المثنى الشيخ عطيةصفحات الثقافة

ما أجمل السوريين!


المثنى الشيخ عطية

بأسلوبه اللطيف المخيف، يضع المخرج السوري الجميل الراحل عمر أميرلاي، في فيلم “طوفان في بلاد البعث”، شخصيات سورية مختارة: مسؤول الفرقة الحزبية ومختار القرية ومعلّم المدرسة، والأهمّ أطفال طلائع البعث أمام الكاميرا. يدعهم يتحدثون عن حافظ الأسد وحركته التصحيحية، هكذا بكامل حريتهم، ليفتح أمامنا مع حديثهم الببغائي زنزانة الذات المرعبة، هوة سوداء من دون قعر، نشعر من تحديقنا فيها بالهول مما نرى. إنه خواء داخل الآخر، لكنه في الوقت نفسه خواء دواخلنا. مع دوران السؤال المرعب: هل هكذا هم نحن؟ هل هكذا هم السوريون؟ وجوه خالية من المعنى؟ من اللغة لا تجد ما تستطيع التعبير عنه؟ هل هكذا انتهى من اخترعوا الأبجدية؟ وجوه خالية من الأبجدية؟ من الجمال؟ ماذا فعل حافظ الأسد بالسوريين؟ يختم عمر أميرلاي فيلمه الغريب بمطر غريب يهطل بطيئاً ليبلل الوجوه والبيوت والمآذن، ويرفع منسوب بحيرة سدّ الفرات، أو سدّ الذات إلى مصير التراكم السائر إليه من دون رحمة، الطوفان الذي لا يفصح عنه المخرج في الفن بسوى مطره الذي يتراكم في الذات، ويفصح عنه في الواقع سيل تظاهرات السوريين الذين رفضوا تفريغ ذواتهم ليفجّروا ربيع الثورة السورية، بأزهار الدم التي تتفتح وتشكل ما لا يمكن التعبير عنه بسوى حجم التخريب الذي ارتكبه مسببه: الطوفان.

إنه الطوفان. سفر الرعب في أساطير السوريين، مآل الشرور الذي يُخرِج أبشع ما في ذات الإنسان من وحوش، ومآل الآمال في التطهر منها ولو بشلاّل الدم الذي يخرج أجمل ما في ذات الإنسان من أزهار في خلقه لعالم الإنسان! وما أجمل السوريين في إعادة طوفان أبجدية خلقهم للعالم!

السوريون. هكذا يشهد العالم على الشاشات للمرة الأولى في تاريخ خلق العالم، على صراط تراجيديا قدرهم في أن يكونوا وحيدين من عالم ملوّث بالخواء.. يخرجون الى التظاهر أمام الموت عراةً إلا من دمائهم، صفوفاً يضعون أياديهم على أكتاف بعضهم، ويهزهزونها محلّقين في سماء المعنى كالنسور. السوريون يعيدون المعنى الى العالم برقصهم الدامي أمام الرصاص، و”مالنا غيرك يا ألله”. عراة أمام الدبابات التي تنشقّ لتقاتل بعضها بعضاً أمام هذا البهاء.

السوريون. هكذا يشهد العالم أمام الشاشات، فتيات مثقفات يُعِدن خلق أسطورة جدّتهن عشتار في نزولها الى العالم السفلي، من أجل إعادة خلق العالم، بإيقاد الشموع في ساحة المرجة المحاطة برشّاشات المسوخ لتحرير فتيان سوريا المعتقلين.

 جدّات ينبض في عروقهن الربيع فيخرجن الى التظاهر في بانياس ويتساقطن كأوراق الخريف مع بدلات أسنانهن التي تُرى بجانب دمائهن تحت زخات الرصاص. هلهولة القيامة الديرية في الجمعة العظيمة حيث يقوم الإبن الأصل، تنطلق من شرفة امرأة في دير الزور لتبدّد خوف الشباب وتلمّهم صفاً واحداً يقتحم ساحة الحدّادين لإسقاط صنم الإبن المسخ. صرخات الفتيات المغتصبات والمقطّعات الأوصال في أقبية مخابرات العالم السفلي إلى سماء الإنسانية الصمّاء. فتاة الرداء الأحمر وحيدةً بضعفها أمام البرلمان، لكن بقوة شجرة سنديان تضيء سلام العالم بجملة: أوقفوا القتل…

السوريون. هكذا يشهد العالم أمام الشاشات، فتياناً يعرّون صدورهم أمام الدبابات. واشهد أيها العالم أننا رسل السلام. رصاصة الجندي حرّاً من لوثة القتل، يطلق النار على دماغه بيده رفضاً لقتل الأطفال. أزهار فتى السلام بيضاء مضرّجة بدمه على حواجز القتل وحديد الدبابات. أيقونة فتى العذاب ذاهباً لإحضار القمح إلى أهله، مقطّع الأوصال وعضو الإخصاب، ليولد الخصب مسيحاً جديداً تبعثه ديانات الخصب في عقم العالم. لحن تحطيم الأصنام يسري ناراً من حنجرة المغنّي المجزوزة إلى ملايين الحناجر. ضحكة فتى التغطية من رصاصة قنص خائبة في بابا عمرو. رؤيا المسيح بعيني فتى الكاميرا الذي ترفض تأبينه كنائس عمياء في سبت النور. نار جسد الشيخ تعلو مردِّدةً رفض السجود لغير الله، ومطفِئة بتشهّدها نار مسخ الإله…

السوريون. هكذا يشهد العالم أمام الشاشات، عزّلاً من العالم مدججين بذواتهم التي تشكل ذروة لقاء المتضادات وافتراقها على الأرض، قعرَ وصول وجه العالم للتحديق في قلب ظلمته في السماء، صليب آلام البشرية مرفوعاً بكامل الرضا لخلاص عالم بلغ منتهى انحطاطه، قيامة عالم على أنقاض عالم…

السوريون. هكذا يشهد العالم أمام الشاشات، أطفالا يخرجون من بين أنقاض البيوت المقصوفة بالراجمات، يهتفون للحرية ولإسقاط النظام وسط الدمار. أطفال يسقطون هكذا فجأةً في المطارات الأوروبية ليجعلوا العالم مسرحاً لأسطورة الموت والقيامة. أطفال مهجّرون في مدرسة البشائر داخل تركيا، يودّعون طفولتهم بتمثيل سقوط الشهداء وتشييع الجنازات، لكنهم لا يشبهون أطفال طلائع البعث الملجومين وفي منتهى البهاء يعبّرون. السوريون أطفال في المدن والقرى السورية مذبوحون ومقطّعون لكنهم ملفوفون بأكفانهم أيقونات…

السوريون. هكذا يشهد العالم امام الشاشات، أنا الهادئ بسيف عينيه أمام المجازر، زوجتي وهي تغالب دمعها في رؤية أطفال الحولة والقبير ودير الزور، مذبوحين ومقطّعي الأوصال لكن بوجوه مسترسلة باسمة لا تُذهِب الشك البتة في أنهم ينامون ويحلمون، زوجتي وهي تشرق في دمعها، وتقول: ما أجمل السوريين، ما أجملنا نحن السوريين.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى