صفحات الحوار

مازن معروف: قضية فلسطين بالنسبة إلي المسؤول الأول عن تأخر اللغة الشعرية


لا تفزعه اللغة ويرى التنميق أعضاء محفوظة في براد الموتى

عناية جابر

مازن معروف كاتب وشاعر فلسطيني يعيش في كندا، عرفته الأوساط الأدبية من خلال متابعاته النقدية في الصحف اللبنانية، وشهدت مجموعته: «الكاميرا لا تلتقط العصافير» انتباهاً وافياً من نقّاد وقرّاء الشعر وكان أصدرها عام 2004 أعقبتها فترة صمت شعري امتدت حتى جديده لهذا العام عن «دار الكوكب» رياض الرّيس، بعنوان: «ملاك على حبل الغسيل»، عنه، وعن أمور ثقافية أخرى كان هذا الحديث:

[ تكتب من جرح شخصي خاص ومجموعتك قاسية في جوهرها على غير ما تتبدى من قراءة أولى، لماذا؟

ـ لا أعتقد أنه يمكن عزل جراحنا بوصفها خاصة وشخصية. إنه تأويل مغلوط لتفاعل يتم بين محيطين: نفسي وبيئي. وهما محيطان ينفصلان بالحواس. لا يمكن القبول باستلام العالم بكل أعبائه، من أجل تحصيل السعادة. هذه معادلة غير قابلة للتطبيق. لحظات الفرح، التي نستقبلها جاهزة، أو ننتجها، يكمن وراءها تعب هائل، أمواج لطيفة ومتعاقبة من التعب. أمواج تصل من مسافة بعيدة. مصدرها إما الذاكرة أو تكتل بعيد من البشر غير موصول بنا مباشرة. لذلك، الكتابة بالنسبة لي محاولة للإضاءة على مرجع هذا التعب، لا الإضاءة على التعب بحد ذاته. الكتابة الشعرية عن الجرح لا تعنيني في شيء، سواء أكان جرحا له علاقة بهويتي كفلسطيني، أم بالقضايا الانسانية والحقوقية الكبرى. الألم هو ترجمة عصبية، إنذار لا يهدأ، لوجود تراكم لا يحتمل من أضداد ما أملنا به. الألم كأن ينفض أحدهم في داخلك شرشفا ثقيلاً وملطخاً بخيبات كثيفة. نحن محاطون بأجزاء متناثرة ولزجة من العالم، تتصل ببعضها بالتلامس. وتقحم نفسها في حياتنا. كأننا في سباق تتابع بدون خط نهاية. في حالة تسلّم وتسليم دائمة. كل ما نقبض عليه، موقَّت. محكوم بالانفصال عنا. نحن ملزمون بأنظمة متشابهة في كل مكان تقريبا على الكوكب. الإنسان تحول إلى نمط. مجرد نمط. كنكهة البيض التي تتشابه في كل مكان. وعلاقته بالزمن، باتت هي نفسها تقريبا. لم تعد هناك قضية، بل منظومة من المسائل المفككة. ما يربطنا إلى الإنسانية، هو نزعتنا العنفية. وهو المكوِّن الذي لم يتغيَّر، ولم ينهزم، منذ لحظات التاريخ الأولى. وهي ما يصنع الظرف، وهو أيضا ما يستولد القضايا الكلاسيكية الكبرى سياسيا ويلزمنا بها. إنها نزعة بقدر ما نريد كبحها أو نكرانها بالممارسات اليومية التي تدعو إلى الكرامة والمساواة والعدل، علينا أن نطلق يدها كما هي في الكتابة. لذلك فإن القسوة في النصوص تأتي مغلفة بشيء من التحايل على المعنى. وأقصد معنى الحياة المنظَّمة بشروط هذا العنف نفسه.

[ لغتك تتماهى مع المشهد وتبتعد عن التفخيم، هي فكرتك عن القصيدة الحديثة الآن: اللغة ناقلة للصورة من دون زيادة أو نقصان؟ وماذا تمثل اللغة بالنسبة لك؟

ـ سأترك مهمة تلمُّس ملامح قصيدتي للقارئ نفسه. لكني لا أرى في نصوصي صورا جاهزة دون زيادة أو نقصان. المشهد اليومي بالنسبة لي، ميِّت. ولا أسعى لإحيائه. إلا أنه يقدم لي علامات، أسترشد بها للمضي في المقبرة الكبيرة التي هي صفحة فارغة. الشعر، بالنسبة لي، هو إعادة ترتيب القوانين التي تربط الأشياء البسيطة ببعضها. الترتيب النهائي الذي يسبق موت الكلّ. اللعثمة الأخيرة للأصابع والصراخ بأعلى صوتك «أنهيتُ عملي». لا تفزعني اللغة عندما أكتب. بالمقابل، السلطة التخييلية هي التي تفرض نفسها عليَّ. تنميق اللغة بالنسبة لي، هو تنميق لأعضاء محفوظة في براد الموتى منذ زمن. لا أقول لديَّ أفكار عن القصيدة الحديثة. أنا أكتب مخيّلتي، وهذا ما يسميه البعض لغة شعرية، أو نصاً، أو قصيدة أو نثراً أو خاطرة. اللغة هي المكون الأخير في العمل لا الأول. هي نتاج تفاعل بصري، وعاطفي مع المحيط. وهي أكثر طلاقة من أن أعنى بها أو أهتم لأمرها في النص. ما يسمى باللغة الشعرية في العالم العربي، تطوّر منذ مطلع القرن العشرين على أرضية متصدّعة. فقاموسنا لم يشهد أي إضافة تقريبا منذ القرن الثامن عشر. لهذا نُظِرَ إلى النص الأوروبي بعين معجم عربي متجمد. وسعى الشعراء للقفز بحصان مريض إلى الخانة الأخرى في ستاديوم الشعر. غُيِّبتْ ذات الشاعر بالنص الرومانسي، ومن ثم بتأثرات الشعر المترجم. بعدها جاءت قضية فلسطين وما نتج عنها من طروحات عروبية أو قومية أو احتفاءات باليسار، لتلغي تقريبا اي تطور محتمل لشخصية الشاعر – الفرد. قضية فلسطين، بالنسبة لي، المسؤول الأول عن تأخر اللغة الشعرية. فقد ألزمت الشاعر بقيم عملاقة وحالمة، وضغطت ذاته الإنسانية في شكل الأضحية، وحرفت مسار عالمه ليصب كله في مرطبان الدم والثورة والحرية والأرض.. إلخ. أصبح للشعر وظيفة واحدة: إنتاج لغة غنائية و/أو «نضالية». والأمر يشبه تعذيب قطة صغيرة أثناء تدريبها على الوقوف وقرع الطبول. لم يكن ذلك عقابا للشعراء بقدر ما كان عقابا للغة نفسها. وظفرنا مرغمين، بتسميات هي الأكثر إرهاقا للأذن، مثل «الشعر الملتزم» أو «اللغة الملتزمة». في رأيي، الشعر يتنافى مع «الالتزام»، ذلك أنه على العكس من ذلك، يفترض «التخلص من». هناك الكثير من الجينات المتوارثة منذ عقود في القصيدة، وهي موروثات سامة.

القصيدة تستفزني

[ كيف ترتّب فنية قصيدتك، ما هي مراجعك في هذا الخصوص: حاستك وذائقتك أم انتباهك الى مصطلحات نقدية عامة تُعنى بقصيدة النثر الحديثة؟

ـ لست واعيا للمراجع التي ألجأ إليها عند كتابة القصيدة. لكن هناك تراكمات بصرية ونفسية في حالة انجدال وتحلل دائمين. أثناء الكتابة، أنحرف وأتجنب. كل ما أعتقده مكررا في الشعر العربي، أتركه على الضفة ليتيبَّس ببطء. لم أعد أتذوق الكثير من النصوص الشعرية، إما لخلل فيها أو فيَّ. هناك مسافة متحركة بين أغلب ما يُنشَر وبيني. هذا الأمر يهيئ لي عزلة، أدركت في السنوات الأخيرة أنني بحاجة إليها. عزلة تنطلق لا من التفاعل مع كتابات الآخرين، بل من عدمه. لعل هذا الانعزال الإرادي في الكتابة، وهو انعزال أخلاقي مع الذات الشعرية، أكثر مراجعي غنى وتحررا. قد أهدم كل يوم جدارا، لكن، لأبنيه في مكان آخر. لذلك، أحيانا كثيرة لا أنتبه إلى ما يحيط بي. بالنسبة لي، العالم يتغير في داخلي وليس من حولي. أما الأشياء البرّانية، فمهمتها أن تقودني إلى تجديدٍ نفسيٍ ما، وبالتالي استيلاد نص آخر. هذه طريقتي في تصويب نظري إلى تفصيل ما أو الإطاحة به. أما النقد، فهو يخضع في أغلبه لإملاءات القصيدة. وهناك علاقة عمياء تُسوَّى بين ما هو مكرر في الشعر، وما هو مفترض كونه تحليلا أدبيا. معظم ما يكتب من نقد شعري، لا يتضمن جهوداً رؤيوية، ولا يمكن التعويل عليه لصناعة نص جديد. إنه نقد ظرفي، ينتهي بانتهاء مناسبة الكتاب ويتجدد، بصيغة أخرى، عند موت الشاعر. نقدٌ في حال انتظار دائمة. لذلك، فإن التملص منه لازم كالتملص من كليشيه الاستعارات. لجوء الشعر إلى مرجعية مجازية مستعملة، هو نتاج حالة سياسية واجتماعية متقهقرة منذ أكثر من نصف عقد. وإن كان لا بد من الاستعانة بحاسة كتابية أو ذائقة ما، فينبغي أن تكون كعصا أعمى مسننة وممغنظة تفتت كل ما تلمسه، ثم تعيد جر النثارات وراءها، مخلوطة ببعضها البعض.

[ ثمة ترجمة للفرنسية تنتظر مجموعتك، كما ستترجم لك قصائد غير منشورة في هذا الكتاب: كيف تمّ ذلك وعلى أية أسس، أخبرنا عن قصة الترجمة هذه؟ لمن تقرأ، ولمن تميل ذائقتك في الشعر لبنانياً وعربياً وحتى عالمياً؟

ـ تغيَّبتُ ثماني سنين عن النشر منذ صدور مجموعتي «الكاميرا لا تلتقط العصافير» (2004). لم أرسل خلالها قصيدة واحدة إلى الصحافة العربية. فترة كنت خلالها أعمل على النص. إلا أنه كانت لي مشاركات في مهرجانات شعرية دولية. خلالها، تعرّف بعض المترجمين على قصيدتي، وتم التواصل بيننا. والآن ثمة اتفاق مبدئي مع إحدى دور النشر في باريس على ترجمة كتابي الجديد، وثمة دار نشر أخرى، في باريس أيضا، مهتمة بنشر كتاب لي سيتضمن ثلاثين قصيدة غير منشورة من قبل.

كما انني، بين الحين والآخر، أنشر قصائد في مجلة فرنسية في باريس تعنى بالشعر الحديث. قراءاتي تطال أغلب ما يكتبه الشعراء الشباب، وأُعجَبُ ببعض النصوص. أما الشعراء الأكبر سنا، لبنانيا وعربيا، فلا ازال متواصلا مع قسم منهم شعريا. القسم الآخر، برأيي، بات عاجزا عن إنتاج نص مختلف عما في جعبته سابقا، وهؤلاء لم يعودوا ضمن نطاق أولوياتي في القراءة. عالميا، ثمة أسماء كثيرة. وتبتعد القائمة حتى كلاسيكيي الشعر. هؤلاء، قراءتهم ضرورة أو واجب لفهم كينونة الشعر، وتطوره بربطه مع الظروف الاجتماعية والسياسية المحيطة بالشاعر آنذاك. وأجد أن بعض النصوص المكتوبة في أوائل القرن العشرين تفوق في حيويتها ما يكتب الآن. القصيدة هي ما يستفزني وليس اسم الشاعر نفسه. لذلك، يمكن لأي نص أعتبره جيدا، أن يثير لدي اهتماما يفوق الاهتمام باسم صاحبه.

حاورته: عناية جابر

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى