرت تغريدات الرئيس الأميركي التي لا تنتهي مواداً إعلامية ثابتة تشير باستمرار إلى أن أي تقصير داخل إيران ناتج عن العداء الأجنبي.

ولذا كان بدء وانتشار المظاهرات الشعبية منذ يوم الخميس 28 ديسمبر / كانون الأول  مفاجأة مزدوجة. فرغم  أن ارتفاع أسعار السلع الأساسية أثار احتجاجات انتشرت كالنار في الهشيم. إلا أن الشعارات سريعاً ما صبغتها السياسة “لا غزة، ولا لبنان، أعطي حياتي لإيران” وهو الهتاف الذي حوّل نجاحات السلطات الإيرانية إلى انتقادات.

في حال حاول المرء وضع الأحداث الجارية في سياق تاريخي، فهي لا تتسق مع “الثورة الخضراء” التي وقعت عام 2009، بل مع الانتفاضات العربية التي حدثت عام 2011. كانت الاحتجاجات الجماهيرية في إيران في عام 2009 مشابهة للأحداث التي عرفت باسم “الثورات الملونة” في عدد من دول الاتحاد السوفياتي السابق. وكانت نتيجة للانتخابات المتنازع عليها، حين اتهم مرشحو المعارضة السلطات بالتزوير. وبالتالي، ظل الاحتجاج داخل الإطار القانوني، ولكنه كان نتيجة لاتهام جزء من النخبة للمحافظين بتزوير الانتخابات. انتهت أحداث عام 2009 بنجاح القمع: إذ لا يزال المرشحان المعارضان مير حسين موسوي ومهدي كروبي قيد الإقامة الجبرية، وألقي القبض على العديد من النشطاء، وأمضوا عقوبات في السجون. في نهاية المطاف مات الحراك المجتمعي، ولكن أسبابه لم تتبخر.

الأحداث الحالية ذات طبيعة مختلفة: لا توجد انتخابات متنازع عليها، وإنما ما أشعل الاحتجاجات هو ارتفاع الأسعار. ويشهد انتشار الاحتجاجات في جميع أنحاء إيران خلال 48 ساعة على عمق الاستياء الشعبي. وأخيراً، تبدو شعارات المتظاهرين متطرفة، بمعنى أنهم لا يطالبون فقط بتغيير السياسات الاجتماعية والاقتصادية، بل يطالبون بتغيير النظام. لا يبدو أن للغضب الشعبي الموجود في الشوارع الإيرانية قيادة ومركز تنسيق وشكل واضح، ما يجعل الصعب التفاوض معه.

لا ينبغي التقليل من التأييد الذي يتمتع به النظام الإيراني، فإيران اليوم ليست إيران بهلوي: كان التحول الرئيسي منذ ثورة 1979 هو بناء دولة بيروقراطية حديثة لها دخل كبير في الاقتصاد. هذا النموذج ذاته هو ما  يتم الاعتراض عليه من قبل جزء من السكان، لكنه أيضاً يمد النظام بالمؤيدين. كما ينبغي ألا يقلل أحد من قدرة النظام على الحفاظ على نفسه.

السيطرة الكاملة للسلطات الإيرانية على السياسة وعلى الحيز السياسي يجعلها عرضة للفشل. إذ لم يؤد القضاء على المعارضة في عام 2009 -حتى لو كانت هذه المعارضة داخل النخبة الحاكمة نفسها- إلا إلى تطرف الحركة، وجعلها بلا قيادة ولا يمكن التنبؤ بها.

المفاجأة الإيرانية مليئة بالعبر: وهي أن السياسة أولاً وقبل كل شيء محلية. ستفشل القراءة الجيوسياسية للأحداث -الرائجة جداً في عصرنا- في فهم ذلك. وينبغي أن يُنذر ذلك كل من يعتقدون أن الفتوحات الخارجية يمكنها تزيين الإخفاقات في الوطن. وينبغي على الرئيس الروسى فلاديمير بوتين إعادة حساباته بعد محوه لأي معارضة حقيقية قبل الانتخابات الرئاسية القادمة، والتي ستجري فى مارس / آذار من هذا العام. كما ينبغي أن تهتم النخبة الأميركية التي قامت مؤخراً بتخفيضات ضريبية غير مسبوقة مع ما نتج عنها من تخفيضات ضخمة في الخدمات الاجتماعية في مقابل زيادة الإنفاق العسكري.

من الصعب تصور ما ستسفر عنه الدراما الإيرانية، ولكن لا يمكن لأحد تقليل أثرها على الشرق الأوسط والسياسة العالمية بأسرها.

 

 

 

متى تسقط إيران؟/ حازم صاغية

حركة الاحتجاج التي انطلقت من مدينة مشهد، وأصيبت بعدواها مدن ومناطق أخرى، لن تُسقط النظام الإيرانيّ. هذا ما يُرجّح. لكنّها في أغلب الظنّ ستضعفه وتخلخله وتكشف تهافت المزيد من مزاعمه. هكذا فعلت “الثورة الخضراء” في 2009 والتي لا تزال آثار قمعها باديةً على الحركة الشعبيّة الراهنة.

لكنّ النظام الخمينيّ الذي قام في 1979 سيحتفل، مع هذا العام الجديد، بعيده التاسع والثلاثين. فلننظر في مصائر الثورات الكبرى للتاريخ بعد 39 عاماً على انتصارها، من دون أيّ تعويل على حتميّة زمنيّة مُلزمة هي، مثل كلّ الحتميّات، وهم.

في 1649 نجحت الثورة البيوريتانيّة المصحوبة بحربين أهليّتين في إنكلترا. قائدها أوليفر كرمويل أَعدم، في ذاك العام، الملك تشارلز وأنشأ الكومنولث. مع وفاة كرومويل في 1658 خلفه ابنه ريتشارد كرومويل بوصفه “السيّد الحامي”. في 1659 عُزل ريتشارد. عادت المَلَكيّة، ثمّ كانت “الثورة المجيدة” في 1688 التي مهّدت لصدور “مرسوم الحقوق” بعد عام واحد، وهو إحدى أهمّ الوثائق الدستوريّة في التاريخ الإنكليزي والأوروبيّ. بعد 39 سنة، أي في 1688، باتت الأجندة السياسيّة لإنكلترا عديمة الصلة كلّيّاً بما كانت عليه حين انتصرت الثورة.

الثورة الفرنسيّة، التي افتُتح بها زمننا الحديث، قامت في 1789 مشوبة بحرب أهليّة وبصراع بين أجنحتها. الأمور استقرّت على ديكتاتوريّة نابوليون بونابرت ثمّ إمبراطوريّته وحروبه التي اختُتمت بهزيمته الأخيرة والنهائيّة في وترلو عام 1815. أعيدت الملكيّة في ظلّ البوربونيّين. في 1828 كانت انقضت 39 سنة على الثورة فيما البوربونيّون لا يزالون في الحكم. في 1830 أطيحوا ثانية.

في روسيّا، ثورة 1917 البلشفيّة تلازمت هي الأخرى مع حرب أهليّة وحرب خارجيّة ومع صراعات أجنحة وتيّارات. توطّدت الستالينيّة وكانت الحرب العالميّة الثانية وتوسّع “الكتلة الاشتراكيّة”. الذكرى الـ 39 للثورة حلّت في 1956، أي سنة انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعيّ السوفياتيّ حين أعلن نيكيتا خروتشيف نزع الستالينيّة.

في الصين، انتصرت الثورة في 1949: المرارات تلاحقت من “القفزة الكبرى إلى الأمام” إلى “الثورة الثقافيّة البروليتاريّة العظمى”. لكنْ في 1988، مع مرور 39 عاماً على انتصار الثورة، كان ينقضي ما يقرب العقد على بدء إصلاحات دينغ هشياو بنغ التي قوّضت الماويّة.

39 عاماً يُفترض أنّها زمن كافٍ. محمّد مهدي الجواهري علّمنا في قصيدة شهيرة أنّ “أعمار الطغاة قصار”. متى إيران؟

 

 

 

 

المفارقات المزمنة للثورة الإيرانية على «حزب رستاخيز»/ وسام سعادة

قامت الثورة الإيرانية 1978 ـ 1979 على مفارقات لم تستطع تصفية الحساب معها إلى اليوم. فهذه الثورة، هي، وإلى حد كبير، رابعة أربعة، في التاريخ الحديث للثورات، إن من حيث اتخاذ الثورة في هذه التجارب سمة انقلاب «تتلاطم» أمواجه، ويشمل المجتمع بأسره، وبأسر كونيّ عميق، وليس فقط الإطاحة بنظام حكم، أو «تعبئة» الشرعية من بعد نضوبها.. أو من حيث وفرة أنماط المحاكاة، في الثورة الإيرانية، لسابقاتها.

وليس المقصود بالمحاكاة هنا «التمثّل»، بل «تناسخ الأرواح»، و»استعادة» أخيلة ومقولات كما لو كانت الثورات فصول لتراجيديا واحدة تتعاقب على المسرح نفسه، ومحكومة بشيء من «رجعة» الشخصيات، بحيث يمكن تعيّن ملامحها من ثورة إلى الثورة، كمثل رصد «انبعاث» روبسبيير ودانتون ومارا بين أحداث وشخصيات الثورة الروسية، أو انبعاث بوخارين وتروتسكي وزينوفييف في مرايا الثورتين الصينية والإيرانية، أو إعادة كتابة «إعلان الحقوق» لإخراجه من «تجريد» المواطن العام، في الحالة الفرنسية، إلى المواطن الشغيل، في الحالة الروسية، إلى المواطن التقي والذي يمكن أن تختزل حقوق إنسانه في الحيّز الدنيوي، في الحالة الإيرانية.

وهنا فارق أساسيّ بين مقال الثورات الفرنسية والروسية والصينية وبين الثورة الروسية. فالتجارب الثلاث اجتمعت على تركة عصر التنوير الفلسفية (إعادة تأسيس العلاقة مع الأشياء على قاعدة حجّية العقل، المستقى بدوره كعقل من عالم الطبيعة، إنما كمقيم لعالمه هو، عالم الحرّية، الدنيوية بشكل ناجز، في وجه الطبيعة)، وعلى تجذير وتوسيع مدارك التنوير (من البرجوازية إلى البروليتاريا، ومن أوروبا إلى آسيا). أما الثورة الإيرانية، فقد تمازجت فيها تركة «تجذير التنوير» هذه، مع تركة نقض أساساته، وهو تمازج يجعلها، إلى جانب المسرح التراجيدي المشترك التي تتنازعه مع الثورات الفرنسية والروسية والصينية، تحاكي أيضاً، على طريقتها، نماذج الثورات التي نبتت على أرضية بروتستانتية، ما قبل عصر التنوير (الثورة الإنكليزية)، أو بالتفاعل عن بعد معه (الثورة الأمريكية)، هذا مع رفعة إسهام هاتين الثورتين الإنكليزية والأمريكية، «الملتبستين» في علاقتهما مع تركة عصر التنوير الفلسفية، الأولى لنشوبها قبل هذا العصر، والإثنتان لأهمية مرجعيتهما الدينية «الإحيائية» لأسفار العهد القديم، أو الباحثة في هذه الأسفار عن «نظرية سياسية». بل أنّ الإسهام الدستوريّ، للثورتين الإنكليزية والأميركية، يزيد أهمية عن الإسهام الدستوريّ لثورات «تجذير وتوسيع» التنوير (الفرنسية، الروسية، الصينية).

ولئن كانت الحالة الإيرانية، لا تقارن أبداً بطبيعة الحال، بالمساهمتين الدستوريتين الكونيتين، للثورتين الإنكليزية والأميركية، إلا أنّ ما يميّزها أيضاً عن «ثورات التنوير وتجذيره»، القاريّة، هو «استقرار» القالب الدستوريّ الذي رست عليه، منذ نهاية السبعينيات إلى اليوم، والمحكوم بالمزاوجة بين نظرية ولاية الفقيه المطلقة الشرائط وبين النظام الرئاسيّ الجمهوريّ، وعدد من المجالس (الشورى، تشخيص مصلحة النظام، مجلس صيانة الدستور، مجلس خبراء القيادة).

بما أنّ الثورة الإيرانية حاكت إلى حد كبير الثورات القاريّة، فقد تشرّبت الكثير من أنساق «تجذير التنوير» في الوقت نفسه التي تجذّر فيها رفض التنوير نفسه، أو بالأحرى تشرّب أنساق «التنوير المضاد» التي تشدّد على الخصوصية بوجه الكونية، بل دفع التنوير المضاد إلى حالة قصوية لم يبلغها في متنه الأوروبي، من خلال إعادة تعريف العقل نفسه، فلا يعود مستقى من عالم الطبيعة، بل من عالم ما ورائها، بل من عالم ما وراء القبر، ومن انتظارات الظهور والرجعة والقيامة والمعاد، أي بإعادة تقييمه كعقل، بوصفه أداة ملكية للمسارات الأخروية (الإسكاتولوجية) بإمتياز. ارتبط ذلك مع إحياء نظرية «الملك ـ الفيلسوف» الأفلاطونية، التي شكّلت الوعاء الميتافيزيقي لنظرية ولاية الفقيه عند الإمام الخميني، بما طرحه هذا من إشكال حقيقي، من أين يؤتى بـ»ملك ـ فيلسوف» في كل مرّة؟

بيد أنّ مفارقة الثورة الإيرانية أواخر السبعينيات لا تنحصر في طابعها الإشكاليّ هذا. مفارقتها أنّ ردّ على «ثورات من فوق» أعلنها الشاه محمد رضا بهلوي في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. وهي «ثورات من فوق» قادها الشاه، لكنها لم تكن ثورات «معزولة»، وأكثر، كانت ثورات ممهورة بختم الإمبراطور، إنّما أشبه ما يكون بـ»صراع طبقي». فـ»الثورة البيضاء»، أو «ثورة الملك والشعب»، التي أعلنها الشاه عام 1963 وتضمنت الإصلاح الزراعي، وضعته في مواجهة كبار الملاك العقاريين، أما «ثورته الثانية» في منتصف السبعينيات، فوضعته في مواجهة البرجوازية البلدية، وخصوصاً تجار البازار.

ولعلّ الذروة في هذه «السمة الثورية»، البونابرتية بالأحرى، لمحمد رضا بهلوي، ايثاره، عام 1975، الغاء نظام التعددية الحزبية، وتأسيس «حزب البعث»، أو بالفارسية، «حزب رستاخيز»، الذي اتخذ من ثلاثية «الشاه، الشعب، الثورة» شعاراً له، وجمع في بيانه بين عبارتي «قانون اسلامي» و»نظام شاهنشاهي». تباهى هذا الحزب في الأشهر السابقة على سقوط الشاه بأنّه يضم ما يزيد عن خمسة ملايين منتسب، مثلما لعب الحزب بالفعل دوراً تعبوياً لتظاهرات مؤيدة لإستمرار الشاهنشاهية. لم تكن مشكلته في انقطاع القاعدة الشعبية عنه، بل في «رعب» البرجوازية منه. البرجوازية نفسها التي اعتبرها الزعيم الشيوعي البلغاري جيورجي ديمتروف تأتي بالفاشية عندما تشعر بالخطر على مصالحها ووجودها، بحيث تكون الفاشية بحسب ديمتروف هي الوجه المسعور لديكتاتورية رأس المال، حين لا يعود الشكل البرلماني الدستوري يفي بالواجب. لكن ما حدث في إيران بعد تأسيس «حزب رستاخيز» أنّ البرجوازية هي التي نظرت إلى هذا الحزب الواحد، «الثوري»، التخليطيّ بين الإسلام، والقومية الفارسية الإمبراطورية، والشعبوية البرجوازية الصغيرة، على أنّه «فاشية» ضدّها. لم تخف البرجوازية الإيرانية نهاية السبعينيات من «الشيوعية» كي تستعين بـ»الفاشية»، بقدر ما خافت من «المنعرج الفاشي» للشاه، بعد تأسيس «حزب رستاخيز». هذا الحزب الذي سمّى نفسه بما يفيد البعث والقيامة عجّل بسقوط أسرة آل بهلوي، التي لم تعرف منذ قيام حكمها عام 1925، إلى أي قاعدة إجتماعية ترتكز، وعلى أي طبقة اجتماعية تستند. في المقابل، ما جعل التجربة الخمينية مديدة في إيران، كان تدارك الإمام للأمر، من بعد تأسيس حزب طليعي في البداية، «الحزب الجمهوري الإسلامي»، أي «رستاخيز الخمينية»، ومبادرته قبل سنتين من وفاته، إلى حلّ هذا الحزب، الذي كان من المنظمين له محمد بهشتي وأكبر هاشمي رفسنجاني وعلي خامنئي.

كانت الثورة الإيرانية إذاً «ثورة على ثورات الشاه». لم يكن نظام الشاه «تقليدياً» أو «محافظاً»، كان نظاماً بونابرتياً بامتياز، و»ثورياً» بهذا المنحى. وفي المقابل، وجد همّ أساسي عند الخميني، يحاكي فيه همّ الثورتين الروسية والصينية: كيفية تحاشي وصول الثورة إلى «مرحلة بونابرتية». روضت الدولتان المنبثقتان عن ثورتي روسيا والصين هذا الخطر البونابرتي إلى أبعد حد، فلم يحدث مثلاً أنّ استلمت قيادة الجيش الأحمر زمام الأمور في الاتحاد السوفييتي، و»نابليونات» هذا الجيش، إما أعدموا كتوخاتشيفسكي، أو عزلوا من بعد مجد، كجوكوف. هنا، لعبت مؤسسة الحزب الشيوعي الدور الأساسي في احباط أي احتمال بونابرتي. لكن ماذا عن إيران، وماذا عنها تحديداً اليوم.. برسم الأيام المقبلة قد يكون هذا السؤال. هل يمكن أن تعرف تجربة «حرس الثورة» فيها مآلاً بونابرتياً متأخراً؟ تاريخ إيران في القرن الماضي كان تاريخاً يعج بالنزعات البونابرتية، والانقلابات العسكرية، بل أن وصول آل بهلوي في الأساس إلى السلطة عام 1925، أتى في هذا السياق. كان رضا بهلوي يمني النفس برئاسة جمهورية وقتها، لولا أن رجال الدين جاءوا يطالبونه بإعلان نفسه شاهاً، لأنهم لا يريدون مصطفى كمال علمانوي في ديارهم. بالتأكيد، لا خبز اليوم في إيران، لأي من ذرية رضا بهلوي، لكن هل بالمستطاع القول أنّ لا خبز للمشاريع البونابرتية، ممتزجة بخلفيات مهدوية؟ هل يمكن أن تبقى الأمور تحت سيطرة نظرية «الملك ـ الفيلسوف»، وفي منأى عن اغراءات «الضابط المنقذ»؟ سؤال لسنوات إلى الأمام.

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

 

 

 

لا ترامب ولا روحاني قادران على التغيير!/ جورج سمعان

تجاوزت إيران موجة الاحتجاجات الأخيرة. ولم تكن هذه الموجة الأولى من نوعها. فقد سبقتها منذ تسعينات القرن الماضي إلى اليوم، حركات عدة على خلفيات اقتصادية. لكن النظام تمكن من خنقها بالقوة والعنف. ولم تشكل يومذاك تهديداً للنخب الحاكمة. ولا يعتد بتغريدات الرئيس دونالد ترامب وقدرتها على الفعل. فحتى أهل ديبلوماسيته لم يرق سقف موقفهم إلى أبعد من الأمل أو العمل على دفع طهران إلى تبديل سياساتها الخارجية، والداخلية في مجال حقوق الإنسان. ومثلهم كان موقف الأوروبيين المتريثين دائماً لإيمانهم بأن التغيير يأتي من الداخل. لكن الحركة الأخيرة تميزت عن سابقاتها، خصوصاً تلك التي شهدها صيف 2009، بأنها تمددت أفقياً. شملت مدناً ودساكر بعيدة من المركز، وانطلقت من نواحٍ تعد قواعد أساس للنظام. وكان لشبكات التواصل الاجتماعي بالطبع دور في انتشارها. تماماً كما حصل في ما سمي «الربيع العربي». وتركزت الشعارات على المطالب الاقتصادية والاجتماعية أساساً. وحتى المناداة بوقف سياسة التدخلات الخارجية في دول الجوار لم تصدر عن موقف أيديولوجي أو سياسي، بمقدار ما استدعاها شعور الفقراء بأن الإنفاق على قوى خارج الحدود من بين أسباب الهدر في حين هم يرزحون تحت خط الفقر. لكن هذه الصرخة تؤشر علناً وللمرة الأولى إلى أن ثمة اعتراضاً شعبياً على مبدأ «تصدير الثورة». وهذا ركن من أركانها أرساه الإمام الخميني. ولا يزال النظام يبرر انخراطه في حروب المنطقة بذرائع شتى أولاها الادعاء بحماية النظام. لذلك، ردد المسؤولون ويرددون أن هيمنتهم على عواصم عربية هي الدرع الواقية لأمن عاصمتهم وبلادهم وأركان حكمهم!

لكن العلامة الفارقة في التظاهرات الأخيرة هي هذه الجرأة في كسر حاجز الخوف. وتجلت بالتطاول على رموز الحكم و «الثورة» من المرشد إلى رئيس الجمهورية ورجال الدين. ولا شك في أن النظام نفسه بنخبه السياسية وصراعاتها المتصاعدة دفع المحتجين إلى تصعيد خطابهم حتى بلغ هذا المبلغ. فالحراك كان نتيجة عوامل كثيرة. ليس أولها سيادة القمع والخلل في النظام القضائي. كما أن تشريح الوضع الاقتصادي يعطي صورة وافية عن حال الفقر المنتشر في أوساط الإيرانيين الذين هللوا للاتفاق النووي ومنوا النفس بثماره. وجددوا للرئيس حسن روحاني ولاية ثانية، معلقين آمالاً عريضة عليه لإخراجهم من أزماتهم المتفاقمة. صحيح أن سياسة حكومته أتاحت نمواً معقولاً وخفضت التضخم. لكن البطالة اتسعت، خصوصاً في أوساط الشباب. وأدت السياسة الأميركية حيال موضوع العقوبات وتجديد بعضها على رغم قرار الرئيس باراك أوباما تجميدها بعد الاتفاق النووي، إلى عزوف الاستثمارات الخارجية عن السوق الإيرانية. كما أن الحركة التجارية التي أنعشها الاتفاق ذهبت وارداتها إلى المؤسسات الحكومية. وزاد الطين بلة أن روحاني نفسه تغنى برفع موازنة الدفاع! في حين رفعت حكومته أسعار الوقود وبعض السلع المدعومة. وأوقفت سياسة «توزيع الثروة» التي اعتمدها الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد لإرضاء قاعدته في الأرياف. خلاصة القول إن بعض ما جنته الجمهورية من فوائد، تجارية خصوصاً، في السنتين الأخيرتين لم يوزع على الناس الذين لم يشعروا بتحسن أوضاعهم.

إلى كل هذه الدوافع للحراك، ثمة دور للصراع السياسي بين الأجنحة والنخب الحاكمة، وكلها بالطبع حريصة على بقاء النظام ما دام يوفر لها أو لمعظمها مكاسب لا يمكن التساهل بالتنازل عنها. هكذا، تركت آثارها الحملات المتواصلة للمحافظين على إدارة الرئيس روحاني. ومثلها الصراع الخفي على وراثة المرشد وما يرافقها من أحاديث عن فساد ومحسوبيات وتقاسم منافع وثروات، إضافة إلى تبادل معظم القوى السياسية الاتهامات بالفساد والتغول على الثروة والتحايل المصرفي، واستئثار «الحرس الثوري» بحصة الأسد، وهو الذراع الأساسية في تعامل إيران مع الخارج… كلها مهدت لموجة الاحتجاجات في أوساط شعب عبر عن رغبته منذ غياب الخميني في ترميم علاقاته مع الغرب، والولايات المتحدة خصوصاً. وقد عبر عن ذلك في مناسبات عدة، من أيام رئاسة هاشمي رفسنجاني، ثم محمد خاتمي إلى حسن روحاني. وقد شاعت مقولة كان يرددها أحد حلفاء طهران في الوسط الفلسطيني مفادها أن الشارع العربي يعادي الولايات المتحدة في حين حكوماته أو أنظمته تواليها، بينما الصورة في إيران معكوسة تماماً. فهنا يعادي النظام وحكمه أميركا في حين يرغب الشارع في صداقتها! من هنا، رأى مراقبون إيرانيون أن الحراك الأخير لم يعترض على التيارين المحافظ والمتشدد، بل تجاوز الإصلاحيين أيضاً. فقد خاب أمل الناس من هؤلاء أيضاً، وعكست الشعارات المعادية لمنظومة الدولة غضب الناس، مثلما عكست فشل هذه المنظومة ونخبها بجميع أطيافها. وهذا يشي بتغيير كبير في المجتمع الإيراني لا بد أن يتصاعد ويجد ترجمته في المستقبل، إذا استمر الجمود على حاله. وواصل الحكم نهج القمع خياراً لحل المشكلات، وتجاهل الرغبة الجامحة في تغيير السياسات الداخلية والخارجية.

قيل الكثير عن بداية انطلاق التحرك من مشهد. ولأنه افتقد قيادة بخلاف ما كانت عليه التظاهرات الضخمة عام 2009 التي تزعمها مير حسين موسوي ومهدي كروبي، أشارت الأصابع إلى دور لأحمدي نجاد الذي حرمه المرشد من الترشح في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ويحاكم مساعدوه السابقون بتهم فساد. وأشارت أيضاً إلى دور لقوى متشددة عادت إلى مواجهة الرئيس روحاني. وإذا صحت هذه الإشارات، فإن ذلك يعني أن رؤوساً كثيرة حاولت ركوب الموجة أو استغلالها، لكنها فوجئت حتماً بالعنف الذي رافقها وبتصعيد سقف مطالبها التي طاولت النظام للمرة الأولى، وبغياب الهتافات التي تندد بالغرب والاستكبار… وحتى إن صح أن الشرارات الأولى للاحتجاجات كانت مدبرة، وأن لا رأس لقيادة الحراك، فإن لجوء المسؤولين إلى «نظرية المؤامرة» بتوجيه اللوم إلى هذا الطرف الداخلي أو إلى «الشيطان» الأميركي، هو نوع من الهروب إلى أمام. ولا شيء يمنع تجدد الحراك في أي وقت في بلد تعداده أكثر من ثمانين مليوناً ويزخر بقوى ومكونات عرقية ومذهبية لا يروقها النظام وإن لجأ كالعادة إلى أنصار يملأون الشوارع لتوكيد شرعيته. ولا شيء يمنع مستقبلاً من بروز قيادات شابة عبرت عن شجاعة في الجهر بمطالبها.

صورة جديدة ومختلفة في إيران. ولم يعد يكفي الرئيس روحاني أن يقر بحق المواطنين في التظاهر والتعبير عن آرائهم. ولا يكفي وعده بالعمل مع مجلس الشورى لمعالجة المظالم الاقتصادية لمواطنيه. فالذين خرجوا في عدد كبير من المدن، وإن قلت أعدادهم عن المألوف في التجمعات الإيرانية، تجاوزوا انتقاد حكومة الإصلاحيين إلى المرشد، رأس النظام. والسؤال هل يستطيع روحاني وهو ابن هذا النظام أن يكسر هذا التحجر في «المنظومة العميقة» التي نشأت بعد «الثورة الإسلامية»؟ هل تمكنه قيادة تغيير حقيقي في السياستين الداخلية والخارجية لبلاده، ليحقق بعض آمال الذين رأوا إلى الاتفاق النووي بداية تحول الجمهورية من مرحلة «الثورة» إلى مرحلة الدولة؟ هل يستطيع رفع القبضة الأمنية وفتح الباب أمام الحريات الفردية وتوزيع الثروة على الجميع وإتاحة المجال أمام القطاع الخاص بدل تغول «الحرس» على الاقتصاد والمؤسسات والمشاريع الكبرى؟ على رغم التحسن البطيء والقليل الذي قدمه اقتصادياً، إلا أنه ظل قاصراً عن مواجهة مراكز القوى. وهو الآن أمام تحد كبير. وليس وحده أمام هذا التحدي. فكل أركان النظام ومؤسساته معنية. صحيح أن الحراك انتهى، ولكن من يمكنه بعد اليوم ضمان استقرار البلاد وترميم صورتها بعد الاحتجاجات الأخيرة التي كسرت المحظور؟ وأنى لحكومة روحاني الوسائل لتحريك عجلة الاقتصاد، في حين تواجه تحديات خارجية كثيرة، ليس أولها سيف التهديد بالعــقوبات وبطي صفحة الاتفاق النووي الذي يلوح به الرئيس ترامب الذي لا يتوقع الإيرانيون أنه القادر على فرض التغيير، وليس آخرها شبه إجماع دولي على وجوب تبديل سياسة التوسع والهيمنة في الشرق الأوسط وغيره؟ والخشية أن يلجأ النظام إلى الخارج كالعادة، من أجل تصدير أزمــاته الداخلـــية، ومــن أجل ممارسة مزيد من الضغوط على الداخل… وهذا المرجح، ولكن إلى متى؟

الحياة

 

 

تحيا الثورة الشعبية ولتسقط الطائفية!/ جلبير الأشقر

هل تظنّن أن انتفاضة الشعب الإيراني ملأت حكام المملكة السعودية غبطةً؟ الحقيقة هي أنها ملأتهم رعباً أكبر من كل ما أصابهم من جراء السياسات التوسعية التي يمارسها حكام إيران. فإن انتفاضة الشعب الإيراني فاتحة خير عظيمة للعام الجديد، إذ هي أنجع ترياق للسمّ الطائفي الذي استخدمه النظام العربي القديم ضد انتفاضات الشعوب العربية في «الربيع العربي». وقد رأينا كيف شقّت مملكة البحرين انتفاضة شعبها بسيف الطائفية مثلما فعل نظام آل الأسد في سوريا. وبالسيف ذاته قامت الجماعات الحاكمة في كل من العراق ولبنان بقطع الطريق أمام النضال الشعبي الصاعد أثناء ذلك الربيع الزاهر. ثم رأينا حاكم اليمن المخلوع عليّ عبد الله صالح يسعى وراء استعادة حكمه بالسيف عينه، ولو بإعادة تقسيم البلاد. إن الحيلة لقديمة قِدَم شعار الطغيان المعروف: «فرّق تسد».

هكذا يحوّلون الصراع الأفقي بين الشعب الكادح والنخب الظالمة الفاسدة إلى صدام عمودي بين السنّة والشيعة، تتمحور حوله الأقليات الدينية والطائفية الأخرى حيث وُجدت. وفي هذه العملية التخريبية يلتقي العدوّان اللدودان، المملكة السعودية وجمهورية الملالي الإيرانية مع من لفّ لفّهما، في تقاسم وظيفي متميّز. فقد تقاسما الأدوار في الخنق الطائفي لانتفاضة البحرين كما تقاسماها في الخنق الطائفي للثورة السورية، وسوف يتعاونان بلا شكّ في خنق أية ثورة شعبية حقيقية في منطقتنا. ذلك أن الثورة الشعبية تهدد نظاميهما الاستبداديين القائمين على استخدام الطائفية بلباس الأصولية الدينية كوسيلة أيديولوجية رئيسية لإضفاء شرعية رجعية عفنة على سلطتيهما.

وما أشبه حِيَل أنظمة الاستبداد الطائفي! اتّهم الحكم الملكي في البحرين الانتفاضة الشعبية العارمة التي هبّت في الجزيرة عام 2011 بأنها مؤامرة طائفية مدعومة من إيران مثلما اتهم نظام آل الأسد انتفاضة الشعب السوري بأنها مؤامرة طائفية مدعومة من مشايخ الخليج. وها أن نظام الملالي يستخدم الآن الكذبة ذاتها في تبرير قمعه لانتفاضة الشعب الإيراني. إنما جاءت هذه الانتفاضة الباسلة الجديدة لتُظهر بشكل قاطع أن المصالح الشعبية متعارضة مع كافة الأنظمة الاستبدادية، مهما كان الانتماء الطائفي للمتربّعين على السلطة.

ومن أفضال الانتفاضة الإيرانية أنها أثبتت أن «الممانعة» حجة بالية، القصد منها تمرير الاستبداد باستغلال المشاعر الوطنية. فلنتذكّر المقابلة التي أعطاها بشّار الأسد لصحيفة «وول ستريت جورنال» في أواخر كانون الثاني/ يناير 2011، عندما شرح أن سوريا «مستقرة» لأن «الناس لا يحيون بالمصالح فقط، بل يحيون بالمعتقدات أيضاً، خاصة في المناطق الأيديولوجية للغاية»، هذا بعد أن ادّعى أنه «لصيق بشكل وثيق جداً بمعتقدات الشعب». ظنّ الشعب السوري غبياً يغلّب الأوهام على المصالح ويؤمن أن نظام البطش والفساد وفيّ للمعتقدات، فما لبث أن اكتشف أن الشعب ليس بساذج ولا هو منخدع، بل هو غير مستعد للتضحية بمصالحه الحيوية على مذبح «الممانعة» المزعومة.

وها أن نظام الملالي يكتشف بدوره أن نفاقه لا ينطلي على شعبه. فإن هتافاً بارزاً بين الهتافات الرئيسية للانتفاضة الإيرانية يقول: «اتركوا سوريا واهتمّوا بنا!». فإن الشعب الإيراني يعاني من الآفات نفسها التي تعاني منها الشعوب العربية والتي فجّرت الانتفاضة العربية الكبرى: بطالة مستشرية، ولا سيما بطالة الشباب، وغلاء معيشة كاوٍ، وكساد اقتصادي متفاقم يعالجه حكم طهران بالوصفات النيوليبرالية عينها التي تعالج بها الحكومات العربية المشكلة ذاتها، ألا وهي إثقال النير المفروض على رقاب الشعب بإلغاء الدعم عن أسعار مواد الاستهلاك الأساسية. والحال أن عاملاً هاماً ساهم في تفجير غضب الجماهير الإيرانية هو إعلان الحكم قبل الانفجار بقليل عن زيادة أسعار المحروقات بنسبة 50 في المئة. وكأنها قصة تُعاد حكايتها بلا انقطاع، ويمكننا توقع تكرارها في مستقبل قريب في مصر أو المملكة السعودية أو غيرهما من بلدان منطقتنا حيث يجري تطبيق الوصفات ذاتها.

فلم تعد الجماهير الإيرانية مستعدة للعضّ على شفاهها والتضحية بمصالحها وهي ترى جهاز «الحرس الثوري» المتسلط عليها ينفق المليارات في سياسة توسّعية في العراق وسوريا ولبنان لا ناقة للشعب الإيراني فيها ولا جمل. بل هي سياسة يبرّر بها الجهاز ميزانيته الضخمة وامتيازاته الجمّة. ولن نلوم الجماهير الإيرانية لو وضع بعضها قضية فلسطين في السلّة ذاتها اشمئزازاً من متاجرة النظام باسم القدس وتحججه بدعم حركة حماس. فإننا ندرك كيف سئم بعض جماهيرنا العربية من بطش الأنظمة بها متحججة بالقضية الفلسطينية، ولو كنّا نتمنّى بالتأكيد أن يتمكن الجميع من التمييز بين نفاق الحكّام والقضايا العادلة التي يتذرّعون بها.

ونحن نعلم علماً يقيناً أن مصلحة فلسطين الحقيقية ومصلحة النضال ضد الصهيونية وضد الإمبرياليتين الأمريكية والروسية المتواطئتين مع هذه الأخيرة، إنما تمرّان عبر إحلال حكومات شعبية ديمقراطية محلّ أنظمة الاستبداد. وتمرّان بادئ ذي بدء عبر التغلّب على الطائفية، أحد أمضى أسلحة أنظمة الاستغلال والاستبداد ضد المصالح الشعبية. لذا نحن شاكرون للجماهير الإيرانية جزيل الشكر لأنها ساهمت في تبديد الأكاذيب، وأكّدت أن السيرورة الثورية طويلة الأمد التي انطلقت في منطقتنا قبل ثماني سنوات سوف تشهد أكثر من ربيع جديد بعد الربيع الأول. ولن تستقر منطقتنا بدون أن تنتصر فيها مصالح الشعوب التي يشكل الإخاء طريقها الضروري إلى الحرية والمساواة، وهي الشعارات الثلاثة المتلازمة لأُم الثورات على الاضطهاد.

٭ كاتب وأكاديمي من لبنان

القدس العربي

 

 

 

احتجاجات إيران.. سؤال الشرعية وخيارات النظام

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

شهدت إيران، في الأيام الأخيرة من عام 2017، تظاهراتٍ احتجاجيةً انطلقت من مدينة مشهد، ذات الطابع المحافظ، طالب فيها المتظاهرون باستعادة أموالٍ خسروها في مشاريع وهمية، أو شركات مالية كانت تعلق آمالًا على انتعاش اقتصادي بعد الاتفاق النووي. ولم تلبث الاحتجاجات أن انتشرت إلى عدد من المدن، بما فيها العاصمة طهران. وتتميز هذه الاحتجاجات بطابعها الاقتصادي، وبمشاركة قطاعات من الفئات الفقيرة في مقابل انتفاضة عام 2009 (الحركة الخضراء) التي انطلقت من فئات الطبقات الوسطى في المدن وطلبة الجامعات، ورفعت، منذ البداية، مطالب سياسية متعلقة أساسًا بالحريات ونزاهة الانتخابات. وعلى الرغم من العدد القليل نسبيًا للمشاركين فيها، تسببت الاحتجاجات بثلم شرعية النظام الإيراني، وكشفت عن حدّة الانقسامات الموجودة فيه، وطرحت تساؤلاتٌ عن إمكانية تصاعدها وقدرتها على تهديد النظام الإيراني الذي يواجه، في الوقت نفسه، تصعيدًا من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

سياق الاحتجاجات التاريخي

للحركات الاحتجاجية في إيران في العصر الحديث تاريخ يمتد إلى أواخر القرن التاسع عشر؛ إذ تكاد هذه البلاد تشهد تحركاتٍ احتجاجية دورية، وانتفاضات شعبية في كل عقد، ما يدفع إلى تصادم مع الحكومة. وغالبًا ما تكون لهذه الاحتجاجات علاقة بخلفيات اقتصادية ودوافع مطلبية تتعلق بغلاء الأسعار، أو فرض ضرائب جديدة، أو قضايا اقتصادية كبرى، مثل تأميم النفط في عام 1952، أو مراجعة ملكية الأراضي، كما حصل في ما سميت “الثورة البيضاء” في عام 1963. ويمكن أن يفهم تكرار الظواهر الاحتجاجية في سياق تاريخ الدولة المستبدّة في إيران من جهة، وعدم قبول الإيرانيين هذه الظاهرة ومقاومتها من جهة أخرى. ونادرًا ما حصلت احتجاجاتٌ لم يسقط فيها قتلى، بغض النظر عن الحكومة الموجودة في السلطة في إيران.

الوضع الاقتصادي: منطلق الأزمة

ثمة إجماع على أن التردّي الاقتصادي يمثل السبب الرئيس وراء الاحتجاجات الأخيرة، وأن

“فجوة كبيرة بين تطلعات الإيرانيين وسياسات حكومتهم الاقتصادية وتلك المتعلقة بالسياسة الخارجية”

هذا العامل مرتبط بنتائج الاتفاق النووي الذي وقعته إيران مع القوى الكبرى (5+1) في صيف 2015. فمع توقيع الاتفاق النووي، ارتفع سقف التوقعات، وسادت إيران حالة من التفاؤل بأن الوضع الاقتصادي سوف يتحسّن. قبل ذلك، ومنذ مرحلة الرئيس محمود أحمدي نجاد، بدأت مؤسسات مالية في إطلاق وعود وتقديم إغراءات لتشجيع المواطنين على استثمار أموالهم في مشاريع تشرف عليها. ويبدو أن بعض تلك المؤسسات كان وهميًا، غرضه استغلال أحلام المواطنين بتحقيق أرباح سريعة. من جهة أخرى، وأمام التأخر في تنفيذ رفع العقوبات المرتبطة بالاتفاق النووي، والعقبات التي وضعتها إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تأثر القطاع المالي في إيران، ويبدو أن هذا التأثير امتد إلى شركات ومؤسساتٍ جمعت أموالا من المواطنين، ما جعلها غير قادرةٍ على إعادة أموال المودعين الذين طالبوا باستعادتها. ومع عدم قدرة الحكومة على تأدية دور لحماية المواطنين، ورفضها تعويض الجزء الأكبر من الخسارة، ثار غضب أولئك المودعين، فكانت تلك الشرارة التي دفعت المتظاهرين إلى الخروج في مدينة مشهد.

وهذا لا ينفي بالطبع أن هناك اشتباكًا سياسيًا بين دوائر المحافظين وحكومة الرئيس حسن روحاني، وانتقادات متبادلة يتعلق معظمها بأداء حكومة روحاني الاقتصادية وسياستها الاقتصادية الليبرالية التي تقلص الإنفاق على قطاعاتٍ ومؤسساتٍ تهم المحافظين، وأيضًا بمراهنتها على الانفتاح. من هنا، ثمّة اعتقاد أن بعض المحافظين شجعوا خروج المتظاهرين في محاولةٍ لوضع ضغط شعبي على حكومة روحاني، وهو الأمر الذي ردّ عليه نائب الرئيس الإيراني، إسحاق جهانغيري، بالقول إن على من أخرجوا الناس في الشوارع أن يُحسبوا تبعات ذلك الخروج، والتي قد لا يمكنهم تحملها. وتجب الإشارة إلى أن التيار المحافظ يربط نفسه بالفقراء، ويقدّم نفسه مدافعًا عن حقوقهم. ومن هنا، كان الانتقاد لمشروع الموازنة المقترحة من حكومة حسن روحاني البالغة 104 مليارات دولار، والتي تنوي تقليل الاعتماد على النفط إلى نسبة 35%، مع رفع للدعم عن بعض السلع ورفع سعر المحروقات، وزيادة في الضرائب.

كان الغضب من الاستثمارات الوهمية التي خسر بعض الإيرانيين أموالهم بسببها الشرارة التي أطلقت التظاهرات، لكن انتشارها يشير إلى مشكلات اقتصادية ومعيشية كبرى، يعانيها المجتمع الإيراني كله؛ فالمؤشرات الاقتصادية الكلية حول إيران سلبية إجمالًا، إذ يبلغ معدل التضخم نحو 17%، وهناك ارتفاعات مطّردة شهريًا في الأسعار، ما يعكس ضعف

“فقدان المؤسسة الدينية جزءًا كبيرًا من هيبتها وشرعيتها منذ أن انخرطت في الحكم وتعرضت لمغريات السلطة والنفوذ والفساد”

القوة الشرائية للريال الإيراني، كما وصل معدل البطالة وفق الأرقام الرسمية إلى نحو 12%، في حين تتحدث الأرقام غير الرسمية عن ضعف هذه النسبة أي نحو 24%. وبحسب تقديرات مختلفة، هناك نحو 25 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر في إيران. ويزيد الأمور تعقيدًا بالنسبة إلى الوضع الاقتصادي انخفاض أسعار النفط عالميًا، وسهولة ابتزاز إيران من طرف المستوردين بسبب الحصار، واعتمادها على أسواق محددة، فضلًا عن المشكلات الهيكلية في الاقتصاد الإيراني المتعلقة بالتشريعات والنظام البنكي غير الفعال، وغياب البيئة القانونية والسياسية الجاذبة للاستثمارات الخارجية، والتي من شأنها أن تخلق فرص عمل، وكذلك تزايد مستويات الفسادين، المالي والاقتصادي.

يضاف إلى ذلك فقدان المؤسسة الدينية جزءًا كبيرًا من هيبتها وشرعيتها، منذ انخرطت في الحكم وتعرّضت لمغريات السلطة والنفوذ والفساد، وتأثير الإملاء الديني العكسي؛ إذ أصبح المجتمع الإيراني أكثر علمانيةً، مما كان عليه في زمن الشاه.

هجوم على السياسة الخارجية أيضًا

مع سوء الوضع الاقتصادي والانتقادات الموجهة إلى سياسات الحكومة في هذا المجال، تبدو السياسة الخارجية هدفًا للمتظاهرين الذين يستسهلون الربط بين الأوضاع الاقتصادية في البلاد والمغامرات الإيرانية في الخارج، ويرون أن النظام السياسي لا يضع إيران والإيرانيين على رأس أولوياته؛ فالاستمرار في دعم حزب الله ونظام بشار الأسد في لبنان وسورية، وتدخلات إيران الإقليمية ومشاريعها في بناء النفوذ والسيطرة، تزيد من فقر الإيرانيين، وذلك هو محور الشعار الذي أطلقه بعض المحتجين “لا غزة ولا لبنان… حياتي فداء لإيران”. وبغض النظر عن دقة هذا الربط وفوائد المليشيات والدول التي تدعمها إيران، في مقابل التكلفة التي يتطلبها التورط العسكري المباشر، فإن هذا الشعار يؤكد أن الرواية الرسمية إن ما تقوم به من تدخلات في سورية، وأماكن أخرى، يهدف إلى حماية إيران وتأمين مصالحها لم تعد مقبولة من الرأي العام الإيراني، الذي لديه تصورٌ مخالفٌ لما يحاول أن يفرضه النظام السياسي من تفسير لسياسته الخارجية ودوافعها في المنطقة، وهذا في حد ذاته يظهر أن ثمة فجوة كبيرة بين النظام وقطاع واسع من الرأي العام الإيراني.

المواقف الدولية

يبدو أن اللاعبين الدوليين غير متفقين في طريقة تعاطيهم مع الاحتجاجات، ففي وقتٍ تبدو فيه إدارة دونالد ترامب مستعدة لدعم تلك الاحتجاجات، ترى روسيا أنه ليس من المصلحة أن تتطور الأمور في إيران إلى عنفٍ يهدّد الدولة والمجتمع. في المقابل، ومع الانتقادات الأوروبية لرد النظام الإيراني حول سقوط ضحايا بسبب هذه التظاهرات، لا يبدو أن الأوروبيين راغبون في حصول هزّة سياسية كبرى غير محسوبة النتائج. فمنذ الربيع العربي، يسود في أوروبا مزاجٌ معادٍ للتغيير في المنطقة. ومن جهة أخرى، لا يبدو أن للمواقف الغربية التي تبدي حرصًا على الديمقراطية وحقوق الإنسان في إيران أي صدقيةٍ لدى الرأي العام الإيراني الذي يرى أن تلك الدول لا تهتم إلا بمصالحها؛ لهذا سارعت إلى الحصول على جزء من “كعكة” الاستثمارات وعقود البنية التحتية في إيران، عندما تسابقت إلى توقيع الاتفاق النووي، من دون أي شروط متعلقة بحقوق الإنسان والمواطن في إيران، أو في سورية وغيرها.

ماذا بعد؟

مع استمرار التظاهرات المنتقدة للحكومة، وللنظام ولو على مستوى أقل، أخذت الحكومة تنظم تظاهرات مؤيدة في المقابل. إذ تبقى قوة النظام قائمة في اتساع قاعدة مؤسساتها الاجتماعية

“الاحتكام إلى الشارع له مخاطره؛ لأنه يهدد بانقسام سياسي مجتمعي واسع يضع بعض فئات المجتمع في مواجهة فئات أخرى”

وانتشارها من الباسيج إلى شبكة رجال الدين ومؤسسات الدولة البيروقراطية والأمنية والاقتصادية المتداخلة. لكن هذا الاحتكام إلى الشارع له مخاطره؛ لأنه يهدّد بانقسام سياسي مجتمعي واسع، يضع بعض فئات المجتمع في مواجهة فئات أخرى. ومع ذلك، يبدو حتى الآن جليًا أن النظام يسعى إلى احتواء الاحتجاجات، على الرغم من استخدام العنف في قمعها، ويبدو أن عدم تدخل الحرس الثوري لمواجهتها هو محاولة لمنع تصعيدها، مع أن الحرس، على لسان قائده محمد علي جعفري، حذّر من أنه لن يبقى مكتوف الأيدي، إن استمرت التظاهرات.

في هذا السياق، قد تذهب الحكومة، في محاولتها تخفيف الاحتقان، إلى تجميد بعض الإجراءات المتعلقة برفع الدعم عن بعض السلع الأساسية، ورفع أسعار المحروقات، واتخاذ إجراءات أخرى لتهدئة الأوضاع. لكن ذلك كله سيكون مسكّنات آنية لن تحل مشكلات إيران الاقتصادية المتراكمة والبالغة التعقيد.

وعلى صعيد السياسة الخارجية، من المستبعد حصول تغييرات جذرية في سياسات إيران الإقليمية، ومواقفها مما يحدث في المنطقة، لكن كل شيء سوف يعتمد على مدى استمرار وتيرة التظاهرات وتزايدها، وكذلك على مدى حصول مواجهات ووقوع ضحايا نتيجتها، مع ارتفاع وتيرة الانتقادات والتدخلات الإقليمية والدولية.

وعلى الرغم من أن الاحتجاجات لا تشكل حتى الآن تهديدًا جدّيًا للنظام الإيراني، فإنها تؤكد وجود فجوة كبيرة بين تطلعات الإيرانيين (واهتماماتهم) وسياسات حكومتهم المتصلة بقضايا داخلية ذات طبيعة اقتصادية، أو تلك المتعلقة بالسياسة الخارجية وطموحاتها الإقليمية. فالنظام الإيراني، شأن كل الأنظمة الاستبدادية في المنطقة، وصل، بعد أربعة عقود من الحكم، إلى مفترق طريق مهم؛ فإما أن يواكب تطلعات جمهوره في إجراء إصلاحاتٍ حقيقية سياسية واقتصادية تفضي إلى تحول ديمقراطي حقيقي، أو أن يسير على خطى أنظمة الاستبداد العربية ومواجهتها بالقوة والعنف، كما حصل في سورية وليبيا وغيرهما، ومن ثم إدخال البلاد في حالة صراع أهلي، قد تتخذ أيضًا أبعادًا هوياتية، يستعد كثيرون في الإقليم والعالم من الآن لتوفير كل عوامل اشتعاله واستمراره.

إيران دولة قوية ذات مؤسسات، وقد شاخت أيديولوجيتها مثل دول أوروبا الشرقية. وبما أن الدولة تعتمد على استفادة فئاتٍ شعبيةٍ واسعة من مؤسساتها، كما تعتمد على شبكات ولاء مثل الإكليروس وأجهزة الأمن، فمن الصعب أن يكون التغيير من خارج النظام وحده، ولا بد من أن يتفاعل مع الاحتجاج إصلاح من داخل النظام.

 

 

عُمق الحَراك الإيراني/ عصام الجردي

قد يتمكن النظام الايراني من استيعاب أخطر تحرك شعبي يواجه الجمهورية الاسلامية منذ قيامها في 1979. لكنه لن يضمن الاستقرار في بلد من نحو 80 مليوناً قرابة 45% من السكان تراوح أعمارهم بين 15 عاماً و25. لو توسعت هذه الفئة 10% لبلغت نحو 60%. وهي نسبة تفتقر إليها كثير من الدول الصناعية في العالم التي باتت تعاني مجتمعاتها ارتفاع معدل الشيخوخة.

الميزة العمرية للمجتمع الايراني كان يمكن أن تشكل قوة دفع كبيرة لايران، ترفد المؤسسة السياسية بعنصر الشباب وبكفايات علمية تؤهلها كل عقد من الزمن لمواكبة العصر والتنافس على تأسيس قاعدة دعم متينة للنظام السياسي ةالاقتصادي. بيد أن سمة النظام بمرجعية أحادية تقلب الميزات التفاضلية رأساً على عقب. وحولت ايران جمهورية يحكمها رجال الدين مباشرة وليس الدستور الاسلامي فحسب. النموذج غير الموجود في أي دولة من دول العالم.

توصيف التحركات الأخيرة في ايران بأنها اقتصادية ولا علاقة لها بالسياسة تبسيط للأمور وواقع الحال. فالاقتصاد سياسي أساساً في كل دول العالم حين يتصل الأمر بخيارات القرارات الاقتصادية والاجتماعية والمصالح الوطنية العليا. بدءاً من ادارة الموارد الطبيعية وتصميم الموازنات والنظم الضريبية والتأمينات الاجتماعية وتشريعاتها ونماذج التنمية. واللائحة تطول. أما في بلد تهيمن الدولة على موارده ومعظم مؤسساته المالية والمصرفية الصناعية الكبيرة والأساسية، فلا يمكن أن يكون الاقتصاد إلاّ وليد القرار السياسي. وأي حركة احتجاجية ذات طابع اقتصادي واجتماعي هي بمضمون سياسي.

الكتلة الشعبية الكبيرة التي شاركت في الاحتجاجات والشعارات التي أطلقتها كانت تعبيراً عن السخط الاقتصادي- الاجتماعي والسياسي بوضوح. ونسجل لايران أنها أتاحت للمحتجين التعبير عن أنفسهم في أيام التحرك الأولى. وقد صاحب ذلك ترويج الحكومة والرئيس حسن روحاني بالذات بأن التحرك اقتصادي واجتماعي فحسب. وحين تجاوزت التحركات السقف المسموح به لم يعد ثمة مجال للتريث. اتخذ القرار بالمواجهة والقمع.

هنا المشكلة الأساس التي سيواجهها النظام في المستقبل. يطول أو يقصر. لم نحفظ من التاريخ أن نظاماً يخل في معادلة الرغيف والحرية في وقت واحد. هذا يحصل في ايران. لو استحضرنا تجربة الاتحاد السوفياتي الذي كان أهم تحول طبع القرن العشرين، وكان له تأثير على مسار دول وشعوب كثيرة، لذهبنا إلى أبعد من معادلة الرغيف والحرية. إذ رغم كل ما انجزته الثورة البلشفية على كل الصعد لا سيما الاجتماعية والإنسانية منها، وقعت في فخّ الحزب الواحد وتقييد الحريات. وحين سقطت الدولة لم يحمها الشعب. وكان الرغيف موفوراً بالمجان. وكذلك السكن والتعليم من الحضانة إلى مخرجات العلماء. والفنون وكل متطلبات الحياة الاجتماعية. فكيف بكسر معادلة الرغيف والحرية معاً؟

معضلة النظام الايراني أنه ما زال يعتقد في أن مَدد الثورة الذي استمده من التيارات الدينية التي نكّل بها الشاه محمد رضا بهلوي، ما زال إكسيراً للحياة في الألفية الثالثة. حتى الاقتصاد الاسلامي الذي تنهجه ايران موضع سؤال. لا توجد فوائد على إقراض المال في ااسلام. في ايران بلغت الفوائد 30% على قروض المصارف. وهذا الربا بعينه. في كثير من الأنظمة المصرفية الوضعية لا يجوز أن تتجاوز الفوائد أضعاف أصل الدين. النظام المصرفي الاسلامي في ايران هو الوحيد بين الأنظمة المماثلة لا يخضع لقواعد هيئة رقابة الصيرفة الاسلامية.

حين أفلست مجموعة من المصارف الايرانية في حزيران 2017 ورفضت تسليم الودائع لأصحابها قُمع هؤلاء. وهناك مخاوف حالياً من أزمة مصرفية نظامية. كل ادارات المصارف في القطاعين العام والخاص إما مملوكة من الدولة والحرس الثوري أو قريبة منه. النظام المصرفي التقليدي لا يعمل إلاّ من خلال نظام مصرفي دولي يهيمن عليه “الشيطان الأكبر” والإمبريالي أيضاً. لكن النظام المصرفي الاسلامي له قواعده. مصارف ستة تحتفظ بـ20% من السيولة بالعملة الايرانية تعمل من دون ترخيص باعتراف رئيس المصرف المركزي ولي الله سيف. أكثر من ألف مصرف ومؤسسة مالية تقبل ودائع وتسلف وتعمل بلا ترخيص. من يدير القطاع المصرفي إذن؟ ما علاقة ذلك بدونالد ترامب والعقوبات و”الشياطين”؟ أن تنطلق شرارة الاحتجاجات من مشهد فلأن معظم المصارف المفلسة كانت من المدينة. وخسرت عشرات ألاف الأسر أموالها في مشروع شانديز السكني في عمليات احتيال.

مشروع موازنة 2018 (السنة المالية تبدأ في 21 آذار) بقيمة 341 مليار دولار اميركي. عملياً أقل من موازنة 2017. مع تضخم بواقع 12% فهي مخفوضة بالنسبة نفسها. ومثقلة بأعباء تفوق الموازنة السابقة. مع ذلك مستشار خامنئي علي لارجاني يقول إن الجباية قد لا تتجاوز 70% من الايرادات المتوقعة. أين يبقى الحل كي تعبر الموازنة من دون عجز؟ في حفض التضخم إلى صفر. هذا مستحيل وفي سنة واحدة. وفي زيادة الضرائب. وقد حصل ذلك على أسعار معظم المواد الغذائية والوقود والمياه والكهرباء. ونزل الناس إلى الشوارع. بينما تمّ إلغاء معظم الاعانات النقدية للأسر الأكثر فقراً لعدم القدرة على تمييز المعوز من المكتفي.

وبين هذه المنغصّات يقف ملايين العاطلين عن العمل بواقع 12%. بينما قدره وزير الداخلية عبد الرضا رحماني فضلي في تشرين الأول الماضي بأنه وصل إلى 60% في بعض المدن الكبرى. وهناك نحو 900 ألف يد عاملة جديدة في سوق العمل في 2018. ويعترف النائب الأول لرئيس الجمهورية إسحاق جهانغيري لوسائل الإعلام بأن “الاقتصاد الحكومي أحد الأسباب الرئيسية لانتشار الفساد ويجب التصدي للفاسدين”.

اقتصاد مركزي بقبضة سياسية أحادية لا يمكن أن يلقي تبعات سوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية على مجهول. خصوصاً وأن الرأي العام يرى نفقات هائلة على مشاريع جيوسياسية واقليمية لا تشكل بالضرورة مصلحة لايران وحلولاً لمشكلاتها. لا، الحَراك الايراني في عمق السياسة والاقتصاد.

المدن

 

 

أفخاخ لتلافيها عند التماس مع الحدث في إيران/ روجيه عوطة

أفخاخ لتلافيها عند التماس مع الحدث في إيران الأسوأ في تغير الحدث والشروع في إحصاء القتلى

منذ وقوع الحدث، بتظاهراته واحتجاجاته الشارعية، في إيران، تتوالى التعليقات عليه، وأغلبها تأخذ منه موضوعاً، تسرع في تناوله إلى درجة إصابتها بعسر هضمه، وبالتالي، تحويره لكي ينسجم مع حالتها هذه، وذلك، بالإنطلاق من عدة أفخاخ تسقط فيها. وهنا، قليل منها.

التسمية

منذ اللحظة الأولى للحدث، جرى طرح استفهام عما يمكن تسميته، فهل هو ثورة أم إنتفاضة؟ ولكن، هذا الإستفهام لا جدوى منه، لأن الحدث، وإذا كان ثورة، فهو تثوير للثورة، وإذا كان انتفاضة، فهو نفض للإنتفاضة. في النتيجة، لا يمكن إرساؤه على شكل، ذلك، وأي كانت مطابقته معه، سيقع فيه، ويبدل معناه أيضاً. فالحدث، كالبروليتاريا، وبتحريف بسيط لتعريف كارل ماركس لها: بمقدوره أن يكون كل شيء واللا-شيء على حد سواء.

زرع النقص

ومنذ اللحظة الأولى للحدث أيضاً، جرى طرح مسألة غياب القيادة التي ترفع على عاتقها أمر التعبير عن وقوعه في الإيرانيين، وتحققه في طلوعهم إلى الشوارع. تقوم هذه المسألة بزرع النقص في خائضي الحدث، وهذا الزرع ينم عن مخافة منهم، فمن هم؟ هل هم المحافظون؟ العمال؟ الشباب؟ جزء من الطبقة الوسطى؟ آكلو البيض؟ فالقيادة المطلوبة هي فعلياً ليست القيادة التي تتدبر خوضهم للحدث، بل تعيينهم، واختزالهم، والتكلم باسمهم، وهي غالباً ما يحصل التفتيش عنها بين الأسماء الذائعة، حتى تكون مهمتها تسكين المخافة منهم، وفتح السبيل لإمكان الإطاحة بهم. إلا أن الحدث قد يؤدي إلى إحياء قيادة ما، أو إلى تظهير أخرى، لكنه، في الأساس، بلا وجه.

الإكتفاء بالموقفية

من الممكن القول ان إطلاق موقف “مع الحدث” بعد وقوعه هو موقف فارغ، لكن، كل قيمته في أنه على هذا الوضع، بحيث ان سبل الفهم تنطلق من فراغه. ولكن، التجمد في الموقف، وبالتالي، في فراغه، يؤدي إلى استمداد قوة “مع الحدث” من “ضد النظام” حتى تنطوي عليها بالكامل، “انا مع الحدث” تساوي “انا ضد النظام” فقط، مثلما يؤدي إلى اشهار هذه الـ”مع” مرة تلو المرة ما يجعلها هشة وفي حاجة إلى ترسيخ دائم. كل ذلك، لأنها نعم متوقفة على فراغ اطلاقها، وتحاول ضغطه، لتجنب سؤال كيفيتها: مع الحدث، ولكن، كيف؟

سقف التصور

ثمة تصورات تسير الحدث، وتصورات توقفه، وذلك، ليس من خلال النطق بدعاية نظام الملالي ضده، كالترويج السخيف لكونه “مؤامرة صهيو-أميركية”، بل لأنها ترفع فوق خائضيه سقفاً من الأهداف، وما عليهم سوى أن يقفزوا لكي يمسكوا بها، إلا أن هذا السقف سرعان ما يعلو أكثر، ولا يستطيعون بلوغه. على أن أغلب هذه التصورات تنطوي على توقعات منه، وعندما لا يحققها، يشرع أصحابها في الإحباط، أو في نقل موقفهم إلى نقيضه: “مع الحدث، لكن، وعندما وجدت أنه ليس ديمقراطياً مثلما ظننت، صرت ضده”.

الإلحاح على حدث أكبر

على إثر الإسراع في تناوله، يتغير الحدث إلى موضوع إستهلاك، ومن سمات هذا التغير هو الإلحاح، على شكل تمنٍ أو ترقب، على أن يكون ضخماً للغاية. ولهذا الإلحاح فعل معين وهو قياس توسع رقعة طلوع الإيرانيين بعد وقوعه، والإعتقاد بأنها ضئيلة أو كبيرة، قبل التخفيف من قيمة الحدث، أو الإعلاء منها. إلا أن الحدث إياه لا يجري قياسه على هذا النحو، بل بالإستناد إلى مفاجأته ووقعه.

تشغيل العداد الجثثي

لكن، الأسوأ في تغير الحدث إلى موضوع إستهلاك هو إنتظار انقضاض نظام الملالي على الإيرانيين، والشروع في إحصاء القتلى، بحيث كلما ارتفع عددهم، يكون هذا دليل على أن الحدث يحصل على معناه، مثلما يكون دليلاً على ما هو معلوم وبديهي، أي أن ذلك النظام تمويتي وقمعي.

المدن

 

 

 

ثأر التاريخ في إيران/ خالد غزال

قامت الثورة الإسلامية عام 1979 في إيران لتسقط الشاه وتقيم نظاماً جديداً. كانت ثورة عكس التاريخ. تقوم ثورات التغيير من أجل السير بالبلد نحو التقدم، وإلغاء ما يعيق الخطوات الإصلاحية نحو الأفضل. ما حصل في إيران مع هذه الثورة أنها ارتدت قروناً الى الوراء عما حصله البلد من حداثة وتقدم. فأعادت الثورة الإيرانيين الى زمن أهل الكهف، من خلال استحضار منوعات التخلف وفرضها على الشعب. ما يطرح اليوم من شعارات في سياق الحراك الاحتجاجي، يشير الى أن الإيرانيين يريدون الدخول الى العصر والخروج من إسار القيود الصارمة المفروضة عليهم، وهي رغبات تضم معظم أبناء هذا الشعب.

سمة أخرى للثورة الإيرانية أنها لم تكن بقيادة مطلقة للخميني والمؤسسة الدينية التي يقودها. كانت ثورة تعددية شارك فيها حزب «توده» الشيوعي، ومنظمة «مجاهدي خلق»، ومؤسسات دينية وآيات الله ممن لم يكونوا في صف الخميني. وكانت أهدافها صريحة في إقامة نظام ديموقراطي تعددي يكون نقيض حكم الشاه الاستبدادي. كان الخميني من قوى الثورة ولم يكن الأوحد، لكنه سلك منذ الأشهر الأولى مسلك تصفية القوى الأخرى التي لم يكن للثورة أن تنجح من دون مساهمتها. لجأ الخميني، بعد أن استتبت له السلطة الى موجة تصفيات، بدأت بإعدامات جماعية لمحازبي «توده» وأنصاره، ثم انتقل الى «مجاهدي خلق» فنكل بهم. كانت الإعدامات الجماعية لهذه القوى المعارضة تسير بوتيرة متسارعة حتى تأكد أنها لم تعد تشكل قلقاً على الخميني وملاليه. انتقل بعدذاك لتصفية خصومه من آيات الله الذين لا يقولون قوله بولاية الفقيه، أو الذين يخالفونه في طبيعة النظام الذي يبنيه، فاعتمد أسلوب الاغتيالات المتتابعة لرجال دين كانوا يتصفون بنظرة إصلاحية تجاه ما تتطلبه إيران.

أمكن الخميني، بعد حملة التصفيات هذه، أن يقيم نظاماً استبدادياً لعله أسوأ بما لا يقاس من حكم الشاه السيئ والقمعي. أخطر ما في نظام الخميني أنه يتجلبب بأيديولوجية دينية، تنصبه ناطقاً باسم الله وممثله على الأرض، بما يعيد إيران الى أزمان غابرة عرفتها أوروبا في عهد سلطة البابوات، وشهدها التاريخ العربي على يد بعض الخلفاء. هنا أيضاً سارت الثورة عكس التاريخ. لم يكن الخميني وحده ممثل الله على الأرض، بل انسحب اللقب على معظم آيات الله. باتت الفتاوى بالقتل والاغتيالات والتصفية ذات شرعية دينية، لأن أعمال القوى المعارضة تمس الذات الإلهية للملالي. لا بد من الإشارة الى كلام كثير صدر يومذاك من الغرب أن الولايات المتحدة الأميركية كانت داعمة الخميني في عمليات التصفية لمعارضيه الذين كانت ترى فيهم خطراً أكثر من الخميني.

في العودة الى الحراك الاجتماعي الذي اندلع والذي لا يزال مستمراً، فمن الطبيعي أن تتحول شعارات المحتجين الى شعارات سياسية تطالب بالجملة بإسقاط النظام. فالفقر والبطالة والفساد وتحويل الثروات الى خارج البلاد… كلها في صلب السياسة، وكلها تمس النظام السياسي القائم بالصميم، والمسؤول عنها القائمون على الحكم. فاليوم، يثأر التاريخ من أربعة عقود على قيام ثورة انتهت بإفقار الشعب بدل أن ترفع من مستواه، خصوصاً أن إيران بلد شاسع ويملك ثروات ضخمة يمكن لها إذا ما وضعت في خدمة الشعب أن تقدم له حياة لائقة.

هناك تساؤل مشروع مطروح اليوم حول مدى قدرة هذا النظام على القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية تستطيع الطبقة الحاكمة بموجبها وضع حد للحراك. التشكيك كبير، فنموذج الأنظمة الاستبدادية المطلقة يخاف من تقديم إصلاحات، التي ستستدعي إصلاحات غيرها، قد تصل بالنظام الى واقع آخر. في التجربة السورية أكبر الأمثلة. لذا ليس في جعبة الملالي سوى الإحالة الى المؤامرة الخارجية، حيث لا يزال الاتهام سارياً. لكن النظام يريد كبش محرقة في الداخل، فلجأ الى اتهام رئيسه أحمدي نجاد بتحريك الشارع، وهو رئيس لم يكن أقل فساداً وسؤاً من الذين يتهمونه الآن، بل كان شريك الملالي في النهب والقمع.

هل يمكن الحراك أن يحقق أهدافه أو شيئاً منها؟ الجواب مبكر عن ذلك، لكن الحراك يتسع أبعد من المناطق التي انطلق منها، ومن القوى التي قامت به. بدأ الحديث عن تحولات في موقف الطبقات الوسطى التي كانت عماد الحراك عام 2009، نحو الانخراط في الحراك. وإذا ما تصاعد واتسع أكثر، سواء بالقوى المنخرطة فيه، أو بدخول قوميات تعاني الاضطهاد، وبات يهدد النظام، فلا يستبعد حصول انقسامات داخل الطبقة الحاكمة، خوفاً من غرق المركب بالجميع. لا يزال مبكراً الوصول الى هذه التوقعات.

في المقابل، ما هو ثابت أن ما حصل من حراك يصعب بموجبه إعادة الشعب الى سجنه الحديدي، قد يشوب الحراك بعض التقطع أو الانتكاسات، فهذا أمر طبيعي في مثل هذه التحولات. لكن الثابت بل والمتوقع، أن إيران قد تكون مقبلة على مجازر وحمامات دم لن يتوانى الملالي عن سفكها حفاظاً على سلطتهم.

* كاتب لبناني

الحياة

 

 

 

 

بوتين و”بلاشفة” إيران/ بسام مقداد

لم يستفض المسؤلون الروس والمواقع الإعلامية الروسية الرسمية في الحديث عن الحدث الإيراني . واقتصر الأمر على مقاربة الحَراك الإيراني كحدث “يصعب فهم طبيعته” ، تراوحت تسميته بين فوضى وقلاقل واضطرابات تقف وراءها يد الغرب ، الذي يريد “فرض ديموقراطيته على الشعوب” . وذكَر فتوة الكرملين الشيشاني رمضان قاديروف الغرب بديموقراطيته ، التي “أراد زرعها في كلٍ من ليبيا والعراق وسوريا واليمن” . وتمحور السلوك الروسي في مجلس الأمن والمحافل الدولية الأخرى حول “يد الغرب ” هذه ، حيث بدت روسيا مستميتة في الدفاع عن نظام الملالي، الذي تبنت مقولة مرشده الأعلى خامنئي حول وقوف الغرب و”أعداء الشعب الإيراني” وراء احتجاجات الشارع الإيراني ضد هذا النظام .

هذه الصورة ، التي حاولت روسيا الإفادة منها إلى أقصى الحدود في مجابهتها مع الولايات المتحدة والغرب عموماً ، لم تكن هي عينها في الداخل . فلم يكن “الصمت الرسمي” ينطوي على تأييد مطلق لنظام الملالي ، بل كان ينطوي على الخشية من انعكاسات الحدث الإيراني على الداخل الروسي ، وخصوصاً المسلم منه ،  وجرى تبني طرح الرئيس الإيراني حسن روحاني من أن ثمة ، بالفعل، ما يشكو منه الإيرانيون ويجب معالجته . وذهب مستشرق روسي إلى القول ، بأن الشعب الإيراني قد تعب من سيطرة النظام الديني ، ويستحق ما هو أفضل . وقال ، بانه يعتقد بأن الشعب الإيراني أخذ ينفذ صبره ، وأخذت تضعف قدرة رجال الدين على حكم إيران ، وسوف تظهر التطورات اللاحقة قدرة النظام الإيراني على إصلاح نفسه في ظروف الأزمة الراهنة .  وأشار إلى أن تأثير الحدث الإيراني على الوضع الداخلي في روسيا ضعيف ، بسبب ضآلة الوجود الشيعي في روسيا ، لكن الأمور مرتبطة بتطور الإحتجاجات الإيرانية ومدى اتساعها ، عندها “كل المفاجآت ممكنة” .

و في موقع إخباري أوكراني ، يقارن ألكسنر سماليانسكي بين إيران ورافع الأثقال ، الذي يصاب بتمزق العضلات جراء رفع أثقال تفوق قدرته ، ويقول بأن احتجاجات الشارع الإيراني المفاجئة ، هي تمزق عضلات النظام الإيراني بسبب مبالغته في طوحاته التوسعية في المنطقة . ويقول ، بأن هذه الإحتجاجات تذكر ببداية نهاية الإمبراطورية الروسية في العام 1917، حيث اندلعت الثورة بسبب التعب من الحرب الطويلة ، وعشية الإنتصار على ألمانيا ، تماماً ، كما اندلعت الإحتجاجات الإيرانية عشية انتصار نظام الملالي في سوريا . وعلى الرغم من إعلان بوتين نفسه منتصراً في سوريا ، إلا أن المنتصر الحقيقي هناك هم آيات الله ، الذين نجحوا في جعل بوتين يسحب لهم الكستناء من النار السورية ، بواسطة طائراته المقاتلة . ووضع الروس في سوريا يشبه تماماً وضع الأميركيين في العراق ، حيث سحب الإيرانيون السيطرة على العراق من “تحت أنوفهم” .

وعلى العكس من الرأي الشائع ، بأن بوتين سوف يحاول الحؤول دون سقوط نظام الملالي ، يقول الرجل ، بأن الوضع الأفضل ، بالنسبة لبوتين ، هو دفع إيران إلى حالة فوضى دائمة ، قابلة للتحكم بها ، ووضع الدست الإيراني فوق نار خفيفة جداً ، تسمح للإيرانيين بالإحتفاظ بجزء من قواتهم في سوريا ، إنما لا يمكنهم من الإستمرار في الضغط على الأسد لصالحهم . ليس بوسع بوتين ، لا مالياً ولا سياسياً ، الحلول محل “الخراف الإيرانية” المستعدة للذبح ، إذ أن المجتمع الروسي ، على قول الرجل ، ليس أقل رفضاً للمغامرة السورية من المجتمع الإيراني . وأشد ما يخشاه بوتين ، بالفعل ، هو تكرار السيناريو الإيراني في روسيا ، إذ أنه دفع غالياً ثمن قمع احتجاجات العامين 2011 – 2012.

في خضم التعليقات الكثيرة للمعارضين الروس على الحدث الإيراني ، كان يمكن تجاهل هذا المعلق المعارض على صفحات موقع أوكراني ، لو لم يتزامن هذا الكلام مع مقالة في صحيفة الكرملين “vzgliad” شنت فيها هجوماً صاعقاً على الملالي في إيران . وصحيفة الكرملين لا تنطق عن هوى ، وهي ، كما وكالة نوفوستي ، لا تذيل مقالات كتابها بالتذكير ، بأن “آراء الكاتب فد لا تتطابق مع رأي الصحيفة ” .

نقلت الصحيفة، عن مدون فيسبوكي قوله، ساخراً: “آيات الله سوف ينتصرون دون دعم وزارة خارجيتنا”. يقول الرجل بأنه حين يقرأ مختلف الآراء لمواطني دولة “الشيطان الأصغر” حول إيران الصديقة ، وآيات الله الرائعين ، وعرى الروابط الروحية ، التي تشد الشعب الإيراني العظيم إلى سلطاته ، وسياستهم الخارجية الحرة والنزيهة وجهود الجواسيس الأميركيين ( المحكومين بالهزيمة ، على قوله ، ساخراً) في تنظيم ساحة ميدان(إشارة إلى الثورة الأوكرانية) ، حين يقرأ كل ذلك ، لا يستطيع إلا أن يتذكر قصة نشر مراسلات آية الله الخميني مع عدد من الرؤساء الأميركيين ووكالة المخابرات الأميركية في العام 2016 .

يقول الرجل ، بأن الكثير ، مما هو مضحك ، قد تكشف يومها. فما أن بدأت المشاكل عند الشاه ، حتى بادر الخميني ، الذي كان في منفاه في الضاحية الباريسية ، إلى الكتابة إلى الرئيس الأميركي جيمي كارتر يقنعه بموقفه الموالي للأميركيين. وكان ، قبل ذلك ، قد كتب إلى الرئيس كينيدي ، وهو كان لا يزال مقيماً في إيران.

كان لدى الخميني ثلاثة مطالب من الأميركيين: العودة إلى إيران ، الضغط على حكومة بختيار وإجبارها على الإستقالة ، الضغط على الجيش وإجبار الجنرالات على التزام الحياد حيال الإسلاميين . مقابل ذلك التزم الخميني، على قول الرجل ، بعزل الجماعات الماركسية ، وانتقال إيران الهادئ إلى ما بعد الملكية والإعتدال وضبط النفس . وكان للأميركيين حساباتهم ، بالطبع ، حيث كانوا يعتبرون أن الخميني ضعيف ، وسوف يذوب وسط رجال الدين والملالي في مدينة قم، بعد أن يقوم بدور ” الشخصية المتوازنة” بين العسكريين الطموحين والديموقراطيين الثوريين المفترضين  .

يقول الرجل ، إن ما جرى بعد ذلك كان عكس جميع الوعود ، التي قطعها الخميني على نفسه . إلا أن الخميني كان صادقاً جداً حيال الإتحاد السوفياتي، ولقبه ب”الشيطان الأصغر” ، الذي يعمل مع “الشيطان الأكبر”. ويقول الرجل ، بأنه لا يفهم ما الذي يعجب “مواطنينا المحترمين في النظام الإيراني ؟ نحن ونساؤنا وأطفالنا وتقاليدنا وثقافتنا ، وكل ما نملك ، كنا وما زلنا ، وسنبقى عدواً ، بالنسبة لنظام آيات الله” .

المؤرخ الروسي الكبير أندريه زوبوف ، وفي تعليق له على الحدث الإيراني ، توقف عند شعار “الموت لروسيا” ، الذي رفعه المحتجون الإيرانيون ، ورأى ، أن من الطبيعي أن يرفع الإيرانيون هذا الشعار في وجه حليف النظام الديني الكريه ، بالنسبة لهم . ويرى ، أن ما أصاب ثورة الشعب الإيراني العام 1979 ، يشبه كثيراً ما أصاب ثورة الشعب الروسي في شباط/فبراير العام 1917. فقد بقي الشعب الإيراني طيلة عام ونيف يخرج في احتجاجاته إلى الشارع ضد نظام الشاه البغيض وإرهابه ، لكن الملالي ، بزعامة الخميني ، انقضوا على الثورة ، وأقاموا نظاماً دينياً، تخطى بإرهابه وعسفه نظام الشاه . وهذا بالذات ما حصل للشعب الروسي حين تفجر بوجه القيصر السفاح ، دون أن يكون لثورته أية قيادة أو زعامة . وجاء البلاشفة ، بزعامة لينين ، في عربة قطار ألماني ، وانقضوا على الثورة الروسية ، وأقاموا نظاماً ، لم تعرف البشرية مثيلاً له في الإرهاب والقتل والتعذيب ، وليس بوتين سوى سليل هذا النظام ، ولذا وجد في “بلاشفة” طهران حلفاء له .

المدن

 

 

 

إيران: ثورة تحت سقف الجناحين/ محمد قواص

قد لا تعدو الاحتجاجات في إيران كونها سجالاً جوانياً داخل النظام السياسي أخذاً هذه المرة بعداً آخر في شوارع البلاد. والثابت أن الجناح المحافظ أراد تأديب الرئيس حسن روحاني وفريقه فأخرج له من مدينة مشهد أفواجاً خطط لها أن تُعبّر عن سخط من «الروحانية» ومن إخفاقات رئيس الجمهورية في حل أزمات الناس المعيشية ومأزق البلاد الاقتصادي.

ينتمي إثنان من منافسي روحاني على رئاسة البلاد في الانتخابات الأخيرة إلى مشهد: إبراهيم رئيسي ومحمد باقر قاليباف. خرج الناس مدفوعين من قبل خطباء جمعة ينتمون في النهج والعقيدة إلى التيار المتشدد الذي يحصّن ولاية الفقيه ومرشد الثورة. خرج مزاج الجمع عما هو مخطط، فسقط خامنئي في سلة روحاني التي صب المتظاهرون ردحهم في أحشائها. على هذا غضب الحرس الثوري وأفتى بانتهاء «الفتنة»، فيما أظهر الإصلاحيون مقتاً عجيباً لـ «غوغاء» الشارع مشككين بإيرانية المتظاهرين وانتماءاتهم.

لا تُسقط هذه المظاهرات نظام إيران. يبدو البلد متعايشاً مع ظواهر التبرم الفجّة في الميادين، لكن لا قلق حقيقياً ينتاب أولي الأمر حول مصير الحكم ووجوده. لا يملك الغاضبون رعاية سياسية تطوّر ما هو نزق معيشي إلى تحوّل يطاول راهن البلد ومستقبله. لا ينال المحتجون إلا كلمات خجولة متفهّمة يقذف بها روحاني في التفاتة لا تستهدفهم بمقدار ما تطرق أبواب المرشد ومعسكره. وإلى أن يتهامس الحاكمون ويهتدون إلى نقطة توازن عاجلة، فإن ضحيج الشارع يبقى جلبة على هامش مداولات غرف القرار.

لا يخرج الشارع في إيران عن مفردات الجدل الذي بات علنياً بين منابر الحكم. بدا أن المظاهرات خرجت تواكب سجال شخوص السلطة حول الفساد وموازنة الحرس الثوري وهيمنته على المؤسسات الاقتصادية في البلاد. كشف الزلزال الذي ضرب البلاد في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي اهتراءً أصاب مؤسسات الدولة كما عن شيوع تقاليد المحسوبية وتبادل المنافع والتستر على الموبقات المشتركة. أسقط الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد صورة المرشد حين خرج الردح بين الرجلين إلى العامة. فقدت الجمهورية القدرة على تسويق ثورتها والترويج لنظرية حصار المتآمرين من الخارج. كان لافتاً أن الناس في احتجاجهم لم يروا في العقوبات الخارجية سبباً للانهيار. فإفلاس مؤسسات مالية كان يملكها كبار المقربين من الدولة لا يمت بصلة إلى ما يحيكه هذا الخارج على ذاك الداخل. واللافت أيضاً أن في التعليقات التي سردها روحاني أو تلك التي تسرّبت من محيط خامنئي ما يستنتج منه تبادل للتهم حول لبّ المعضلة من دون أن يكون للعقوبات الاقتصادية مكان يمكن بيعه هذه الأيام لدى المجتمع المتبرم.

يحتج الإيرانيون أو بعضهم، وربما الطبقة المعدمة منهم، لكن إيران لا تريد ثورة ولا تريد إطاحة النظام. واللافت أيضاً أن العالم لا يريد ذلك، لا سيما دول الجوار. تبدو تظاهرات إيران مربكة لطهران لكنها مربكة أيضاً لعواصم العالم أجمع. فلا الرياض ولا باريس ولا حتى واشنطن تريد «ربيعاً» مشؤوماً جديداً في المنطقة. ولعل إدراك الحاكم في إيران هذه الحقيقة يجعله أقل توتراً، لا عجالة تدفعه للإفراط في استخدام العنف لإجهاض حراك المدن التي يشيع فيها الحرد.

غير أن إيران تحاول إخفاء خيبتها. لم تعد تستطيع منابر طهران الاحتفاء بـ «أمبراطورية عاصمتها بغداد»، كما لا يستطيع منظرو الجمهورية الإطلالة باستعلاء على «ربيع» العرب الخائب، كما لم يعد بإمكان وزير الخارجية «المعتدل» محمد جواد ظريف إطلاق حبره برشاقة على صفحات الجرائد الأميركية مطلقاً العنان لانتقادات تطاول المنطقة والعالم من شرفة العفاف الإيراني الكبير. وإذا ما كانت حوافز العامة لاقتحام الفضاء العام اقتصادية تشرحها لغة الأرقام، فذلك يعني أن الأرقام وحدها وليست مواعظ المرشد هي التي قد تعيد الغاضبين إلى بيوتهم.

ما زال أمر الخروج من الأزمة الحالية في إيران في يد روحاني. أراد المحافظون الانتقام من تجروئه علناً على انتقادهم وانتقاد «حرسهم» لعل في لغة الشارع ما يفرّغ الشرعية التي محضته بها صناديق الاقتراع. بدا أن حصار التشدد الذي ينفخ به خطاب المرشد، حوّل «الرئيس المعتدل» إلى ناطق يخلو خطابه وخطاب وزير خارجيته من مفردات ذلك الاعتدال. انتخبه الناس لأنه يملك في نهجه ومنطقه من البراغماتية والمرونة ما لا يملكه الآخرون، وإذا ما خرج الناس عليه فذلك أنه بات منتجاً لا يعبر عن تميّز في سوق يعج بأصوات يغيب عنها الاعتدال.

يستطيع روحاني بخبث كبير إعادة تصويب الأداء الرسمي العام في السياسة والاقتصاد. تحدث الناس عن إسقاط الديكتاتور، قد لا يقصدون ذلك والأكيد أنهم لا يمتلكون أدوات ذلك. لكن روحاني يمتلك من الحنكة ما يتيح له الغرفَ بحيوية من متن ما أطلقه المحتجون لفرض رؤى أخرى تقف حائلاً دون غرق المركب بالجميع في العاصفة التالية.

لا تمتلك إيران هوامش أخرى للخروج من محنة هذه الأيام. يظهر للمراقب جلياً أن أجنحة النظام تتكامل ولا تتناكف، على الأقل علناً، في مواجهة لغة الشارع. الإجماع على مسؤولية العامل الخارجي يبدو تمريناً بليداً يتبناه التياران لانعدام الإجماع على واجهة أخرى. ستسعى أجنحة الدولة إلى تجنب التقاتل وإلى التآلف والتعايش مع رد أمني رادع بجرعات مدروسة مع انتظار متوخى لارتخاء يصيب تلك المظاهرات المحرومة من أي ذخيرة سياسية يضفي عليها طابعاً أخلاقياً سامياً. بيد أن إجماع العواصم في الخارج كما إجماع التيارات في الداخل على لملمة العبث وترتيب البيت الإيراني قد يكون لعنة إذا ما بدا أن للشوارع ديناميتها التي لا تخضع لحسابات الحكم وحكمته، ذلك أن الصدفة التي أنتجت لحظة ترامب في واشنطن والبريكزيت في لندن وربيع العرب في الشرق الأوسط وعبث الحاكم في بيونغ يانغ قد يخفي مزاجاً رديئاً لا يتمناه أحد في إيران.

* صحافي وكاتب لبناني

الحياة

 

 

 

انكشاف النظام أبرز إنجاز للانتفاضة الإيرانية/ عبدالوهاب بدرخان

شعوب ومجتمعات عدة في المنطقة العربية تلقّت أنباء الحراك الشعبي في إيران بكثير من الترقّب والقلق والأمل. في الحدّ الأقصى أن يفضي الحراك إلى تغيير النظام ولو بعملية طويلة زمنياً، تغيير مطلوب إنسانياً وأخلاقياً بمقدار ما هو مطلوب سياسياً. وفي الحدّ الأدنى أن يشغل الحراك النظام في الداخل ويؤدّي إلى تغيير في طبيعته وعقليّته وسلوكه، فيدرك خطورة اشتعال النار في بيته ويقلّص تدريجاً من شروره في الخارج. لكن الحقيقة التي تجدّدت هي أن هذا النظام كان نجح أولاً في صنع أدواته الميليشيوية ونجح تالياً في استخدامها لقمع شعوب إيران بالقوة ولإخماد أي صوت معارض، وفي الوقت ذاته كان يستنسخ أدوات مماثلة في بلدان أخرى لتؤدّي الدور القمعي ذاته، بل لتؤسس جيوشاً بموازاة الجيوش وتقيم دولاً داخل الدول.

بعيداً من المعلن الذي نادراً ما يطابق المضمر، وضع الحراك الشعبي أمام العراقيين والسوريين واليمنيين واللبنانيين، الواقعين مباشرة تحت الهيمنة الإيرانية على اختلاف انتماءاتهم، احتمالات وحسابات غير متوقّعة، متخبّطة السلبيات والإيجابيات، لكن بات من الواجب عدم استبعادها. فالتظاهرات الراهنة قد تكون مجرّد إرهاصات، كما كانت قبلها حراكات تسعينات القرن الماضي و «الثورة الخضراء» عام 2009، وقد لا تطول الفترة بين ما يحصل اليوم وما يفترض (منطقيّاً) أن يحصل لاحقاً.

لماذا: «منطقياً»؟ لسببين: أولاً، لأن الإيرانيين يعيشون، كما العراقيون والسوريون واليمنيون واللبنانيون وغيرهم، بانطباع مقيم هو أن هذا النظام مرحلة عابرة لا يمكنها أن تستمر أو تدوم، على رغم أنه قارب بلوغ عقده الرابع، ليس فقط لأن الملالي باشروا عهدهم حكاماً مستبدّين ثم غدوا فاسدين إلى حدّ أن يجهر الشعب بأنهم يأخذون من قوته ليصنعوا لهم أمجاداً في الخارج، بل خصوصاً لأنهم رجال دين يدّعون بأنهم مختلفون عن الأنماط المعروفة من الحكام أو حتى من المستبدّين، عسكريين أو مدنيين في خدمة العسكر، لكن تطبيقهم للدين والدولة والثورة غلّب عليها الإرهاب والترهيب وجرّدها جميعاً من أي أهداف إنسانية سامية. وثانياً، لأن السياسات التخريبية لهذا النظام بلغت أقصاها، في الداخل حيث تستطيع دولة غنية إفقار شعبها وتعجز عن تلبية حاجاته، وفي الخارج حيث تشعل حروباً وتقسم مجتمعات وتساهم في تفكيك دول وتدمير اقتصادات…

هذه السياسات اقتربت من مرحلة الاستحقاقات أو تكاد تبلغها. فمعظم الأزمات الإقليمية التي استثمرت إيران في صنع مآسيها تدنو من نهاياتها، وبعدما صعد الخط البياني لـ «انتصاراتها» إلى ذروته لا بد أن يبدأ الهبوط. لكن «نظام الملالي» موقن بأنه أسّس في البلدان الأربعة التابعة له أوضاعاً تبعد منه كؤوس الهزائم المرّة، ذاك أن ميليشياته جعلت منه متدخّلاً داخلياً ومحليّاً بحكم اعتماده على الرابطة المذهبية. وباستثناء سورية، فإن أي حديث عن «انسحاب إيران» لن يكون واقعياً، لأنه سيعني طلب انسحاب «حزب الله» من لبنان، والحوثيين من اليمن، وميليشيات «الحشد» من العراق. في أحسن الأحوال يمكن السعي إلى نزع سلاحها، ما سيفجّر نزاعات داخلية مؤكّدة، وفي أسوأ الأحوال يمكن العمل على استيعابها ودمجها، ما سيجعل الجيوش وقوى الأمن «الوطنية» مخترقة ومهددة بالانقسام، وبالتالي يقلّل من هيبتها وفاعليتها، تحديداً لأن المدمجين مشكوك في ولائهم ووطنيتهم.

حتى بالنسبة إلى سورية حيث يعامل الإيرانيون النظام على أنه ميليشياهم الخاصة، كان «رحيل الأسد» مطلباً شعبياً يقلق نظام طهران، لكن تقلّبات الحرب أفضت إلى توافق روسي – إيراني على «بقاء الأسد». وعلى رغم تفهّم الموقف الدولي لهذا «التوافق» إلا أنه لم يعنِ في أي حال قبولاً غير مشروط باستمرار الأسد في الحكم، كأن شيئاً لم يكن، وعداً أن بقاءه بات مكلفاً لحلفائه إلا أنه غير محسوم نهائياً. فبعد إفشال مفاوضات جنيف، وقبل الانتفاضة الشعبية الإيرانية، كان نظام الأسد مطمئناً إلى أن الروس والإيرانيين متكفّلون تعطيل أي «حل سياسي» يجتزئ من صلاحياته، كونهم مستفيدين من تفرّده بالسلطة. لكنه تلقّى إنذارات إسرائيلية وأميركية جعلته يخشى تدفيعه ثمن أي مواجهة إقليمية قد يذهب الإيرانيون إليها دفاعاً عن وجودهم في سورية، أي إنهم باتوا عنصر تهديد للمكاسب التي حصّلها بفضلهم. من هنا، إن نظام الأسد قد يكون الأكثر تحسّساً لتأثير تلك الانتفاضة، ومع أنها لم تهدّد حليفه الإيراني إلا أنه يتخوّف من ارتباط أي مواجهة إيرانية – إسرائيلية مستقبلاً بتجدّد الحراك الشعبي على نحو يربك النظام فعلاً. وهذا احتمال وارد.

ثمة حسابات مماثلة، لكن أكثر تعقيداً في العراق حيث انتهى الجانب الأهمّ في الحرب على «داعش» لتتواصل مطاردة فلوله، ولتعود التحديات الهائلة إلى واجهة الاستحقاقات: تثبيت مكانة الدولة، إعادة إعمار المناطق التي دمّرتها الحرب، توطيد الأمن، تفعيل الاقتصاد والخدمات… وكلّ ذلك يتطلّب موازنات غير متوافرة، ويحتاج إذاً إلى مساعدات وقروض قد تتوافر، لكنها تحتاج أيضاً إلى عنصرين أساسيين: استقرار سياسي وإدارة شفافة وحازمة تمنع الفساد من التهام الموارد. لا يقتصر الفساد على فئة واحدة مستفيدة، أما العقبة الرئيسية أمام الاستقرار فهي إيران وميليشياتها، وإنْ لم يعترف أحد بذلك علناً. لا شك في أن نهاية «داعش» عزّزت مكانة الجيش وقوة مكافحة الإرهاب والشرطة الاتحادية ودورها في الدفاع عن الدولة، كما أن أداء رئيس الحكومة حيدر العبادي يحظى بمقدار جيّد من الثقة في الداخل والخارج لكنه غير كافٍ بعد لتمكينه من طرح المبادرات الضرورية واللازمة لفتح صفحة جديدة في البلاد. لذلك، يراقب العراقيون الانتفاضة الإيرانية بمشاعر ملتبسة ومن دون أوهام، فثمة فرص للعراق إذا انشغلت طهران بحالها وخفّت وطأتها عليه. لكن العبادي الراغب في أن يكون رجل دولة، يعرف أن حزبه (الدعوة) ملتزم رغبة إيران في تأجيل قيام دولة مقبولة من الجميع في العراق.

في أي حال تلتقي الميليشيات التابعة لإيران على مواصفات مشتركة أهمها توظيف الدولة والاستفادة منها فابتزازها ثم استعداؤها فتهميشها والاستعلاء عليها وصولاً إلى تطويعها أو تفكيكها لـ «إعادة تأسيسها» وتقريبها، ما أمكنها ذلك، إلى الولاء للمرشد/ الولي الفقيه. فإذا صارت الدولة تحت رحمة الميليشيات، وولاء الميليشيات للمرشد، يرتبط مصيرها بهذا الولاء أياً تكن التعددية في مجتمعها. على ذلك، فقد يبدو نموذج «حزب الله» اللبناني هو الأمثل بمفاهيم إيران للهيمنة والنفوذ والاستحواذ على الدولة، خصوصاً أنه نشأ على مقاومة الاحتلال الإسرائيلي قبل أن يشوّه صورته بالتغوّل على مواطنيه، وقبل أن يفسد سمعته بسفك الدم السوري. إلّا أن النموذج الحوثي يبدو أكثر تجسيداً لنزعة العبث الإيراني، سواء بهمجيته وتهوّره واستهزائه بالمعايير والأعراف أو باستسهاله القتل والنهب، والأهم أنه مضى في التخريب إلى الحد الذي أدهش أسياده. وإذ قدّم هذان النموذجان تضحيات كبيرة ولاءً للمرشد، فلا بدّ أنهما صدما بأن يكون إلغاء ولاية الفقيه من الدستور أحد أبرز مطالب الحراك الشعبي الإيراني.

مضى شباب إيران الغاضبين أبعد من جميع الاعتبارات الخارجية التي افترضها النظام في رواية «المؤامرة» وأخفق في ترويجها، بل أكثر جدية من استغلالات دونالد ترامب وبنيامين نتانياهو حراكهم. ولعل التعبير الأمضى في انطلاقتهم أنهم أسقطوا في زمن قياسي كثيراً من الرموز، فلم يتملّقوا للمرشد ضد الرئيس أو العكس بل تجاوزوهما، ولا راهنوا على دعمٍ من هذا الفريق أو ذاك بل كشفوا منذ اللحظة الأولى توزّع الأدوار والوظائف بين المحافظين والمعتدلين والإصلاحيين وما بينهم من تماهٍ. بالتالي، حتى لو نجح النظام في احتواء هذه الانتفاضة وإخمادها فإنها منذ صرختها الأولى قادته إلى الانكشاف وجهرت بكل شيء. فهذا نظام قد يكون حقق نجاحات في الخارج لكنه يجوّع شعبه، وقد تكون جرائم ميليشياته بنت له نفوذاً لكن قلب إيران وروحها يتهرّآن ويتأكلان، وقد يكون زيّن لنفسه أنه أقام «إمبراطورية»، لكنه حين يصحو من نشوته سيجد أنها مجرّد «إمبراطورية خيالية» تعوّل في استمرارها على «الحوثيين» وأمثالهم.

*كاتب وصحافي لبناني

الحياة

 

 

تظاهرات إيران تنزع أحجبة الملالي/ دلال البزري

لم تخرج تظاهرات إيران أخيراً من المساجد، بعد صلاة الجمعة، ولا أطلقت صيحات التكْبير. ولم تصدر أي فتوى بتحريمها. ربما لأن أصحاب الفتاوي تلمسوا مبكراً مناخها. فالمتظاهرون هاجموا الحسينيات والحوزات العلمية الدينية ومصارف “الحرس الثوري”. وأحرقوا، في أيامهم الأولى، صور شخصيات معصومة… آيات الله، مثل الخميني وعلي خامنئي. وهم أطلقوا الشتائم ضد المرشد: “سيد علي (خامنئي) اخجل من نفسك وارحل”، أو “الموت للديكتاتور”، أو “الموت للمرشد”. بل رفعوا شعارات “امبراطورية” منها “بهلوي بهلوي”، أو “رضا شاه ملك الملوك”. والأرجح أن المُلك البهلوي، في سياق الشعارات الأخرى، لا يعني حباً رجعياً، بقدر ما يعني التطلّع إلى حكمٍ لا يتصف بالدينية. فمن المعروف أن الشاه الأب والابن كانت لهما سياسة لا دينية، فارسية قومية، مع قدر من العداء لمظاهر الدين، كالحجاب والمواكب الدينية العامة… إلى حدّ أن الشاه الأب لُقِّب بـ”أتاتورك” إيران، تشبيهاً بنظيره التركي صاحب الميول العلمانية الأوضح.

على الرغم من القمعين، الأيديولوجي والأمني، خرج المتظاهرون، ليقولوا إنهم، باحتجاجهم على أزمتهم الاقتصادية، غير معنيين بدينية سلطة الملالي، ولا بكفاءتهم الاقتصادية أو التنموية. القدسية والعصمة والجلال أصبحوا لا يطيقونها، ولا هم مقتنعون بها. هذه الهالة بنتها الثورة الإسلامية، وفرضتها بقوة الإيمان والأمن، ثم جاء العصيان ضدها من القاعدة الشعبية التي انبنتْ عليها.

ثمّة جانب آخر لهذا التحول في وجهة النظر. لم يكتف المتظاهرون بالاحتجاج على البطالة والفقر وزيادة الأسعار، إنما حمَّلوا حكامهم جرائم الفساد والمحسوبية المقيمَين في إدارات الدولة. وإدانة واضحة لما تسمّى في إيران سياسة “آغازاده”، أو سياسة “ابن فلان…”

“حمّل المتظاهرون الإيرانيون حكّامهم جرائم الفساد والمحسوبية المقيمَين في إدارات الدولة”

الشهيرة في أوطاننا. الربط بين الفساد وأنشطة الحرس الثوري جاء منذ أشهر، بعد زلزال كرمنشاه، وقد تقاعست السلطات هناك عن القيام بواجباتها الإنقاذية. وكانت صرخات الأهالي المنكوبين تقول “المشكلة في مدينتنا أنها واقعة في إيران، لا في سورية ولا في لبنان”. دع عنك الآن التوسع الخارجي لايران، وانظر إلى الداخل: فساد يضرب في أسس الدولة. فساد معلن ومعترف به رسمياً. حتى الرئيس “المعتدل”، حسن روحاني، وجه اتهاماتٍ إلى مسؤولي المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية الخيرية بنهب الثورة الوطنية، وذلك خلال تقديمه لميزانية الدولة في الشهر الماضي. كأنك في الدولة اللبنانية! مسؤولون يتهمون صراحةً مسؤولين آخرين بالفساد… وإشهار فساد الدولة الإسلامية، والنيل من قداستها، يزيلان هالة إضافية، كان الملالي يبهرون بها المصدّقين: هالة المعصومين من الخطأ والخطيئة. هالة “سلالة الأنبياء”، الصادقين، المتنزِّهين: هؤلاء الذين يتحجّجون بالتفوق الأخلاقي للدولة الإسلامية. والفاسدون يمكن أن يكونوا علمانيين أو إسلاميين. مع الفرق أن العلماني متهم مسبقاً بقلّة الأخلاق، فيما الإسلامي بريء سلفاً: إنه الشريف، العفيف، الأمين، واتهامه بمثابة اتهام للإسلام الذي يحكم به.

هذه الأخلاق جرّستها التظاهرات علناً، وبإصرار. وفضحت معها أسطورةً أخرى من أساطير الإسلام السياسي الشيعي. من كونه، خلافاً للإسلام السياسي السني، موحَّد واحد، بقيادة وعصبية واحدة، أو “هوية” واحدة. التظاهرات رفعت الحجاب عن هذا الوهم. فهي انطلقت بالأساس بتحريضٍ من إبراهيم رئيسي، مرشح خاسر في الرئاسيات الأخيرة، القريب من أحمدي نجاد، بطل أكبر الفضائح بالفساد، بعدما أذاع جزءاً منه رسمياً الرئيس “المعتدل”، حسن روحاني. أي أنها انطلقت بفضل جناح من الأجنحة ضد جناح آخر. ثم بعد ذلك “انحرفت” عن مسارها المرسوم، وتفلّتت من وصاية المحرِّضين عليها، بل انقلبت عليهم بهجومها الصاعق على الرموز الدينية كلها، المعتدلة منها والمتشدّدة. هذه أسطورة ثالثة تُضرب بحجر الواقع السياسي الحيّ، ولا تنتظر الجدالات والتكهنات. الإسلام السياسي لا يوِّحد المسلمين سياسياً؛ شيعة كانوا أم سنّة، داخل السلطة أو خارجها. لأن الهوى السياسي مبنيٌّ على مصالح مادية ملموسة، نسبية، متقلبة، مثل البشر. فيما الهوى الديني ينتمي إلى العالم الآخر، المطلق، الثابت. وإذا دمج المتصارعون الهويَين، المصالح والعقيدة، فلا بد أن تصبح العقيدة في خدمة المصالح، فتخرب العقيدة وتخرب المصالح. وتكون أحجبة النفاق خير سلاح؛ حجاباً فوق آخر، مثل دروعٍ تحمي من الحقيقة. فيكثر الوعاظ، ومعهم الدجالون والأفَّاقون والشطار من المموِّهين.

من هنا أيضاً تأتي الشعارات المعادية لتوسع إيران في بلدان المشرق. من “الموت لحزب الله”، إلى “لا غزة ولا لبنان روحي فدا إيران”، “اهتموا بنا لا بفلسطين”، إلى “اتركوا سورية

“مشاعر سياسية مباشرة ضد توسع دولتهم على حسابهم”

وشأنها، افعلوا شيئاً لأجلنا”. كلها تنضح بمشاعر سياسية مباشرة ضد توسّع دولتهم على حسابهم. ولا يخرج منها أي “تضامن”، ديني أو مذهبي، أو أنتي أمبريالي، تجاه الشيعة العرب المنجرفين في المشروع الإيراني؛ أو أولئك الذين ما زالوا يؤمنون بأن إيران تريد تحرير فلسطين. هم مثلاً لم يطلقوا ولا شعاراً واحداً ضد تدخل بلادهم في العراق. مع أنه التدخل الأقوى، المتسلّل في قلب الدولة العراقية العميقة. والأرجح أن السبب هو تفوق شعورهم القومي على شعورهم الديني. العراق بالنسبة لهم الجار الذي خاض ضد دولتهم أبشع الحروب وأطولها (1980-1988). وقد يكون شعورهم القومي هذا حافزاً على سكوتهم عن هذا التدخل في العراق، وربما الابتهاج بـ”الثأر” التاريخي لبلدهم على عراق صدام، بعد أكثر من عقد على إعدامه.

ثلاث دعائم أساسية لأي حكم إسلامي تعرّضت للاهتزاز بلسان المتظاهرين. ربما يستمرون، ربما توقفهم الحملة الأمنية، أو الوعود والترقيعات، أو اللعب على نقطة “الاستقرار”، وبرقيات دونالد ترامب التويترية، المؤيدة لتحركاتهم. ولكن في كل الأحوال أعرب أولئك المتظاهرون، وهم القاعدة الشعبية لنظام الملالي، عن رفضهم له: نزعوا عنه أحجبة الطهارة، أبرزوا قلّة أخلاق القيمين عليه، وأضاؤوا على أجنحته المتصارعة، وعيّروه بانعدام كفاءته.

التظاهرات الإيرانية لم تخرج من المساجد. قبلها بسنوات، التظاهرات السورية الأولى ضد النظام، خرجت من المساجد. وقتها تذرّع بعض علمانيينا بأنهم لا يؤيدون الثورة على بشار الأسد، لأنها ثورة “دينية”، فيما بشار “علماني”. حسناً، والآن؟ كيف “يقيّمون” تظاهرات إيران؟ التواقة لنقد الرموز الدينية، وشتمها وإحراقها وتمنّي الموت لها؟ هل يؤيدونها، فينفرط بذلك عقد تأييدهم لبشار؟ أم يعارضونها، ويكرّرون ما يبثه الملالي من دروس بشار الأسد، من أن المتظاهرين “إرهابيون”، “مدسوسون”، “مأجورون”.. فيحفظون بذلك صحة “خطهم” السياسي.. متشبّهين بأصحاب العقائد الأخروية؟

العربي الجديد

 

 

 

ما الذي يحرك احتجاجات إيران؟/ حسن حكيميان

من الواضح أن الانتشار السريع للاضطرابات المدنية في البلدات والمدن الإيرانية، والتي بدأت في أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي؛ فاجأت الجميع تقريبا: حكومة الرئيس حسن روحاني الإصلاحية، والعديد من المواطنين والمراقبين.

فبدءا من مشهد -وهي مدينة دينية كبرى تقع في شمال شرق البلاد ومعقل لخصوم روحاني المحافظين- اجتاحت الاحتجاجات عددا من المدن الأصغر حجما، بوتيرة من السرعة والضراوة ما كان ليتوقعها سوى قلة من المراقبين.

وسرعان ما تحولت الاحتجاجات -التي غذاها ارتفاع تكاليف المعيشة واتساع الفوارق الاقتصادية والاجتماعية- إلى رفض النظام ذاته. وفي حين كان قسم كبير من الغضب موجها إلى المؤسسة الدينية بقيادة المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي؛ فإن المخاطر المحيطة بالإصلاحيين لا تقلّ شدة عن تلك التي تحيط بمنافسيهم المتشددين.

لم يعتد الإصلاحيون الإيرانيون أن يكونوا هدفا للإحباط الشعبي، كما هي حالهم الآن. ففي الانتخابات الرئاسية الإيرانية، كان الإصلاحيون السياسيون حريصين على توجيه السخط الشعبي عبر وعود بمستقبل أكثر تبشيرا. ويتعارض هذا الدور التاريخي مع مسؤولية الإصلاحيين الحالية المتمثلة في استعادة القانون والنظام إلى المناطق الحضرية في إيران.

انتُخِب روحاني لولاية ثانية قبل سبعة أشهر فقط، حيث نجح في تأمين أغلبية صريحة بلغت 57% من الأصوات وسط إقبال كبير من الناخبين. ويبدو أن الأحداث الأخيرة تشير إلى أن العديد من الشباب الإيرانيين يشكّون في قدرة روحاني على تحقيق قدر أكبر من الازدهار، وتقديم نسخة من الحكم الإسلامي أكثر اعتدالا من تلك التي يقدمها خصومه المتشددون.

ولعل الخطر الأكبر الذي تفرضه موجة الاضطرابات يتعلق بخطط الإصلاح الاقتصادي التي أقرها روحاني. فقد اندلعت الاحتجاجات رغم عامين من التحسن المتواضع الذي شهده الاقتصاد الإيراني.

ورغم انخفاض أسعار النفط العالمية وتدفقات الاستثمار الأجنبي الهزيلة؛ فإن المؤشرات الاقتصادية كانت تتحرك في الاتجاه الصحيح منذ يناير/كانون الثاني 2016، عندما جرى رفع العديد من العقوبات الدولية في أعقاب الاتفاق النووي عام 2015 الذي قيد البرنامج النووي الإيراني.

وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي في إيران بمعدل سنوي يزيد قليلا على 4%، في ظل مؤشرات مشجعة تفيد بأن النمو في فترة ما بعد العقوبات يتوسع ليشمل القطاعات غير النفطية.

وفي العام المنصرم؛ بلغ مستوى النمو 12.5% وهو ما يرجع في الأساس إلى انتعاش إنتاج النفط والصادرات. وفي حين يظل التضخم مرتفعا عند مستوى 10% تقريبا؛ فإن هذا يمثل تحسنا قويا مقارنة بالارتفاعات المسجلة قبل رفع العقوبات.

وبطبيعة الحال، لا توجد علاقة مباشرة بين المؤشرات الاقتصادية والمشاعر العامة. وفي حين تعزو الحكمة التقليدية الاضطرابات السياسية وعدم الاستقرار إلى الضائقة الاقتصادية، فإن الواقع ليس بهذه البساطة.

ففي الشرق الأوسط مثلا، جاءت كل من الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 وانتفاضات الربيع العربي عام 2011 تالية لطفرات غير مسبوقة في أسعار النفط، مما يعني ضمنا قدرا أعظم من الازدهار في المنطقة.

ومع ذلك، كان التحسن الذي طرأ على الاقتصاد الإيراني في أعقاب الاتفاق النووي عام 2015 أقل كثيرا من التوقعات. ويبدو أن خيبة الأمر الكبرى تمثلت في فشل النمو في إحداث أي أثر على مستويات البطالةالمذهلة في إيران.

فقد بلغ معدل البطالة الإجمالي ما يقارب 13%، في حين كانت معدلات البطالة بين الشباب (29% وفقا للأرقام الرسمية، ولكنها في الأرجح أقرب إلى 40%) بين أعلى المعدلات في العالَم. واليوم، تقبع هذه المظلمة في قلب الإحباط الشعبي، وخاصة بين الشباب الساخطين بالمناطق الحضرية، والذين ساعدوا في إشعال شرارة الجولة الأخيرة من الاضطرابات.

إذ ترتفع البطالة إلى أعلى مستوى بين خريجي الجامعات، وخاصة النساء. ورغم تزايد أعداد النساء الشابات اللاتي يلتحقن بالجامعات في إيران الآن مقارنة بالذكور، فإن معدل مشاركة الإناث في سوق العمل هناك كانت 15% فقط في العام المنصرم، انخفاضا من 20% قبل عشر سنوات.

وسيظل خلق فرص العمل يمثل تحديا أساسيا لحكومة روحاني. ولأن نحو 840 ألف شخص من المتوقع أن يدخلوا سوق العمل العام المقبل وحده، فإن مجرد تثبيت استقرار البطالة في الأمد القريب لن يكون بالمهمة السهلة. ولأن أكثر من 40% من السكان تتراوح أعمارهم بين 15 و34 عاما، فإن إضافة القدر الكافي من الوظائف -في الأمد الأبعد- لن تكون أسهل.

وفي هذا السياق، أدت الاحتجاجات الأخيرة إلى إضعاف الإصلاحيين في إيران عبر التسبب في تآكل احتكارهم للأمل ودق إسفين بين السياسات الحكومية النيوليبرالية، التي كان الهدف منها معالجة المشاكل الاقتصادية في إيران وتعميق الدعم الشعبي.

كما يجازف الإصلاحيون في إيران بخسارة الأرض السياسية لصالح منافسيهم المتشددين، الذين من المتوقع أن يتبنوا نهج القبضة الحديدية في مجال الأمن، على حساب التخفيف التدريجي للقيود الذي اعتمده روحاني.

ولكن لا يخلو الأمر من جانب مشرق يستفيد منه الإصلاحيون؛ ففي حين يتوق عدد كبير من الإيرانيين إلى التمكين الاقتصادي، يخشى عدد أكبر منهم الانزلاق المحتمل إلى الفوضى والارتباك.

وخلافا لما حدث خلال احتجاجات 2009، ومع مراعاة نتائج انتفاضات الربيع العربي المخيبة للآمال عموما؛ فقد مارس المنتمون إلى الطبقة المتوسطة الحذر حتى الآن، وراقبوا المظاهرات بترقب وخشية من مسافة بعيدة. ومن عجيب المفارقات أن عامل الخوف -وليس الأمل في التغيير بين الإيرانيين الساخطين- هو الذي قد ينقذ أجندة روحاني رغم كل شيء.

جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة

2018

 

 

 

 

 

إيران وتعليم الإنكليزيّة لأطفالها/ حازم صاغية

قبل عقود، راجت دعابة في لبنان وسوريّة عن تلميذ «بطل». ما جعله يستحقّ نعت البطولة أنّه، في عهد الانتداب الفرنسيّ، نال صفراً في حصّة اللغة الفرنسيّة. إنّه يكره لغة المستعمِر ويقاطعها.

النكتة، التي جعلها البعض كليشيهاً، عبّرت عن مزاج ما في الوطنيّة: مزاج بدائيّ وبالغ الجلافة.

الناصريّة واليسار أدخلا لاحقاً معانيَ أغنى لـ «الوطنيّة»: التنمية والتبعيّة والاستقلال عن السوق الرأسماليّة. المشكلة في الاقتصاد، لا في اللغة. لكنّ سياسات تأميم التعليم والتجارة الخارجيّة، والحرب على دور الوساطة مع الخارج، أعادت الاعتبار للدعابة– الكليشيه. لقد انتهت بلدان كمصر والعراق وسوريّة، هي الأسبق في التقدّم في العالم العربيّ، فقيرة في اللغات الأجنبيّة وفي الكفاءات التي ترتبط بمعرفتها. مع قدوم العولمة، التي جعلت الإنكليزيّة اللغة الأولى عالميّاً بلا منازع، وأعطت للمعرفة وحرّيّة المخيّلة والابتكار دوراً غير مسبوق في الاقتصاد، انكشفت العيوب التي أسّستها أنظمة التأميم. انكشف حضورها الهزيل في الإنتاج والإنتاجيّة والمنافسة.

في هذه الغضون، وفي روايته «ليرننغ إنغليش»، عامل الروائيّ اللبنانيّ رشيد الضعيف تعلّم الإنكليزيّة، بوصفه أحد المضادّات الحيويّة للغرق في دمويّات الثأر والقتل انتقاماً. هذا، بالطبع، لم يحل دون نظريّات متفذلكة صدّرتها إلينا الجامعات الأميركيّة تقول بطريقتها إنّ الذي ينال صفراً باللغة الأجنبيّة بطل.

هذه العناوين جميعاً أعادها إلى الواجهة، قبل أيّام، السيّد علي خامنئي: لا لتعليم الإنكليزيّة لتلامذة الابتدائيّ. هكذا يُصدّ «الغزو الثقافيّ» وتُعزّز اللغة الفارسيّة. وبعد كلّ حساب، يبقى «التعليم في الصغر كالنقش في الحجر». في الوقت نفسه وباليد الأخرى، كان السيّد الخامنئي يمضي في تعطيل وسائط التواصل الاجتماعيّ، إذ تلامذة الثانويّ وطلّاب الجامعة (الذين اعتُقل الكثيرون منهم مؤخّراً) ينبغي لهم، هم أيضاً، أن لا يعرفوا الكثير. إنّ ما عندنا أكثر من كافٍ.

في الأمر قدر من الدجل لا تستره العنجهيّة القوميّة الفارغة: فإذا كانت الاحتجاجات الأخيرة من طبيعة اقتصاديّة، فإنّ الردّ عليها جاء من طبيعة ثقافيّة، أو بالأحرى تعليميّة. المراهنات على عوائد رفع العقوبات لم تفلح. متطلّبات الرشوة الواسعة لم تتجمّع في اليد. الاستفادة الاقتصاديّة والماليّة من الصلة بالغرب لم تتحقّق. الإيرانيّون غضبوا واحتجّوا في الشارع. سلطتهم منعت تعليم الإنكليزيّة لتلامذة الصفوف الإبتدائيّة وعطّلت التواصل الاجتماعيّ لمن هم أكبر سنّاً.

إنّها ترجمة فجّة وقصوى لتلك النظريّة التي تجمع بين رغبة الاستفادة الحقيقيّة من «التبعيّة» الاقتصاديّة، والصراخ «الثقافيّ» ضدّها وضدّ «غزوها».

النظام، الذي سبق له أن دشّن «ثورة ثقافيّة» تعيسة، يربّي الإيرانيّين على نحو سيّئ ويعدّهم لأن يكونوا من الخاسرين في هذا العالم. بهذا، يعلن فساد أبوّته عليهم بوصفها أبوّة عليا. فهو يؤسّس طقوساً أخرى للبلوغ، مؤلمة وعقابيّة مثل طقوس البلوغ كلّها. وهو يقول، بقراره هذا، إنّ استمراره في وظيفة الأب الأعلى بات مشروطاً ببقاء الأطفال أطفالاً، بل أطفالاً أغبياء. أغلب الظنّ أنّ غضب الطفل الذي يعرف أنّه محكوم بأن يبقى طفلاً يصنع المعجزات.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى