صفحات سوريةماهر الجنيدي

ماذا لو صدق المنجّمون في كذبهم؟/ ماهر الجنيدي

 

 

من عالم لا معقول، أقرب إلى خرافات التنجيم، البعيدة تماماً عن الاستشراف المستقبلي، والمدعوم برؤية علميّة تحليلية، سردت إحدى المقالات قصّة استندت إلى ما قالت إنها مرويّات متوارثة منذ زمن بعيد، تؤمن بها بعض الملل والنحل في بلاد الشام، وتحكي عن طاغية جبّار يتحدر من إحدى تلك الملل، ورث الحكم عن أبيه، وحكَم بلاد الشام بالحديد والنار، وفتك بأهلها بعد أن ثار من تحته العباد وغلت البلاد واضطرمت الوهاد، فتربّع على عرشها متكئاً على جماجم البشر ليبرم الصفقة الكبرى مع طاغية بني إسرائيل، فاستقر له الحال، واطمئنّ به البال، وخضع لسطوته الرجال.

كان يوماً من مطالع الثمانينات المكفهرّة في سورية عندما تسرّبت إلى مدينة حلب بضع نسخ من مجلّة كويتية، كرّست معظم مواد عددها لمجريات ما كان يحدث في سوريّة، ومنها المقالة الخرافيّة المذكورة أعلاه.

كانت تعصف ببلاد الشام حينئذ، إلى جانب الحرب اللبنانية، أكبر أزمة أمنية هزّت حكم الرئيس حافظ الأسد حتى تاريخه، توّجها النظام بضرب «الطليعة المقاتلة» و «الإخوان المسلمين»، وقمع العديد من القوى الديموقراطية، وتفكيك النقابات وما تبقى من منظمات المجتمع المدني، والتنكيل بعدد من المدن.

المدهش في استذكار تلك المقالة أنها حددت لهذه الصفقة الكبرى تاريخاً يوازي العام 2013 أو العام 2014 المنصرم! لكن إذا تركنا عالم التنجيم وعدنا إلى أرض الواقع، لا بدّ من الإقرار بأن البوابة الإسرائيلية ما زالت الملاذ الأخير للنظام السوري، باباً خلفياً مفتوحاً أمامه، لم تغلقه المعارضة السورية، ولم تقاربه، باعتباره باباً مرصوداً بكثير من الهواجس والتوجّسات، والمطبّات والمنزلقات.

كذب المنجّمون ولو صدقوا، لكنّ وليد المعلم، في مؤتمره الصحافي بتاريخ 27 آب (أغسطس) 2014 حين قال: «أنا أعرف أن أي شيء يتحرك في هذه المنطقة يجب أن يخدم مصالح إسرائـيل»، إنّما كان يــقرّ بمبدأ اعـتمده النظام، وقـواعـد لعبـةٍ عمل بمقـتـضاها، منذ انطلاقة الثورة السوريّــة بأقل تقدير، سواء في إنــهاك الجيــش العربي السوري، واستنــزاف مــوارده البـــشرية والتعبويّة، أو في ضرب البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد، أو في تمهيد الأرضية لتقسيم سوريّة لاحقاً.

وزير الخارجية العتيد الذي كان يتحدث قبيل أيام من موعد الضربة التأديبية التي لم تحدث، كان يعي قواعد لعبة النظام هذه التي لم يحد عنها خلال مجريات الثورة السورية، وهي عدم المساس بـ «خدمة مصالح إسرائيل». بل إن العديد من وجوه النظام عبّروا عن هذا المبدأ، وذكّروا به بصيغ عدة، كان أوّلها تصريحٌ نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» في 15 أيار (مايو) 2011، قال فيه رامي مخلوف: «لن يكون هناك استقرار في إسرائيل إذا لم يكن هناك استقرار في سورية»، محذراً من مواقف بعض الدول وشاجباً تعاطف الرأي العام مع المتظاهرين السوريين الذين كان ينهمر عليهم الرصاص الحي حين يهتفون للشعب السوري الواحد وللشعب الذي لا يذل.

ربما يكون النظام محقاً في ركونه إلى أن البوابة الإسرائيلية ما زالت مشرعة أمامه كمنفذ أخير، وإلا فكيف يمكن فهم السكوت الإسرائيلي عن تمثيلية ذكرى النكبة الثالثة والستين (التي تصادفت مع تصريح مخلوف)، حين دفع النظام وحلفاؤه بعض الشبان إلى الجولان، ليعبروا إلى الأراضي المحتلة، في مغامرة راح ضحيتها بعضهم، ووصل اثنان منهم إلى يافا؟ وكيف يمكن فهم تغاضي إسرائيل لثلاث سنوات عن حركة مدرعات النظام وتنقّلات دباباته وأسلحته وقواته في المناطق المنزوعة السلاح وفق اتفاقات فصل القوات؟ أما إذا أشار قائل إلى الغارات الإسرائيلية وإلى ضربات قاسيون واللاذقية المؤلمة وغيرها، فهي بمثابة العلامات التي تؤكد حدود القاعدة المرسومة للنظام.

من عالم اللامعقول ذاته، تنبثق المفاجآت وتشرع الأسئلة.

مضى وقت طويل جداً منذ اغتيل رابين في تشرين الثاني (نوفمبر) 1995. وفات العام الماضي الموعدُ الذي ضربته المجلّة لنا. ومنذ ذلك الأوان شاهدنا التعرّي الكيماوي في أيلول (سبتمبر) 2013، والتخندق الواحد مع الناتو وفق ما عبّرت عنه «الوطن» في أيلول 2014، واستكمال ضرب مخيّمات الفلسطينيين وتشريدهم وتجويعهم في معظم أرجاء سورية، وإعلان الخلافة، وبقاء الدولة الإسلامية وتمدّدها، لتنبثق في الذهن أسئلة سوريالية شتّى تبدو بريئة وساذجة حين نضيفها إلى خلفيّة المشهد العجائبي «الخرافيّ» الدمويّ الحالي: تُرى هل إن «وديعة رابين» هي إحدى الترسانات التي يعتمد عليها النظام في أدائه المنفلت من أي عقال وطنيّ؟ تلك الوديعة التي فضّل الأسد الأب أواخر أيّامه، في لقاء جنيف الوداعي مع بيل كلينتون في 26/3/2000، أن يتركها ميراثاً لابنه عسى يغدو معها «الطبيبَ بطل السلام» كما كان هو «الفريق الطيّار بطل الحرب»، معللاً رفضه المضي بها بحجّة أنه يريد أن يغسل قدميه في مياه طبريا؟ هل تقبل إسرائيل الوديعة، مع سوريّة أخرى، سورية ضعيفة منهكة مدمّرة، غير التي كان يأخذها رابين في حسابه، خصوصاً أنها تتعهد بإعادة الأراضي المحتلة إلى حدود ما قبل الخامس من حزيران (يونيو) 1967؟ أم هل يضحي النظام بالوديعة، ويردمها، ويتعرّى منها أيضاً، كسباً للحظة ما في المجتمع الدولي؟

أم أن داعش جاء ليثبت أن المنجّمين ما فتئوا يكذبون، حتى لو صدقوا؟!

* كاتب سوري

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى