صفحات الثقافة

ماذا يريد المثقف من السلطة بعد الثورات العربية؟

 

استطلاع : محمد القذافي مسعود

أسئلة كثيرة تدور في ذهن من يتابع وعبر وسائل الاعلام حول المثقف وما يحلم به هذا المثقف المسحوق في السابق المهمش في أماكن عدة ومواقع مختلفة تم وضعه فيها ليكون مجرد صورة تزين الواجهة السياسية وبانوراما لديمقراطية مزيفة خلفها تحاك الدسائس ضد مصالح الشعوب ومستقبلها وهو عاجز امام كل ما يحدث باسمه وبأمر من السلطة التي جرته للصمت المطبق على قلبه وشفاهه حتى صار أثرا من التاريخ المنتهي فهل يعود المثقف لدوره الطليعي اليوم بعد تحرر أراض كبيرة ودول لها كبير الأثر في قيادة الأمة العربية والإسلامية من حكم الطغاة الجبابرة نطوف بالسؤال بين المثقفين العرب ونسجل اجاباتهم ورؤاهم:

عائشة ادريس المغربي / شاعرة ليبية

لا يمكن ان تكون الاجابة ممكنة على هذا الطرح لان المثقف لا ينشد إلا الحرية التي ستكون السلطة بشكل او بآخر تقف ضدها او تؤطرها وسيظل صوت المثقف منغصا عليها وهكذا هس العلاقة الحقيقية بين السلطة والمثقف لكن السلطة التس جاءت بعد الثورات العربية من المفروض ان تكون سلطة مغايرة سلطة تنفيذية لإرادة الشارع ولتحقيق حلم الانسان في دولة مدنية دولة القانون والمواطنة فهي لن تمنحه كسلطة الاحساس بالخوف او تعيد تهجينه وعرقلته وتصادر حريته في التعبير وهي كذلك لن تجبره بوسائلها القمعية القديمة ان يصبح بوقا لها او ان يسير في ركابها سيكون المثقف هو من يرسم اشارات مضيئة ويدق ناقوس الخطر هذا ما يحلم به المثقف الحقيقي من سلطات بعد الثورات العربية ان يصبح هناك حرية للعقل والفكر ولا يقف الشرطي كالفواصل بين الجمل ولا يحاكم الفكر مهما كانت الظروف والأسباب بعدها سيكون هناك ابداع حقيقي وفكر حقيقي لكن حتى الان فان السلطة بعد الثورات العربية مازالت تستعير رداء جلادها الذي انتصرت عليه لكنها لبست جلده دون ان تدري ما دامت هناك وصاية على الفكر والإبداع وما دامت لم توضع دساتير تحترم حرية الفكر والتعبير.

سنوسي اسماعيل / بكالوريوس علوم سياسية / ليبيا

والله يا أخي محمد لو كنت أنا محسوبا على فئة المثقفين الأفاضل ولا اظن ذلك ولكن لو كنت كذلك فأتمنى من الحكومة أو السلطة أن تدعم الثقافة بكل كرم وقوة وأن تحمي المثقف بكافة وسائل الحماية من الفقر ومن الخوف ومن كل ما يشغله عن الإبداع …. وأن تشرف الحكومة مباشرة على إيصال الوسائل الثقافية لجميع المواطنين الوسائل الورقية والإلكترونية وأن تؤسس لمهرجانات ثقافية كبيرة وترصد جوائز قيمة للإبداعات الثقافية في الشعر والرواية والفنون التشكيلية والمسارح الهادفة التي ترقى بالفكر وكذا الأفلام وكافة المنتجات الفكرية

نتائج ما ذكرته سابقا ستكون باهرة وستدفع بالمستوى الحضاري وستهذب سلوك أفراد المجتمع كافة وستجعلنا إلى الرقي العلمي والفكري أقرب وأعلى درجة.

سعدي الرحال / فنان تشكيلي من العراق

ما ينبغي للسلطة بعد الثورة ان تمنحه للمثقف العربي هو المصداقية في وضع الحلول التي ينبغي تشخيصها لتصحيح المسارات الخاطئة من النظم السابقة .. في تجربتنا العراقيه مثلا اتيحت حرية التعبير عن الرأي وتمخضت الصحف (مثلا) عن مئات الصحف كنتيجة للتوجه الديمقراطي بعد التغيير .. مما جعل المثقف العراقي يدلو بدلوه بكل حرية .. وأصبح صوت المثقف يصل بشكل وبآخر الى مسامع المسؤولين .. لكن ما الفائدة اذا كان هذا الصوت لم يفعل ولا يؤخذ بنظر الاعتبار .. انا ارى انه لا جدوى اذن من متسع الحرية في التعبير مقابل عدم الاصغاء لمطالب المثقف ؟.. هذه معضلة كارثية سيكتشفها اغلب مثقفي الثورات العربية بعد التغيير .. لذلك لابد من وجود مصداقية يبديها السياسي (السلطة على وجه التحديد) مع مطالب المثقف التي هي مطالب شعبية ولسان حال الشارع والمواطن الذي يتطلع ان يرى تغييرا على الارض لا وعودا فارغة ..

باسم سليمان / كاتب من سورية

لا اعتقد أنّ صوت المثقف سيُسمع لأن العقلية لم تتغير وكما بدأت الأنظمة التي يُثار عليها بشعارات برّاقة كذلك الثورات العربية فالمكتوب عنوانه أوضح من التشكيك فيه وعليه فبعد استخدام المثقف كوسيلة مبررة للغاية السياسة وهي الوصول للحكم سيتم إبعاده ولكن بطريقة ناعمة بحيث يتم نزعه من النضال الإيجابي والسلبي وتحويله لظاهرة صوتية أشبه بقرقعة الأمعاء فالمقدسات الثلاث زادت سطوتها وعلى اعتبار أن المقدس السياسي قد تم خرقه من قبل الثورات فاكتساح المد الديني للسلطة عن طريق الديمقراطية يعارض جوهره القائم على الميتافيزيقية وبالتالي رفد مرتكزات سلطته على غيب لا يمكن مناقشته وبدلاً من صراع المثقف مع وضعيات سياسية أرضية سيتصارع مع وضعية سياسية غيبية لا يأتيها الباطل من أي جهة وللناظر المدقق سيرى إرهاصات الديكتاتوريات الجديدة المتشكلة.

فالمشكلة لدى المثقف ليست بأنظمة الحكم حالياً بل بالعقلية والفكر الذي يسود ويحكم بالمنطقة ولكي نتكلم عن ما يريده المثقف يجب أن تعم الثورة التابوهات جميعها وهذا لن يحدث ولم يحدث وبالتالي يصبح السؤال أقل من نافل.

ما حدث هو ثورة للمعدة الجائعة للشعوب وتم رمي عظمة الحرية والديمقراطية والكرامة لها لتتسلى بمضغها بينما الأنساق السابقة والناشئة من رحمها تلبس ثياب الحداثة ذات الماركة الأجنبية ولكن الجلد والقلب والعقل لم يتغيروا مازالوا كما هم وثورة تقصي القيام على المقدس الديني والجنسي وتكتفي بالسياسي هي انقلاب وليس ثورة وما أراه انقلابات هوليوودية ولكن كان يجب أن تحدث.

منال فاروق / كاتبة وباحثة من مصر

ثماني كلمات وعلامة ترقيم !! جملة استفهامية لا تحمل اكثر من سؤال سيوجه إلى كل مثقف!! لتظل هذه الكلمات صوتا يسمع في اذن كل شخص منا، ليمارس الصوت فعل رجع صدى…

!

إذا قمنا بحذف كلمة العربية وبقي السؤال بهذا الصيغة، ماذا يريد المثقف من السلطة بعد الثورة على السلطة ؟ اليس فى هذا عموميه وسؤال ربما يكون اكثر تحديدا ؟!

بداية نفكك السؤال إلى مجموعة اسئلة : ماذا يريد المثقف؟ من هو المثقف؟ بماذا يحلم ؟ ماذا يريد الإنسان؟ هل ما حدث في الوطن العربي ثورة ؟ وقبلا ما هي الثوره؟ ما السلطه؟ ولماذا الثورة فى هذا المنعطف التاريخي؟

الاسئلة كثيرة، والكلمات الثماني بعلامة الترقيم الاستفهام تطرح من الأسئلة أكثر مما نتخيل في ثنايا هذه الجملة البسيطة التي هي عبارة عن سؤال مواجه فى حوار إلى مثقفي الوطن التي حدثت فيها ثورات على سلطة غاشمة !! ولا يزال الطريق ممتدا لثورات اخرى.

أولا : نقف امام السؤال الجوهري ماذا يريد المثقف؟

يحلم المثقف بعالم سعيد- لا تحلموا بعالم سعيد فخلف كل قيصر يموت يولد قيصر جديد- ولكن وقبل ان نتحدث عن حلم المثقف من هو اصلا هذا الذي يطلق عليه هذا اللقب الفضفاض والخطير والمهم!

كثيرون من كتابنا تحدثوا عن المثقف وفرقوا بين المثقف الخامل والمثقف العضوي، بل بعضهم كما ادوارد سعيد طرح ازمة المثقف والسلطة. ليطرح علي حرب في كتابة نفس المشكله ولكن بعنوان ساخر يحمل الكثير من المسكوت عنه ‘اوهام النخبة / نقد المثقف’ لنظل ندور في هذه الحلقة المفرغة.. المثقف /المثقفين، النخبة النخبجية، العالم ببواطن الامور المطلع على كل جديد!

والسؤال هل لدى الوطن العربي مثقف عضوي او مثقف مطلع على بواطن الامور!! وبواطن الامور هنا هو فهمه لطبيعة مجتمعه وما يحدث فيه من تغيرات، مثقف ملتحم بالشارع بشكل حقيقي ولا يدور في فلك الهامشي من مشاكل الشارع.

سؤال اعتقد انه اشبع طرحا ونقاشا فى كل وقت وحين، ولا يزل وسيستمر طالما لم نعي شيئا واحدا وهو ان لكل طبقة مثقفيها، وكل فئة اجتماعية نخبتها الخاصة.. ولم تعد هناك فكرة المثقف العضوي التي رسختها الاقلام والافلام بأنه الشاعر.. شاعر القبيلة، او الشاعر المنكفئ على ذاته، او الكاتب الذي يدبج الصفحات في شرح وتحليل الأوضاع وليس هو المتحدث في الفضائيات التي اصبحت تطاردنا في كل مكان وزمان.

من هنا وطبقا لاتساع مفهوم المثقف باتساع طبقات المجتمع يصبح السؤال بماذا يحلم (يريد) الإنسان

ماذا يريد الانسان؟

يقول شاعر العامية المصري بيرم التونسي

قال ايه مراد ابن ادم؟

قولت له: شقه.

قال ايه يكفى ابن ادم؟

قولت له: طقه

قال ايه يعجل بموته؟

قولت له : زقه

قال حد فيها مخلد؟

قولت له لا !!

حلم الإنسان في كل مكان وزمان لا يخرج عن هذا الإطار وأن تطور وتعدل بفعل تطور التقنيات وتقدم نظم الحياة.. فى النهاية لن تخرج احلام الإنسان عن هذه الاحلام الرئيسية والتي سيتبعها تلقائيا حياة كريمه أمان من المرض والجهل والفقر تعليم محترم ووظيفة محترمة وإجازة وويك اند فى مكان راق.

السؤال الذي يطرح ذاته ويلح فى طرح نفسه هل يتمتع فرد فى العالم بهذا المميزات؟؟ وان تمتع بها فماذا يطلب بعد هذا ؟؟ ولماذا في دول الرفاه الاوربية كافة هناك مظاهرات عجيبة تطالب بمطلب واحد العدالة الاجتماعية، الحرية، العيش !!

ليست الحياة اذن مأكلا أو مشربا ولكنها أكبر من هذه الدائرة التي نظن أن الحياة تقف عندها، إن ما يريده الإنسان كبير.. وهو نتاج اختياره، اذن فماذا يختار المثقف ؟ ماذا يختار الإنسان وكيف يختار؟ وهل سيتحمل نتيجة اختياره حقا ام سيتذمر من كل تحرك؟!

اختار الإنسان الحرية.. الحرية بكل تفاصيلها وبكل ما تحمل من معاني.. لكن هل تحمل الإنسان هذه الاختيار وامن به ؟

السؤال هنا اعتقد انه عبثي لان كثيرين من مثقفينا أو لنقل من اختاروا القلم دربا لهم- لأننا اتفقنا ان كل طبقة اجتماعية لها مثقفوها-يمارسون الحرية من منظورهم لا من منظور أكبر منظور الإنسانية الحرية لديهم مقيده بشروط اهمها أنك لا بد أن تكون :

1 ـ صاحب ايديولوجيا واتجاه سياسي،

2 ـ أن تتعصب وتتحزب لقلم صديقك ولا تنقده،

3 ـ أن تكون ذا مصطلحات وطرق في الكلام غريبة لتكون صاحب قلم!! … إلخ

نحن إذا أمام دائرة من اللا شيء لا تبدأ ولا تنتهى، خاصة فى اوطاننا العربية التي تستورد المصطلحات والمعارف بلا وعي، وتطبق ما هو نابع من بيئة مختلفة على بيئة اكثر اختلافا.

لنعد إلى مربط الفرس كما يقولون السؤال الأساسي والذي يدور عن ماذا يريد المثقف من الثورات؟!!

بداية الثورة فعل رفض لما هو قائم بالفعل، حيث تقضي على ما ترى انه فساد لتنشئ وضعا تراه هو الأنسب ومع متابعة الوضع الإفريقي العربي، نجد ان تونس / مصر/ ليبيا من دول الثقل فى المنطقه

ومع حجم الفساد المستشري كان حجم الثورة.

قامت الثورة.. أو لنقل بروفا ثورة لان الانتهاء من تحجيم الفساد ونفيه امامها الكثير، وخاصة مع تغلغل الفساد في مفاصل وعظم الدوله من القاع إلى القمة والعكس بالعكس.

هذا الفساد الذي سيطر على الثقافة بكل منتجاتها المسموعة والمرئية والمقروءة، وطرح من الغث الكثير، مما سمم الأرض من هنا كان الرهان على فعل سريع ضرب من العبثيه التي لا تعي وضع المجتمعات التي نعيش فيها.

وهنا فما يحتاجه المثقف بعد الثورات والربيع العربي كما يطلقون عليه، الكثير على المستوي الشخصي والمستوى العام.

فعلى المستوى الشخصي نحن نحتاج الى:

1 ـ المثقف العضوي الفاعل الذي يؤمن بالمجموعة في اطار فردية لا تطغى ولا تدمر الاخر.

2 ـ نحتاج إلى ايمان المثقف بقدرة الشعوب على التغيير وانك ايها المثقف جزء من هذه المنظومة المجتمعية التي يجب أن تساهم في تطويرها بلا عبث انوي.

3 ـ نحتاج إلى المثقف ذي النظرة المتكاملة والمحللة لما حولها.

وهناك الكثير الذي نحتاجه ومنها ان نعلي من قيمة الانسان اولا وأخيرا

اما على المستوى العام فالهم واحد على المستويين الدولي والعربي.. لهذا فالمطلوب هو ان تعلو قيمة الانسان اولا واخيرا.

صالح جبار محمد / قاص من العراق

لا يخفى على احد ان الثورات العربية احدثت هزة عميقة في المجتمعات العربية وولدت ارهاصات غير محسوبة . فكان على المثقف العربي ان يواكب ما حصل وبطبيعة الثورات افرزت نمطا معينا من الاحتساب الثقافي. ما بين المحسوبين على السلطة السابقة والتي تلتها .. انه معيار اوجد تطلعات للمثقف لنسميه المتواري في الخوض في تفاصيل لم تتح لغيره. وأصبحت مساح الحرية واسعة وفضفاضة لايمكن التحكم بها بيسر. لان الارض ما زالت رخوة تحت اقدام التغيير الذي حصل. لان التطبع على الاذعان امتد لعقود. لايمكن انحساره لمجرد حدوث هبة ادت الى الثورة. انه التغيير الذي يفرض اشكاله ومتغيراته بحسابات متشنجة ومتشظية وأحيانا غير متوازنة. كل هذا الغير متجانس فرض رؤى لم تتواءم احيانا مع الثورات العربية وتمدد قوى سياسية على حساب ثوابت وطنية كثيرة وبروز ما يصطلح عليه الاقليات وحضورها الفاعل لتحقيق اهدافها المعلنة وغير المعلنة في ما يسمى حق تقرير المصير او انشاء فدراليات ليصبح تفتيت النسيج الوطني سمة بارزة في ما بعد الثورات العربية. هنا يبرز دور المثقف . ويطرح السؤال الاتي: ايهما الاجدر في القيادة السياسي ام المثقف؟ وهذا السؤال الاجابة عنه ليست بالهينة لافتراضاته المتعددة وإمكانية السياسي في البعد الاخر هو السلطة . وهذا يعني القوة . اذا ما يطلبه المثقف العربي هو ان يأخذ دوره الحقيقي في التعبير عن حرية الكلمة والتخطيط لمستقبل واعد.

تهاني دربي / كاتبة ليبية

كلنا يعرف ان حكومات الاستبداد السابقة كانت لا تعير كبير اهتمام بالثقافة وغالبا ما يصرف على الثقافة هو اقل ميزانية في اي دولة عربية..اتمنى ان يتدارك القادمون هذا التقصير ويلتفتوا لبناء الإنسان أولا..فبلد كليبيا مثلا جردت تقريبا من كل مقوماتها الثقافية فلا مكتبات حديثة ولا مسارح ولا سينما واروقة..لذا نحتاج لبنية تحتية بالكامل لقطاع الثقافة…

عبدالله عيسى / شاعر وكاتب من فلسطين

ربما ستظل علاقة المثقف بالسلطة، دينية أم سياسية وما بينهما، من أعتى إشكاليات الوعي والوجود العربي على حد سواء. وهي لا شك ّ تكثّف في ذاتها متن َ العلاقة بين الثابت والمتحول، أو المعتم والمضي ء عبر، وفي، تاريخنا كلّه، طالما قدمّت الثقافة، شفوية منقولة كانت شعراً وسيراً وبلاغة ً، أم مقروءة معقولة (من العقل: فكر يدعو للتفكّر)، بتجلياتها غرضاً أو رسالة ً في أحسن حالاتها، لا إعادة صياغة أوفعل خلق لتفاعلات الإنسان والعالم. حتّى أن القرآن الكريم، بوصفه أول كتاب يقدّم علاقة جديدة للإنسان والعالم عبر كسر الصورة القديمة لهما، رُبط إعجازه، وهو الكتاب الإلهي المقدّس، بالشعر الجاهلي، وبالمعلقات تحديدا ً، ما أضفى على الشعر الجاهلي هذا قدسية تصل به، لغة وغرضاً، إلى حد ّ الكمال المطلق. وفي هذا تلتقي السلطة القبلية الجاهلية التي قدسّت المعلقات بوضعها على جدران الكعبة، مع السلطة التقليدية الإسلامية بزيادة تقديسها بأن قارنت إعجاز القرآن بلغتها. أليس هذا أشبه بالخطيئة التاريخية التي اقترفها العرب بإثبات إعجاز القرآن الكريم بمقارنته أو مقاربته بالشعر الجاهلي؟. فطالما لغة القرآن الكريم ككتاب يقدم رؤيا جديدة للانسان والعالم إلهية مقدسة، وجاءت تحدياً لحساسية التعبير الجاهلي القائمة على الخطابة، فإن مقارنة زمنه الالهي المتحرك المطلق بالزمن الشعري الجاهلي البشري الثابت تقديس للشعر الجاهلي: فالكتابة في النص القرآني خلق، فيما الخطابة الشعرية الجاهلية محاكاة لما هو مخلوق. وإلا فما سر ّ اعتصام السلطة الدينية، ممثلة بالأزهر مثلاً منتصف عشرينات القرن الماضي، بالشعر الجاهلي هذا، والدعوة لمحاكمة طه حسين وتكفيره طالما قدّم في كتابه ‘في الشعر الجاهلي’ أن هذا الشعر متحوّل وأنه كتب بعد الإسلام ونسب للفترة الجاهلية، في حين لم تقم الدنيا وتقعد على عباس محمود العقاد الذي اعتبر أن العروض الشعر الجاهلي صنيعة إسلامية؟ تأسيساً نقول: لأن الأول مسّ جوهر قدسية اللغة والغرض، فيما الثاني لامس ما نسميه، وفق المصطلح المعاصر، الموسيقا الشعرية، طالما وضع الفراهيدي ما أسماه العرب علم العروض في القرن الثامن الميلادي .

والمدهش أن السلطة العربية القومية التي وسمت نفسها بالعلمانية أصلّت وجودها على تكريس هذا النموذج القديم، كونه يشكل أحد أعمدة بقائها. فالغرض من الشعر نفسه الذي كان يتوقف على مديح زعيم القبيلة الجاهلية أو القبيلة ذاتها، مثالاً لا حصراً، أصبح في الإسلام مديح النبي أو الخليفة، ثم الرئيس ..الخ. وكذا الهجاء: من هجاء القبيلة الأخرى العدوة إلى هجاء الكفار …إلى هجاء المحتل والعدو الإسرائيلي ..الخ. أستدرج الشعر هنا، مثالاً، كونه كان أهم تجليات الثقافة العربية، لكن الأمر ينطبق على الفكر والنثر العربي أيضا. وفي مقاربة محاكمة الحلاج في القرن العاشر أيام الخليفة المقتدر بمحاكمة نصر حامد أبي زيد في القرن العشرين أيام مبارك، مثالاُ لا حصراً أيضاً، ما يشي بأن السلطة العربية، دينية أم قومية علمانية، تتحالف بالإبقاء على النموذج التقليدي الثابت لتكريس سلطتها باعتقال ومحو ونفي وصلب وسحل أصحاب الفكر والفعل التقافي المتجدد والمتحوّل، أمر يبرر إعدامات الفلاسفة (الحلاج، بن عربي، السهروردي، سيد قطب ..الخ)، وسجن وملاحقة مفكرين بما في ذلك أئمة (أبو حنيفة، الشافعي ..الخ)، وفتاوى قتل كتاب بتهمة الزندقة والخروج على الملة (المعري، نجيب محفوظ ..الخ)، وهكذا دواليك ..

لكن السؤال المريب والمدهش في آن: لماذا تشكل الثورات في التاريخ الإسلامي (أقصد حتى سقوط الخلافة العثمانية) والعربي (منذ تكوين دول ما بعد الإستعمار) نكوصاً حتى على المنجز القليل المحقق. عودة إلى الثابت، ومحو المتحول؟

فهل يعقل، مثلاً، وبعد آلاف من سنين التعايش والسلم الأهلي في بلداننا العربية بين الأديان والطوائف والمذاهب، أن يسطو على ذؤابات الربيع العربي حاملو نار اشعال الفتن ودعوات قتل وطرد أبناء الطوائف والمذاهب الأخرى، ناهيك عن ذبح الأطفال واغتصاب النساء وجعلهن سبايا ..الخ، ؟ وهل يمكن أن نصدّق أن ثورة الفيس بوس الشبابية الحداثوية والتي انتصرت على معركة الجمال في مصر تقبر منجزات تقافية حققتها منذ عصر النهضة، سيما في مجالات الإبداع الأدبي والفني والفكري؟. وكيف لنا أن نتخيل في عصر الربيع العربي تحالف أصحاب العقل من مثقفين ليبراليين وأصحاب النقل الديني الظلامي معا ً للإفتاء بقتل رموز ثقافة التحول في تاريخنا المعاصر ؟ نعم . نحن جيل الثمانينات أسسنا مشروع حلمنا النهضوي، الحداثوي، على حركية المتحول في تاريخنا .

كم بكينا سقوط بيروت، العاصمة الثانية بعد القدس ،التي وطأتها لعنات الجزارين الإسرائيليين وقبلهم العرب والأعاربة، وكنا نحلم، أو هكذا هاء لنا، انها ستكون بوابة تحرير القدس .

وكنا قبل هذا وبعده نوقن أن تحرير فلسطين لن يمرّ إلا من مخاض قلب الأنظمة، سيما الرجعية منها، وتحرير العقل والإنسان العربيين من ربقة التبعية والتخلف والعبودية لسارقي ثروات وأحلام شعوبنا المنكوبة…وكذا من نير المؤسسة الكلاسيكية السلطوية القائمة على تحالف متين ومريب بين السياسي والديني والقومي المتعنت المؤصل على محو الآخر باتهامه بإحدى الرذيلتين : الكفر أو الخيانة، وكلاهما يعنيان الموت بطيئا كان أم غير ذلك، طالما لا يخضع لسلطة نموذجها المقدّم تحت طائلة القمع والسجن والإرهاب والنفي والقتل .

كنا نحلم بعالم مختلف: حرية المرأة والعقيدة والتفكير والتعبير والممارسة، تداول السلطة والتعايش على أساس المواطنة والشراكة والعدالة الإجتماعية،

وكنا أكثر من غيرنا منفتحين ومفتوحين على احتمالات سحلنا وتصفيتنا وإلغائنا، فقد كان السجن أو النفي إحدى الراحتين، لا اليأس ولا الموت على رأي العربي القديم.

دافعنا باللغة والقلوب عن نصر حامد أبو زيد ضد الفتاوى الظلامية، وكأن الطلقات التي صوبت على رأس نجيب محفوط أرادت اغتيال عقلنا، وكأنما بمقتل ناجي العلي لم يعد الشاهد حنظلة يدل ّ على انكساراتنا ..الخ . وكان جلّنا يفضل الشيخ إمام على عبد الحليم، واكتظت أجسادنا في أمسيات أحمد فؤاد نجم، ولمناه أن سمى درويش شاعر بلاط من دمشق. لم نكن لنقسو عليه أكثر مما ينبغي ونفتي بحرق كتبه. كما أصابت لعناتنا كلها، ورمينا بالقصائد والمظاهرات والشعارات من تآمر على م ت ف، وأراد سرق الصوت الفلسطيني والوطن الفلسطيني ليحمله كأس نبيذ إلى طاولات المفاوضات مع الاسرائيليين ليحقق انتصارات مزيفة بعد انهيار الكفاح المسلح وتعثر فعل المقاومة. لكننا لم نكن نصدق أن حلم العودة سينكسر هكذا لتصبح أرضنا المحتلة أرضا متنازعا عليها وشعبنا تحت الاحتلال سكاناً بإدارة ذاتية لكل خمسة منهم فرع أمن وجيش من مخبرين وعملاء. من كان يصدق أن منا من جمّل وجه القاتل الاسرائيلي في مرايا الضحية الفلسطينية وأدخله مدخل صدق مَخادِع السلالة ؟

وكان من جيلنا المناضل، علمانيين ويساريين ومفكرين، من صفّق لصدام حسين، باحتلاله عاصمة سلسلة عالم المعرفة والمسرح العالمي وسواها: الكويت ،وجرها إلى حظيرة جمهوريته التكريتية، وكانوا صمتوا لقتله بالكيماوي آلاف الأكراد، ولقّبوه بما لا يطاق من المدائح إذ أطلق قبل شهقة الموت صواريخ على اسرائيل سقط منها، سهواً، على رام الله . وسموه الشهيد الأكبر إذ أشهد الله ورسوله قبل إعدامه . ومنهم من عاد على دبابات أمريكية ليحتفل بسقوط عاصمة الرشيد بغداد رمز الاشعاع الثقافي العربي . قرأنا خبر سقوطها عاجلاً على الفضائيات. العاصمة العربية الثالثة الساقطة. ولم نكترث كثيرا بسرقة متاحفها وتدمير أوابدها الحضارية. لم ينتحر أحد كما فعل الشاعر خليل حاوي لدى سقوط بيروت .

ومنّا من لاحق مشاهد سقوط العاصمة الرابعة طرابلس متفكهاً على منظر القذافي وهو يصرخ زنقة زنقة. كلنا رأينا سقوطها خبرا عاجلا، وكأنه حادث سير مفاجئ .

وجميعنا موطوئين بالانكسار الكبير والهزائم الكبرى والفزع الرهيب من منظر الدم المراق في سوريا. كنا نخبئ هذا الدم من أجل تحرير فلسطين وعالمنا وإنساننا من تبعية وتخلف وعبودية أجّلت قيامتنا، وجعلتنا مهمشين في حركة الحضارة الإنسانية، وهامشيين في أوطاننا.

ولم نكن لنصدّق أن جيش العراق العظيم سيقدّم بغداد كلها دون حرب تليق حتى بتكاليف الأغاني التي مجّدته، وأن جيش ليبيا، الذي صمت عن تسليم القذافي لأسلحته المتطورة إلى الأمريكان بعد سقوط صدام ليحمي مؤخرته على عرش ملك ملوك إفريقيا وعميد الزعماء العرب ..الخ من ألقاب تليق بشهوة نرجسيته، سوف ينقسم على ذاته : بين باسط يده للناتو للتخلص منه ومن أسرته وعصبته وباسط يده لقتل الثائرين عليه (الجراذين كما وصفهم). وأن الجيش العربي السوري سيخوض أمهات معاركه في المدن والأحياء السورية تحت رايات تطهير البلاد من ‘المسلحين المندسيّن والارهابيين عابري الحدود كالصحون الطائرة في الفضاء’ !. وأن جيش مصر، خير أجناد الأرض، الذي سطا على السلطة بعد ثورة ميدان التحرير التي انتصر فيها الفيسبوك على الجمل، يحمي الاتفاقات مع اسرائيل، ويهدد بقصف المعابر مع غزة، بعد أن وقع فريسة مكيدة اسرائيلية كانت وراء مقتل حرس الحدود، لم نكن نتخيل أن منا من سوف يرى القاتل ضحية والضحية قاتلاً، ولم نكن لنُمس ّ بمحض شك ّ بأن منا من قد يتحالف مع المسدس على الفكرة، ومع الثابت المعتم على المتحرك المضيء، مع الماضي المؤازر بسلطة القداسة والظلامية ضد المستقبل المفتوح على التعايش والشراكة والتحرر. ولم نكن ندري قط أن سهام ذوينا القادمة من معارك لم ينصف الماضي قتلاها من وحشية جلاديهم ستوقظ نساءنا على خرافة سبيهن ّ، وأطفالنا على ذبحهم، واجسادنا على لعنات السياط والرصاص الحي ّ. وأن دماءنا بيننا لم تعد حراماُ علينا ..

نحن على امتداد هذه الأمة والشعوب المنكوبة :

لم نكن نصدق أن تنقلب المفاهيم على ظهرها: أن المثقف سيقاد بالفتوى، وأن الديني سوف يتلطى وراء الليبرالي كي يجمّل مشروعه، وأن الرصاص والقتل سيحل محل الحوار والتعايش، وأن الخيانة مجرد وجهة نظر، والوطن بقعة نفود طائفي أو قبلي أو ما شابه .. وأن قتل النفس البشرية بيننا مثل شربة ماء . نعم حلمنا بالثورات، وبشرنا بها، وغنيناها في القصائد والسجون والمنافي، لكن لم ترى كل هذا الدم .هل يتسع هذا الوطن لكل هذا الدم ؟

ليس مصادفة أن جعل العرب كلمة ‘وطن’ من ثلاثة حروف، وكلمة ‘دم’ من حرفين .أما أنا فأحتاج وطنا ً أحيا فيه حراً كريما ً، لا وطناً أموت من أجله.

بلى أستحقه، ويستحقني ..وهذا ما أطالب به الربيع العربي : عليه أن يأتي بالزهور، لا برائحة الموت . بحرية وكرامة الحياة البشرية لا بشطبها وإلغائها، بتحويل السجون إلى مراكز ثقافية، بحرية المرأة لا الإفتاء بسبيها وتحويلها إلى جارية مزملة بالأسود المريب، بحرية التعبير والرأي لا بالنكوص إلى عصور الظلام بإطلاق اتهامات الزندقة والخروج على الملة والإفتاء بسحل من يجتهد بالتفكير ويؤمن بالتجديد، بالتعايش على أساس المشاركة والمواطنة وتلاقح التيارات والأديان والطوائف والأفكار . أن يجمّل الحياة فينا وحولنا من أجلنا، لا أن يوقظ الموت …

أم الخير الباروني / شاعرة من ليبيا

ينبغي على المثقف أن لا (يريد) من السلطة خصوصا إذا ماعتبرنا أنه كمثقف في الانظمة العربية جاء نتاج صراع مرير مع الكبت والظلم والتسلط، فالفعل (يريد) هنا جاء من باب الاحتياج لا الإرادة. والمثقف ملزم بأن يتمسك بحرية الرأي والفكرة وانطلاق الروح دون أن يخضع لأي قيد يجعله يغير مساره أو يبدل قناعاته في الحرية والعدالة والنماء. ولذلك فالمثقف بعد الثورات العربية هو رافد من روافد دعم صوت الحرية وتحقيق العدالة وتيسير سبل الاصلاح لأنه يملك اللغة التي يفهمها رجالات السلطة ويهابونها ويمكنه أن يتصدر لغة الحوار العاقل المفترض أنها ستحل محل لغة السلاح والاحتجاجات اللامنتظمة. إذ يمكن أن يكون السؤال، ماذا تريد الثورات العربية من المثقف؟ ليقدم مشروعه الثقافي ليسهم في بناء جسور التواصل والحوار، لقد قدم رجل الشارع كل ما أوتي ليصل بالثورات العربية الى ماهي عليه الآن. وتبقى مسؤولية المثقف أن يحافظ على ما أنجزه الشارع العربي بطريقته.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى