صفحات الناسوليد بركسية

“ما بدي كون بنت بشار الأسد”/ وليد بركسية

 

 

 

لا تعود عفوية الفتاة السورية الصغيرة التي صرخت أمام كاميرا النظام السوري “ما بدي كون بنت بشار الأسد”، الخميس، إلى شجاعة فائقة في شخصية المعارضة العنيدة المفترضة لدى الفتاة التي يبدو عمرها في حدود أربع سنوات. بل هي أقرب إلى خوف عميق ترسخ عاماً بعد عام في روح الفتاة التي لم تعرف طوال حياتها سوى الموت والحصار والجوع والحياة في الملاجئ.

وظهرت الفتاة في لقاء على شاشة “الإخبارية السورية” الرسمية، ومعها والدها المسن الذي بدا مكسوراً ومحطماً وهو يحيي جيش النظام ورئيس بشار الأسد، قبل أن يقول أن ابنته هي واحدة من بنات بشار الأسد، في إشارة للولاء الكامل للسلطة. لكن الفتاة صرخت فجأة برفضها للطرح! وفيما حاولت الكاميرا الابتعاد عن المشهد كان الأب يصرخ ويقسم كي يقنع ابنته بقول الكلمات الراضخة من دون جدوى.

وربما لن يعرف أحد هوية الفتاة الصغيرة ولن يهتم أحد بمصيرها حين تكبر، وربما لن تتذكر هي شخصياً المقابلة في المستقبل. لكنها لن تنسى أبداً الخوف الذي عاشته في ظل الحصار الأسدي للغوطة الشرقية، ولن تنسى الموت اليومي والحياة الدائمة في الملاجئ حيث تنعدم الظروف الإنسانية، بفعل الحصار والحرب المستمرة ضد المدنيين هناك منذ العام 2013، وبالتأكيد فإنها لن تسامح وتغفر بل سينمو معها شعور بالظلم طالما أن العدالة بعيدة عن التحقق في البلاد.

وعلى الأغلب فإن الفتاة نفسها، مثلما يُظهر رد فعلها، لا تعرف ما هو بشار الأسد أصلاً، وربما لا تدري أصلاً أنه “إنسان” و”بشري”، فخوفها الطاغي منه يرجح أنها كانت تسمع باسمه في كل مكان من حولها، كقاتل وحشي للأطفال ومتسبب في الحرب. وربما كان أهلها يدعون عليه أمامها، ويلقون باللائمة عليه شخصياً في مقتل أطفال ومدنيين آخرين، طوال السنوات الماضية. ما جعله في عقلها البريء أقرب إلى “بعبع” من حكاية خيالية أو وحش يتربص بالأطفال كي يقتلهم من أجل متعته الخاصة، وهو وصف لا يخلو من الدقة.

وبلغت حصيلة الضحايا المدنيين الذين قتلوا منذ اندلاع الثورة السورية في آذار/مارس 2011 حتى مطلع آذار/مارس الجاري إلى ما لا يقل عن 217764 بينهم 27296 حسب إحصائيات الشبكة السورية لحقوق الإنسان فيما أفادت حصيلة جديدة لـ”المرصد السوري لحقوق الإنسان” أن عدد القتلى المدنيين في الغوطة الشرقية المحاصرة قرب دمشق بلغ أكثر من ألف منذ 18 شباط/فبراير الماضي، معظمهم من الأطفال. وقد يكون بينهم أطفال كانوا أصدقاء للطفلة الخائفة أو عاشت معهم في الملجأ ولعبت معهم تحت الأرض وتحدثت معهم بأحلام برئية عندما يخرجون يوماً ما إلى ضوء الشمس، لكن لم يسعفهم الحظ بالنجاة وقتاً أطول.

يذكّر ذلك بمقطع فيديو مروع انتشر قبل أيام لطفلة سورية يحاول فريق الدفاع المدني إنقاذها وهي تصرخ: “بدي أطلع مع أمي”، ومقطع فيديو آخر لطفل سوري عالق بين الأنقاض ويحاول فريق الدفاع المدني إعطاءه قليلاً من الماء وهو خائف ويريد الخروج فقط من بين الركام الذي شاهده وسمع عنه في حالة أطفال آخرين بلا شك. ويضاف إلى ذلك عشرات المقاطع التي توثق حياة أولئك الأطفال في ظروف وحشية لم يمتلكوا يوماً أي رأي بشأنها.

هذا الجيل من الأطفال السوريين الذي عاش طوال حياته في ظل الحرب ولم يعرف شيئاً غير الدم والخراب والقهر والجوع والخوف في أقصى درجاته، لم يعيشوا في سوريا التي قامت الثورة السورية لتغييرها، بل عاشوا في عالم مواز أقرب لديستوبيا عميقة من اليأس حيث لا إمكانية لنجاتهم بينما هم مستهدفون من قبل جيوش وطائرات وقذائفهم تستهدف وجودهم على مر السنوات، وكان ذنبهم الوحيد أنهم خلقوا على الطرف الخاطئ من الجبهة، لا أكثر.

هذه الفتاة، وبقية أطفال الغوطة ومناطق آخرى كإدلب، لا يمكن أن يحبوا قاتلهم ومسبب خوفهم الأساسي، وحتى لو انتقلوا إلى “بر الأمان” وعقد أهلهم المصالحات إلا أن الرعب الذي عاشوه طوال سنوات حياتهم الأولى سيرافقهم إلى الأبد. والصدق والعفوية التي عبرت بها الطفلة عن خوفها الأكبر، بشار الأسد، يختصر كل حياتها القادمة وحياة بقية الأطفال المماثلين لها، والذين ينتظرهم مستقبل مجهول تماماً، بين انتقام النظام “المنتصر” وتهميشه لهم في أفضل حال وبين دوامة العنف التي قد تمتصهم إليها في أي لحظة، من دون الحديث عن احتمالات الفقر والاستغلال والبؤس المحتملة.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى