صفحات الثقافة

ما أجمل ربيعَ الثُوار العرب..ما أبشعَ شتاءَ الطغاة!

 


بول شاوول

ما كان أسهل الحياة على الطغاة، في أنظمة الطغاة في عالمنا العربي على امتداد قرابة ستة عقود التي كأنها أطول وأثقل من ستة قرون. كانوا أسياداً غير منازعين، مُطلقين. ألهة” مقدسين. يأمرون فيُستجابون. ينهون ولا يُعارضون. يحكمون ولا يُحاكمون. يحاسِبون ولا يُحاسَبون. يقتلون ويُكافأون على جرائمهم. يفتحون السجون وكأنهم يفتحون المستشفيات والمدارس. يعذبون الناس والأبرياء والمعارضين “ليطهروهم” من “موبقاتهم” و”عمالتهم” و”أدرانهم”. يسحبونهم من منازلهم وأمام أهلهم ليُخفوهم في الأمكنة المجهولة المحرمة، ولتنقطع أخبارهم ربما إلى الأبد، ثم يقولون إنهم أراحوا هؤلاء من “شقائهم”.. يخوّنون “الوطنيين” ليرشدوهم إلى الاخلاص للوطن. ينفون النخب والمجاميع لكي “يحرروهم” من مواقفهم، كل ذلك، وكم كان سهلاً عليهم. هم في القمم، فوق، وفي الأعالي، وفي الغيوم والنجوم، وراء جدران القصور، والناس في الأسافل، كأن نقول إن “الطغاة” يسكنون السماء والجماهير تسكن “الجحيم” وليس بينهما من مطهر… (بحسب “الكوميديا الإلهية لدانتين”). هم السماء والمطهر… والناس الجحيم. ولا جسر بين الأعالي وبينهما. ولا درب. ولا وصل ولا اتصالات ولا مواصلات. كان كل شيء سهلاً على الطغاة العرب على امتداد قرابة ستة عقود. ولا عقبات ولا قلق ولا أزمة ضمير ولا أرق ولا ندم ولا أسف ولا شعور يتصل بأي انسانية. وحوش تمرح وتسرح تستشرس وتستفرس بكل غرائزها المفلتة وبكل أنيابها المسننة، وبكل أمراضها النرجسية وذواتها النتنة، وبكل جشعها وفجعنتها وتفاهتها!

عاشت هذه الدكتاتوريات كما يعيش مصاصو الدماء من دم ناسهم، ونهبوا كما ينهب اللصوص وقطاع الطرق والمافيات. عاشوا بلا زمن. (وكأن الزمن مطلق في وجودهم المطلق). وكأن الزمن حاضر أبدي بلا سابق ولا لاحق. جعلوا الناس بلا حاضر. ولا سابق. ولا لاحق. مجرد “كائنات” افتراضية مهووسة بحاجاتها الصغيرة، وبضروراتها الملحة. مزرعة من الدجاج ممنوع عليها حتى أن تقوق. وإذا صدف وجود “ديكة” يخصى صياحها. عالم صامت. ساكن. كالملابس والخزائن. لا يتحرك فيه شيء. هذا هو العالم الذي فرضوه. يسوسونه بالسياط وبالعصي أحياناً، وبالنار وبالذبح أحياناً أخرى، وبالتدجين أحياناً وبالأمكنة المسيجة وبالتخويف. وهذا يذكرني بفيلم وثائقي قصير نفذّه المخرج الراحل الكبير عمر أميرالاي عن الدجاج. الكاميرا والدجاج، بقراءة طبعاً مفتوحة وذات إشارات. واحالات. ونتذكر أيضاً جورج أورويل وكتابه الرائع “مزرعة الحيوانات” . إذاً، ما أسهل التعامل مع اوطان حولوها مزارع، واسطبلات وزرائب والناس فيها دجاجاً وبطاً وأرانب… والدكتاتوريون مربّي دواجن، ولا ضير أحياناً أن يعتلي ديكٌ مزبلة ويصيح قبل اعدامه فكل هذا من أصول اللعبة.

لكن ماذا في وسعنا أن نفعل لهم اليوم. تمردت “المزارع” على مربّي الدجاج والخنازير والحمير والديكة والخراف والماعز. تمردت المزارع واستعادت هذه المخلوقات هيأتها الأولى وقسماتها الأصلية واكتشف “مربّو الدواجن” و”مُسَمّنو العجول (للذبح) ان هذه “الكائنات” التي مسخوها ليست دجاجاً ولا خرافاً… وكأن تلك السحن كانت أقنعة: اكتشفوا أن المزارع التي أداروها هي بلدان. وان دجاجها.. ناس. وان ناسها بشر. وان بشرها لم ينسوا شيئاً. لا السكاكين ولا السواطير ولا السفاحين. ولا الجزارين. وان بشرها تحولوا فجأة منتفضين على شروطهم. وعلى مسخهم. وهكذا كان، فجأة ظهرت المعجزة وفجأة انقلب الوضع. وفجأة حطمت الأسيجة والجدران وفجأة تحولت غرائز الخوف جموحاً متفجراً. لا يعبأ بحواجز ولا سلاح ولا ارهاب. ولا قتل. ولا جزّ. ولا مجازر. هتكوا “الأعراف” المقدسة من “طوارئ”. ومن ممنوعات ومحرمات ومن تهويل، ورفعوا اعلاماً تشبه عيونهم الجديدة. وأيديهم الجديدة. وصدورهم الجديدة. وإراداتهم الجديدة من لبنان في ثورة الأرز إلى تونس في ثورة الياسمين فإلى مصر في الصورة البيضاء. فإلى اليمن في ساحة التغيير. فإلى ليبيا … فإلى… فإلى… فإلى.

تمرد الانسان على مَسخه دواجن. تمرد الشباب. والكهول والأطفال والنساء والهواء كأنما ثورة ثأر لتاريخ طويل زُجّ الناس فيه كما يُزَجّون في السجون. وما كان سهلاً على الطغاة.. صار اسهل على المنتفضين. وما كان عادياً عند الطغاة. صار مستحيلاً عليهم. تحولت رؤوس الطغاة سجوناً. انتقلت القضبان من سجون الطغاة إلى قصورهم. انتقل الخوف من تلك “الكائنات” (البشرية) إلى تلك الكائنات الوحشية: الطغاة. وإذا كان هؤلاء حاولوا تحويل بلدانهم سجوناً ومزارع لتربية الدواجن، فان الثوار بثورتهم حولوا الحكام وحوشاً. وحوشاً وديناصورات وأفاعي وثعالب وكواسر. استخدموا كل ما عندهم لرد الناس إلى “جِحورهم” التي صنعوها لهم. إلى “زرائبهم” الوديعة. فتكوا بالعُزّل. ارتكبوا المجازر بالمتظاهرين. افلتوا بلطجيتهم وبلاطجتهم وشبيحتهم على الناس. بلا رحمة. ولا شفقة. عاملوهم كما كانوا يعاملونهم في السابق كدواجن منذورة للذبح. والسلخ والتقطيع، قالوا إنهم مجرد “دواجن” ومن المستحيل أن يستعيدوا انسانيتهم المسلوبة.. قالوا إنهم و”دعاء” أبديون، حولتهم المؤامرات الخارجية والأيدي الخارجية والأموال الخارجية وإسرائيل وأميركا وأوروبا وبعض العالم العربي.. أعداء “لوطنهم” ثواراً (أي عملاء). فالديك السابق صار عميلاً. والدجاجة البياضة صارت عميلة. والنعجة صارت عميلة. والشجرة صارت عميلة. والطرقات التي يسلكونها عميلة. والملابس عميلة والمناخير عميلة. والأعلام التي يرفعونها عميلة… كل شيء صار في عيون الطغاة عميلاً. إنها المؤامرة. إنها المؤامرة. إنها المؤامرة المدبرة من قوى خارجية. فلنعاقب هؤلاء الخونة. ونطاردهم “بيتاً بيتاً” “زنقة زنقة!” داراً داراً. نافذة نافذة. ساحة ساحة. ماء ماء. ضوءاً ضوءاً. “اقطعوا الهواتف”. اقطعوا الكهرباء. اقطعوا الفايس بوك. اقطعوا الجرائد. اقطعوا التلفزيونات. اقطعوا الهواء. اقطعوا طرق الإمداد. امنعوا عنهم الطعام. امنعوا عن رئاتهم الهواء. فليختنقوا وليدفنوا أحياء. وليُرموا في الأقبية والحفر. انهم اعداء الوطن. انهم الناس: أعداء الوطن. إنها الأوطان أعداء الأوطان. انها المدن أعداء المدن. كل شيء عدو. ها هم. لا تدعوهم يفلتوا من العقاب الجماعي. حاصروهم. وكلما تظاهروا قنّصوهم من بنادق منصوبة فوق السطوح. دُسّوا بينهم البلطجية ولا تفرقوا في القتل بين مراهق وقاصر وطفل وشيخ وصبية ومسنة: كلهم أعداء يستحقون الإعدام: روبسبير. تذكروا روبسبير “سفاح الثورة الفرنسية” الذي أعدم في أسبوعين ستة آلاف فرنسي. تذكروا بول بوت واحتذوه يا رجال الأمن. والجيش. والمخابرات. والبلاطجة. والشبيحة. والبلطجية. اخرجوا المجرمين من السجون وسَلّحوهم لكي يساعدوكم على إبادة هؤلاء. انه الجنون العظيم جنون الطاغية غاليغولا مضروباً بجنون هتلر مضروباً بجنون ستالين. مضروباً بجنون ماركوس. مضروباً بجنون بينوشي… اجمعوا كل وحشية هؤلاء وأطلقوها من بنادقكم. ومن مدافعكم. وطائراتكم. ودباباتكم. جُنّ جنون الطغاة. صمدوا. قتلوا. ثم نافقوا. ثم نفقوا. ثم سقطوا. وها هم يتساقطون واحداً تلو الآخر. وهم لا يصدقون ما تراه أعينهم. أتتمكن هذه “الجرذان” وهذه “الكلاب الضالة” وهذه “الدواجن” ان تتمرد على أسيادها؟ وهكذا “تضامن هؤلاء الطغاة في السقوط ولم يتضامنوا في طرق السقوط: بعضهم هرب مع أمواله وأبنائه إلى الخارج. وبضعهم زجّ في السجن مع اولاده وأمواله. والباقون المتساقطون ما زالوا معلقين بين السقوط والسقوط. بين اليأس واليأس. بين الموت والموت. بين القتل والقتل… بين المجزرة والمجزرة.. بين الحصار والحصار: بين القصف والقصف.. تحوّل هؤلاء الطغاة وحوشاً مهلوسة بالعنف.. وعلى قدر ما ازدادت وحشية هذه الوحوش الجامحة ازداد صمود الثوار.

ازدادت مقاومتهم (إنها المقاومون الحقيقيون المُعلنَون كالشمس) واتسعت رُقع ثوراتهم: من الجرد والجبال والأرياف، إلى المدن والجامعات والمساجد والساحات والميادين. كلما تقدّم الطغاة بآلاتهم الجهنمية تقدّم الثوار بأجسادهم الحية، وأصواتهم الساطعة، وغضبهم المضيء، وجباههم الشماء: طأطأت رؤوس الطغاة… وتمرّغت بوحول الدم، وشمخت رؤوس الانتفاضيين لتلامس كل قمة من قمم الأوطان من مغارب العرب إلى مشارقها.. فكأن كل حبة تراب تنتفض كل ذرة رمل تتحرك. كل شجرة تصير مناضلاً وتمشي. تحولت الأمكنة أساطير. والأساطير أمكنة: كأن العالم العربي (الشعب العربي العظيم) كله يخفق اليوم. يخفق بناسه وتاريخه ومستقبله. استرد الشعب العربي حقوقه المسروقة. استعاد رهائنه التاريخيين. استرجع أحلامه المنهوبة. وقف كله وهتف: انا حر إذاً فأنا عربي! أنا موجود بالفعل إذاً فأنا عربي. أنا أقرر إذاً فأنا عربي. أنا أثور على الدكتاتورييت إذاً فأنا عربي. أنا أحطم السلاسل والقيود إذاً فأنا عربي من المحيط إلى الخليج. أنا أقول “لا” لهؤلاء الجبناء إذاً فأنا عربي. أنا أحاكِم هؤلاء اللصوص والقتلة إذاً فأنا عربي: سجّل أنا عربي قالها الكبير الراحل محمود درويش، وها هي تعود هذه الجملة الرائعة! سجل انا عربي وهم العملاء. سجل انا عربي وهم الخوارج. سجّل أنا عربي وهم الخونة.. وهكذا سبقت الجموع المتظاهرة كالشموس الأرضية هؤلاء سبقتهم وهم يستلحقون سقوطهم بما تبقى لهم من أرماق مسمومة قاتلة! والذين لم يلبوا النداء من الثوار بعد من هنا أو هناك لشدة الحصار والقمع.. سيلبونه.

وكل مدينة في بلد عربي ستتحول ساحة للحرية. وكل قرية ستتحول ميداناً للتحرير. ومن تأخر سيلحق بناسه، ومن تخلّف سيزيل عوائق تخلّفه في الجامعات والمدارس والمنافي وفي ديار الله الواسعة.. وهل أقول هذا، أنا الساكن في بيروت، لأنني بعيد من الخطر؟ لا! كُلنّا مررنا في لبنان بزمن الطغاة والقتلة وما زلنا في بعض زمنهم. وما تواجهونه أيها المنتفضون لعروبتهم الديموقراطية واجهناه. والمرارات التي تجرعتموها تجرعناها طويلاً: خمسة عقود والانتفاضات التي تجترحونها اجترحناها في 14 آذار. والشهداء الذين تبذلونهم من أجل الحرية قدمناهم بالمئات. والتخوين الذي تُتهمون به اتُهمنا به من جانب الخونة. والعمالة التي تلصق بكم الصقت بنا من جانب العملاء. والرصاص الذي تتعرضون له تعرضنا له من جانب المجرمين. والتلويث الذي تتعرض له ثوراتكم تعرضنا له. فالآنية تنضح بما فيها: وآنية الطغاة كلها نتن وقذارة ودم. والبروباغندا الكاذبة التي تشوه وجوهكم الناصعة تعرضنا لها.. ولكن كل هذه تفاصيل يا أخواني المناضلين الشجعان البواسل الأنقياء في مصر وتونس وليبيا واليمن و.. و.. و.. و.. (براو) وغداً في.. في.. وفي. واليوم في..وفي.. وفي..

(أرأيتكم كيف أن كلماتي أحياناً مبتور: سامحوني وتعرفون السبب!) كل الأمكنة مرشحة لتكون ساحات للثورات. وكل الناس مشاريع ثوار. فيا لهذا الزمن الرائع! ويا لهذا الزمن الذي عشناه لنشهده، انشهد فيه تهاوي جبال النفايات على الدكتاتوريين وعائلاتهم الفاسدة واللصة والقميئة والحقيرة والمجرمة! آه! لربما! انعمت علينا الأقدار ان نعيش ونرى أحلاماً تمشي أمامنا. وآمالاً تتفجر كالينابيع من حولنا. وأصناماً تُحطّم في كل الجهات. وساحات تمتلئ من كل الجهات! انه شتاء الجنرالات الأخير. يا أهلي. شتاء البلطجية من كل الأصناف: بلطجية الأنظمة (العائلية) الأمنية، والاقتصادية والسياسية والعسكرية. بلطجية نهب الثروات ، بلطجية القمع.. زمنهم انكسر عليهم! وها هم يتقهقرون خلف دخان نيرانهم القاتلة… امام زحف الأحرار. ها هم يتضاءلون أمام الجموع الكبيرة.. ها “بلطجيتهم” وبلاطجتهم… و”شبحيتهم” تلعب اللعبة الأخيرة… اليائسة، لعبة الانتحار.

الطغاة ينتحرون يا أخواتي.. عندما يظنون انهم ينحرون.

انهم اليوم امام قضبان السجون التي تنتظرهم!

أما “المثقفون” و”الإعلاميون” و”الخبراء” و”المسؤولون” والأحزاب الذين يساندونهم… أو يتواطأون بصمتهم أو بصوتهم أو بأقلامهم معهم. فقد سبقوهم إلى السقوط.. وسقوطهم لم يكلف أكثر من ثلاثين فضة وربما أقل!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى