صفحات الحوار

مارتن غيرنر:لهذه الأسباب أنا صحافي ومستقل ومهتم بالمشرق

 

 

حاوره: وليد بركسية

يغطي الصحافي الألماني مارتن غيرنر أحداث الشرق الأوسط منذ أكثر من 15 عاماً كمراسل مستقل متخصص في تغطية النزاعات المسلحة، وشهد أحداثاً تاريخية بارزة كسقوط “طالبان” في أفغانستان وتحرير مدينة الموصل من قبضة تنظيم “داعش”. ويبدو اهتمامه بالمنطقة كبيراً إلى حد دفعه لتعلم اللغة العربية للتعرف أكثر على شعوب المنطقة.

“المدن” التقت مع غيرنر (51 عاماً) خلال تواجده في بيروت مؤخراً على هامش زيارته الدراسية لتعلم العربية، وكان الحوار التالي حول تجربته الصحافية ورؤيته للصراعات في المنطقة.

* ما الذي يدفع صحافياً غربياً لترك أوروبا والاهتمام بمكان ميؤوس منه مثل الشرق الأوسط الذي يشهد نزاعات لا نهائية وخطيرة؟

** لعشر سنوات عملت كمدير تحرير في راديو “دوتشلاندفانك” الألماني واسع الانتشار، وفي العام 2001 كنت مراسلاً للراديو في نيودلهي، وشهدت فترة سقوط “طالبان” وإخراجها من أفغانستان. حينها كان على الصحافيين البقاء في إسلام أباد ولم يكن بإمكاننا التوجه إلى أفغانستان لأن “طالبان” منعت ذلك، ما أدى إلى حصول أمور مثيرة للاهتمام، إذ قابلت الكثير من اللاجئين الهاربين من الحرب الأفغانية عند الحدود الهندية، ولسبب أو لآخر أثار ذلك اهتمامي كي أتعمق في الموضوع مع اكتشافي أن بقائي كمراسل يجعلني سطحياً، ولهذا أخذت إجازة من عملي لمدة سنة فكرت فيها بخياراتي، وعندما عدت للعمل قررت أن أصبح مراسلاً مستقلاً.

* لماذا لم تعد لعملك التقليدي كمراسل أو محرر؟

** في الحقيقة اخترت ذلك من أجل التوجه إلى تلك البلاد البعيدة والقيام بما أريد القيام به شخصياً، أي معرفة الناس عن قرب واستشكاف حياتهم الحقيقية، واستيعاب ما يخلفه النزاع على أرض الواقع، وليس الكتابة قليلاً عنه مثلما تريد الإدارات في وسائل الإعلام ثم العودة إلى مكتبي المريح. وأيضاً أردت العمل هناك لأني امتلكت يقيناً بأنني أمتلك القدرة على تقديم الإضافة في  تلك البلاد حيث مازال الإعلام يتطور ببطء، عطفاً على خبرتي الصحافية الطويلة. فطوال السنوات الخمسة عشر الماضية كنت مراسلاً مستقلاً في أفغانستان والعراق والأردن ودول أخرى، وفي الوقت نفسه، كنت أدرّس الصحافيين الشباب في تلك البلدان بالتعاون مع منظمات محلية ودولية مستقلة ومع وسائل الإعلام المحلية، فضلاً عن التدريس في الجامعات الألمانية.

* ما هي أبرز الأحداث التي غطيتها في المنطقة؟

** الحرب الأفغانية بشكل أساسي، لقد عشت في أفغانستان حوالي 4 سنوات بشكل متقطع في السنوات الثلاثة عشر الأخيرة،  كنت أقضي شهوراً هناك وأنا أقوم بعملي بين جمع المعلومات والمواد الصحافية وبين التدريس، ومع الوقت الطويل الذي أمضيته هناك سنحت لي الفرصة للعمل مع أكبر وسائل الإعلام الألمانية، مستفيداً من أنه لا يوجد أي مراسل مقيم في أفغانستان لصالح أي وسيلة إعلام المانية بما في ذلك “ديرشبيغل” وغيرها، رغم وجود العديد من الجنود الألمان في أفغانستان ضمن قوة حفظ السلام الأممية.

* هناك مشكلة إذاً في مقاربة الإعلام الألماني لقضايا المنطقة

** بالتأكيد، خصوصاً من ناحية الالتزام بالسردية الغربية التقليدية في محاكمة الأمور. طبعاً لا يمكننا إنصاف المجتمعات المحلية إذا كنا كصحافيين نأتي إليها لمدة ثلاث أسابيع لإعداد تقرير أو فيلم وثائقي ثم نغادر ببساطة، مع عمل بجودة منخفضة بسب ضيق الوقت، خصوصاً أن الناس خلال المقابلات السريعة يميلون لإعطاء الصحافي المعلومات التي يريد سماعها وليس الحقيقة التي يمكن للصحافي الخبير المقيم في البلاد لفترة طويلة اتتزاعها.

*ماذا عن عملك في العراق؟

** في العراق كنت شاهداً على دراما اللجوء بعد معركة الموصل، وخلال الشهر الماضي، عملت مع “معهد غوته” في تدريب اللاجئين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و19 عاماً، قرب الموصل في المناطق الكردية الآمنة نسبياً، كما كنت أقوم بجمع معلومات لمواد صحافية عن منطقة حويجة العراقية التي مازالت تحت سيطرة تنظيم “داعش” في محافظة “كركوك” الغنية بالنفط والتي تعد منطقة نزاع بين الحكومة العراقية والتنظيم والقوات الكردية أيضاً. وما جذبني بالتحديد لتلك المنطقة هو أن مئات الآلاف من المدنيين يعيشون تحت حكم “داعش” وقد تمر شهور كاملة قبل تحريرهم، لأن الأكراد والحكومة العراقية لم يتفقوا بعد على موعد الهجوم المشترك.

* ما أكثر المشاهد التي علقت بذاكرتك في الموصل

** معظم كتاباتي كانت عن الحياة في مخيمات اللاجئين حيث درجات الحرارة المرتفعة بشكل مروع، وبالتالي كانت الكيفية التي يحاول بها اللاجئون في المخيمات البدائية التغلب على درجات الحرارة العالية من أكثر المشاهد التي علقت بذاكرتي. وبالطبع لا كهرباء كافية لتشغيل مكيفات أو ما شابه، كما أن المياه نفسها كانت نادرة. وشاهدت الناس يعانون، ورغم أن ذلك يبدو تافهاً وثانوياً إلا أنه كان مشكلة حقيقية خلال ذلك الوقت. وتذكرت كم هي حياة مخيمات اللجوء قاسية، حيث لا مجال للحركة أو التصرف بشكل خلاق وإبداعي، كما لا يمكن للاجئ هناك أن يحتفظ بكرامته الإنسانية أو هويته الشخصية. وهو أمر مشترك شاهدته في كل المخيمات التي زرتها.

* كيف كنت تقضي يومك العادي في الموصل خلال تواجدك هناك؟

** في الواقع بقيت في أربيل، حيث يتواجد معظم الصحافيين الغربيين، ولم أتوجه إلى الموصل لأنني لم أتمكن من تحمل النفقات الباهظة لذلك، حيث يكلف قضاء يوم واحد في الموصل بين 600 إلى 800 يورو في الحد الأدنى، ولإنجاز مادة صحافية من هناك أحتاج لقضاء حوالى ثلاثة أيام هناك، إضافة لنفقات السيارة والحماية الشخصية وأوراق المرور الرسمية، لتصل الكلفة في اليوم الواحد إلى حوالي 3000 يورو، وهذا أرقام تستطيع وسائل إعلام مثل “ديرشبيغل” أو “نيويورك تايمز” تحمل تكلفتها، وبما أنني مستقل فلا أحصل على دعم مبدئي من وسائل الإعلام نفسها خصوصاً أن أسلوب عملي يقوم على أن أختار بحرية ما أريد تغطيته من دون تلقي توجيهات تحريرية مسبقة.

* إذاً لم تكن مهتماً بالتواجد على الخطوط الأمامية للمعارك في الموصل؟

** كنت مهتماً، لكن انتهى بي المطاف كمراسل من الدرجة الثانية ولذلك كنت أحاول التواصل مع مراسلين محليين، عرب وأكراد، في أربيل، أدفع لهم قليلاً من النقود كي يحضروا لي المعلومات التي أريدها، وهذه المشكلة المادية من أبرز ما واجهني خلال حياتي الصحافية حتى أنها دفعتني لتعلم التصوير كي لا أضطر لتحمل تكلفة مصور يرافقني منذ أيام أفغانستان. أنا عادة لا أتواجد قرب خطوط القتال المباشرة وأهتم بالحياة الممزقة التي تخلقها الصراعات. وفي حالة الموصل كان من الصعب جداً إيجاد مصادر للمعلومات من داخل المدينة.

* ماذا عن المراسلين المزروعين إلى جانب الجيش العراقي وحتى في معركة الرقة؟

** يمكن للصحافي طبعاً ان يكون مزروعاً أو لا، هذا خيار شخصي، لكن إن أراد الصحافي الذهاب إلى قلب الموصل ينتهي به المطاف بمرافقة القوات العراقية لأنه لا وسيلة أخرى، مع سيطرة الجيش العراقي على المنطقة وتحكّمه في من يدخل المدينة ومن يخرج منها. ومن المضحك أنه عندما تكون شخصاً مستقلاً بالكامل تصبح شخصاً مثيراً للشكوك ومشبوهاً من قبل السلطات ومن قبل الناس العاديين، وهو أمر لاحظته منذ أيامي الأولى في أفغانستان، حيث لم يصدق أحد أنني لست تابعاً لجهة ما، ومع تعلمي للغات المحلية استطعت التغلب على تلك المشكلة بالحوار والشرح.

* تغطيات “نيويورك تايمز” مثلاً كانت تصف أن المراسل يتجول برفقة ضابط عراقي لأسباب أمنية

** هذا مثال جيد، لكن غالباً ما يتم تقديم القصص من دون الإشارة إلى التوجيه المسبق لها من الأطراف الفاعلة على الأرض، يجب أن يشرح الصحافي في هذه الحالات كيف يعمل كي يحافظ على مصداقيته، حتى لو كان ذلك صعباً. خصوصاً أن سيطرة الجيش العراقي على الموصل الغربية بكاملها، جعلت انتقاده صعباً، فبعد أن قام أحد التلفزيونات الأميركية ببث تقرير يتحدث بسلبية عن تصرفات الجنود العراقيين في المدينة، قام الجيش بمنع الصحافيين الغربيين من العمل لعدة أيام. واليوم لدينا مقاطع الفيديو التي يقترف فيها الجنود العراقيون أحكام إعدام خارجة عن إطار القانون. وكانت ردة الفعل هي الإنكار ومنع الصحافيين من التغطية مجدداً.

* كيف تفسر ذلك؟

** أعتقد أن الأمر مرتبط بشرف وكرامة الجيش العراقي نفسه، من أجل محو الصورة السلبية التي عانى منها الجيش عندما قام مئات من مقاتلي “داعش” بهزيمة الجيش العراقي قبل أعوام في الرمادي والأنبار، وأسسوا دولة الخلافة التي باتت قوة كبيرة لاحقاً، ومن أجل إعادة تشكيل صورة الجيش العراقي يجب منع الأنباء السلبية عنه من الانتشار في حين يبني الجيش صورة مشرقة بتحريره الموصل أخيراً على يد جنوده المدافعين عن حقوق الإنسان، ولكن في الحروب لا يوجد أبداً طرف عادل كما أن الصراع السني – الشيعي مازال قائماً، ما يغذي المخاوف لدى العائلات الممزقة من التعرض للانتقام.

* هل ذلك السبب في ندرة الملتميديا التي توثق الحرب نفسها في الموصل والرقة؟

** لا يمكن لوسائل الإعلام أن يقوموا بإرسال مراسلين إلى داخل الرقة أو الموصل، حيث مازال “داعش” موجوداً. في حلب مثلاً، كان الصحافيون منقسمين بين الأسد وقوات المعارضة لتقديم قصص صحافية تغطي وجهتي النظر. وعندما سقطت حلب مثلاً تولد اهتمام إعلامي كبير في ألمانيا لجمع التبرعات للمدنيين في حلب، بالتعاون مع منظمات خيرية وسياسيين، أما بالنسبة للعراق والموصل فلم يكن هناك اهتمام إعلامي مماثل.

* كثير ما يقال أن الموصل هي المدينة المنسية؟

** هذا وصف دقيق، وبالتحديد من وجهة نظر وسائل الإعلام الألمانية التي غطت الحرب في أفغانستان والحرب في سوريا لكنها تجاهلت الحرب في العراق بعد سقوط صدام حسين. وقد يعود اهتمام الميديا الالمانية بسوريا اليوم هو وجود الكثير من اللاجئين السوريين في ألمانيا مقارنة باللاجئين العراقيين. فضلاً عن أن الجمهور المحلي بات متخماً بأخبار الصراعات، ويحتاج لأخبار منوعة وإيجابية أكثر. وهذه الصراعات أثرت على ضحكتي وحياتي ومزاجي العام، وغيرت قيمي أيضاً.

* ماذا تقصد بتغير القيم؟

** من مراقبة الأجيال الشابة في بلدان الشرق الأوسط تذكرت معاني الكفاح من أجل هدف نبيل وهو امر مفقود في أوروبا. الصحافيون في ألمانيا يفكرون فقط في كيفية دفعهم للفواتير في نهاية الشهر. وبما انني مستقل لا يتوفر لي أي حماية عادة وأعيش نفس الظروف التي يعيشها المدنيون السوريون أو العراقيون أو الأفغان في حياتهم اليومية وهذا يغني تجربتي الخاصة، حيث بت لا أبالي كثيراً بفقدان الأمور المادية من حياتي. لكنني لو فقدت شخصاً عزيزاً فلن يمكنني شراؤه مجدداً. ومن الناحية الإيجابية تأكدت أكثر من أن بلدان الشرق الأوسط ليست قضايا خاسرة أو دولاً فاشلة وميؤوساً منها كما يتم تصويرها في الرؤية النمطية.

* تقول أن هناك أملاً لبلدان الشرق الأوسط رغم أن الحروب فيها أبدية

** جذور الصراعات في الشرق الأوسط تعود للفترة الاستعمارية، ومن دون حلها سوف تستمر الاضطرابات لسنوات قادمة، وتحديداً في حالة الحرب السورية التي لا تتواجد فيها نقاشات جادة للحل، والحديث عن الصراع السني الشيعي والمشاكل الطائفية ضمن نقاش عام، وهذا يجعل الإرهاب ينام قليلاً قبل أن يعود من جديد في المستقبل، رغم أن الإرهاب بات سردية غربية تغطي على كثير من الحقائق لعدم إمكانية تقديم سرديات بديلة، فمثلاً يعتقد معظم الألمان أن اللاجئين هربوا من سوريا بسبب “داعش” وليس بسبب نظام بشار الأسد.

* هناك السرديات البديلة القائمة على البروباغندا الروسية

** هذا في الواقع اسوأ من وجود سردية واحدة، وهو أمر مخيف جداً، لأنه لم يعد بالإمكان إيجاد الحقيقة الضائعة بين الطرفين، وهذا في الواقع يدفع الصحافيين لبذل مزيد من الجهد للتعلم عن البلدان التي يقومون بالكتابة عنها، ولقد تعلمنا في ألمانيا من أزمة اللجوء أن علينا أن نغير شيئاً في عقليتنا من أجل أن نستطيع الاندماج بوصفه عملية ذات طرفين ولا يمكن أن نطالب اللاجئين فقط بالاندماج معنا.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى