صبحي حديديصفحات سورية

ماكرون في سوريا: معضلات فرنسية وأخرى أطلسية/ صبحي حديدي

 

تضاربت التقارير حول المآل الفعلي، الميداني والعسكري على وجه الخصوص، الذي أعقب لقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع وفد من «قوات سوريا الديمقراطية»، في قصر الإليزيه، في باريس، قبل أيام. ورغم أن البيانات الرسمية شددت على أن الوفد ضمّ «عدداً متساوياً من النساء والرجال العرب والأكراد»، فإن الاجتماع تركز على أوضاع الكرد في شمال شرق سوريا، وآفاق امتداد العملية العسكرية التركية إلى منبج، واعتراض باريس على هذا التوسيع.

والحال أن معضلات كثيرة اكتنفت هذا اللقاء، وما أعقبه من تفسيرات متقاطعة بين بيان الإليزيه (الحرص على «إنجاز استقرار المنطقة الآمنة خاصة في شمال شرق سوريا، ضمن إطار صيغة حكم متوازنة من خلال حلّ سياسي»)؛ وتصريحات ممثلي الكرد، التي ذهب بعضها إلى حدّ التبشير بانتشار عسكري فرنسي وشيك، لحماية الكرد في تلك المنطقة. وليس خافياً أن بعض تلك المعضلات يرقى إلى مستوى التضارب، والتناقض، داخل معمار السياسة الفرنسية الراهنة في سوريا؛ وكذلك الفلسفة العامة التي تنتهجها باريس بصدد محاربة الإرهاب.

فمن جهة أولى يثمّن ماكرون، بحقّ، تضحيات الكرد في قتال «داعش»، الأمر الذي يعني خدمة أمن فرنسا ذاتها، بالنظر إلى الهجمات الإرهابية الوحشية والمتكررة التي نفذها أنصار التنظيم على الأراضي الفرنسية. ومن جهة ثانية، لا يمكن للرئيس الفرنسي إلا أن يتعاطف مع أمن تركيا ضد العمليات الإرهابية التي قام بها «حزب العمال الكردستاني» على الأراضي التركية؛ ولكن كيف، والحال هذه، يُستقبل وفد سوري معظم أفراده على ارتباط، سرّاً أو علانية، في قليل أو كثير، بـ«العمال الكردستاني»؟

ومن جانب أول، يركز مشروع «الدعم» الفرنسي على مفهوم غامض، حتى في اللغة، هو «صيغة حكم متوازنة»؛ لا يُفهم منها ما تريده باريس بالضبط: الاعتراف بمنطقة روجافا، ولكن ضمن ائتلاف عربي وكردي معاً (بدليل تركيبة الوفد الذي أمّ الإليزيه)؟ أم ترحيل مفهوم الحكم إلى ترتيبات أبعد زمناً وسياقا، وربما إلى حيث الحلول النهائية في سوريا؟ ومن جانب موازٍ، يصرح خالد عيسى، عضو «حزب الاتحاد الديمقراطي»، أي الفرع السوري من «حزب العمال الكردستاني» عملياً (والذي يُعرّف أيضاً كـ»ممثّل لمنطقة شمال سوريا في باريس»!) بأنّ ماكرون وعد بإرسال المزيد من القوات الفرنسية إلى منبج، بهدف حماية الكرد. أيهما أقرب إلى منطق السياسة الفرنسية، في سوريا أو تجاه محاربة الإرهاب عامة؟ بل بالأحرى: أيهما أقرب إلى المنطق السليم؟

كل هذا على خلفية أخرى بالغة الدلالة، هي تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأن الولايات المتحدة سوف تغادر سوريا قريباً، وستترك المهمة للآخرين. صحيح أن أقوال ترامب لا تنطبق بالضرورة على خيارات مجلس الأمن القومي الأمريكي أو وزارة الدفاع أو الخارجية، بل قد تتناقض معها تماماً؛ إلا أن من الصحيح، في المقابل، أن مزاج ترامب قد تكون له اليد العليا في نهاية المطاف، وأنه قد يتخذ بالفعل قرار سحب القوات الأمريكية من مناطق انتشارها الراهنة في سوريا. في حال كهذه، وفي ما يتصل بمنطقة منبج على وجه التحديد، هل تكون فرنسا هي بعض «الآخرين» الذين قصدهم ترامب في تصريحه؟ وهل يكون هذا ترجمة لما عبّر عنه خالد عيسى، حول تعزيز القوات الفرنسية في شمال سوريا، ومنبج خاصة؟ ألا تفيد التقارير بوصول أعداد جديدة من القوات الفرنسية إلى قاعدة رميلان، شمال شرق سوريا، وإعادة تحصين مواقعها في منبج؟

بيد أن هذه المعضلات تتجاوز خيارات الرئيس الفرنسي ذاته، فتشمل وضع فرنسا الإجمالي مع الحلف الأطلسي، بالنظر إلى أن باريس وأنقرة عضوان في الحلف، أياً كانت مقادير الشدّة أو الضعف في ممارسة هذه العضوية راهناً. وعلى نحو ما، جليّ وحاسم مع ذلك، لا يبدو أنّ ماكرون ينتهج في هذه الخطوات السورية أقلّ من سياسة أطلسية كلاسيكية؛ بصرف النظر عن الأقنعة التي تتستر خلفها، أو التناقضات والتضاربات التي تكتنفها. ومن مفارقات الأقدار أنّ آخر مراجعات باريس، الإيجابية، تجاه أنشطة فرنسا العملية في الحلف الأطلسي جرت في عهد الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي.

يومذاك، في سنة 2009، شهدت الجمعية الوطنية الفرنسية، البرلمان، فاصلاً مسرحياً طريفاً، وضع أهل اليسار في صفّ الدفاع عن الرئيس الفرنسي الأسبق لشارل دوغول؛ ضدّ الأغلبية اليمينية الحاكمة التي تعلن انتماءها إلى إرث الجنرال السياسي، ولكنها تتزاحم للتصويت على إعدام واحد من أهمّ قراراته التاريخية: الانسحاب، في آذار (مارس) 1966، من القيادة المركزية للحلف الأطلسي، رغبة في الابتعاد عن سياسة المحاور بين واشنطن وموسكو، وتفادي استقطابات الحرب الباردة، من جهة؛ واحتجاجاً على ما تمارسه الولايات المتحدة من هيمنة شبه مطلقة في القيادة العسكرية المركزية للحلف، من جهة ثانية.

موقف الحزب الاشتراكي الفرنسي، وكان يومها في صفوف الأقلية المعارضة، صنع فصلاً جديداً في النفاق السياسي الفاضح؛ لا لأيّ اعتبار آخر سوى أنّ الحزب كان قد اختلف مع الجنرال دوغول في قراره ذاك، أوّلاً؛ ولأنّ فرانسوا ميتيران، أوّل رئيس اشتراكي في الجمهورية الخامسة، كان أطلسياً حتى النخاع، سواء في قراره إرسال القوّات الفرنسية للمشاركة المباشرة في تحالف «عاصفة الصحراء»، أو في عمليات الأطلسي على أرض يوغوسلافيا وفي سمائها، ثانياً. الوجهة الثانية للنفاق تمثلت في أنّ ساركوزي كان قد اتخذ قرار طيّ ذلك الإرث الدوغولي، وأعلنه على الملأ، قبل ستة أيام من موعد مناقشته في الجمعية الوطنية. لا يُنسى، هنا، أنّ الأخير ـ الذي يوصف عادة بـ«المحافظ الأمريكي الجديد، بجواز سفر فرنسي» ـ لم يكن يجترح جديداً على محاولة سلفه جاك شيراك، الذي سعى إلى الغرض ذاته سنة 1995؛ لولا أنّ الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون سدّ عليه الباب حين رفض طلب شيراك بأن تتولى فرنسا قيادة الحلف في المتوسط، ولم يَعِد بأيّ امتياز كبير آخر في الواقع.

لافت، إذن، أن يستأنف ماكرون سياسة أطلسية مبطنة سبق أن جرّب إحياءها شيراك وساركوزي قبله؛ أو، في قراءة أخرى، أن يقطع شوطاً عملياً في إعادة الحضور الفرنسي ضمن معادلة الصراعات الدولية على الأرض السورية، على نقيض عجز سلفه فرنسوا هولاند، سواء من خلال دعم هذا الجيب أو ذاك في «الجيش الحر»، أو مجاراة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في حكاية تجاوز الخط الأحمر ومشروع قصف النظام السوري بعد الهجمة الكيميائية التي استهدفت الغوطة الشرقية، في آب (أغسطس) 2013. الخيار الأول كان أقرب إلى ذرّ الرماد في العيون، ونجاح الدبلوماسي الفرنسي إريك شوفالييه في تسخير هذا الضابط في الجيش الحر أو ذاك؛ والخيار الثاني، تماماً كما اعترف هولاند مؤخراً فقط، كان مرتبطاً بقرار البيت الأبيض حصرياً، رغم جاهزية فرنسا للشروع في القصف.

ومع ذلك، وفي خلاصة القول، لا يلوح أنّ المعطيات الراهنة على الأرض السورية تمنح باريس هامش مناورة ملموساً، وبالتالي فاعلاً ومثمراً؛ في «زحمة» التنافس مع قوى كبرى متصارعة على النفوذ، أو متفاهمة على اقتسامه، مثل روسيا وإيران وتركيا، بافتراض أنّ ترامب اتخذ بالفعل قرار الانسحاب من الميدان. والتجربة تذكّر بأنّ ماكرون سبق أن تشدد في رفض اجتياح عفرين، دون جدوى؛ ولا يلوح أنّ تشدده الراهن بصدد منبج، وشمال شرق سوريا عموماً، سوف يكون عامل ردع، أو حتى عرقلة، لأي تفاهمات تركية ـ روسية.

٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى