صفحات الرأيياسين الحاج صالح

ما بعد الاستعمار؟ ما بعد الاستبداد؟ أم ما بعد الديموقراطية؟/ ياسين الحاج صالح

 

 

من موقعٍ سوريٍ وشرق أوسطي، تنظر هذه المناقشة في فكرة «ما بعد الديموقراطية» كشرطٍ عالميٍ محتملٍ اليوم. مخاطر عالم ما بعد ديموقراطي كثيرة، فهل يوفر فرصاً أيضاً؟

«ما بعد الاستبداد»

نشرت الجمهورية في منتصف تموز 2016 مقالاً للصديق ساري حنفي يدعو فيه إلى «مقاربة ما بعد استبدادية»، بالنظر إلى عدم كفاية المقاربة ما بعد الاستعمارية التي يراها، بحق، نازعة إلى الصمت عن وقائع الاستبداد في البلدان المستعمرة سابقاً. ما يبدو غير كافٍ في المقاربة ما بعد الاستعمارية، فضلاً عما قاله حنفي، هو أنها، إذ تمنح الاستعمار (الكولونيالية) موقعاً مركزياً في تحليل أوضاع البلدان المستعمرة سابقاً، لا تتيح تعريف «الاستقلال»، لا كحدث تاريخي وقع قبل جيلين أو ثلاثة أجيال، ولا كمساحة ممكنة لديناميكيات اجتماعية وسياسية واقتصادية «مستقلة ذاتياً» في هذه البلدان، ولا كهوامش فاعلية ذاتية لدواخل هذه البلدان وحاضرها. ومن جهة أخرى تعترض المقاربة ما بعد الاستعمارية على المركزية الأوربية أو الغربية، إلا أنها هي ذاتها متمركزة حول أوروبا والغرب، وإن من موقع اللوم والتأثيم. وهو ما كان مناسباً على الدوام لنخب قومية ودينية و«أصلانية» متنوعة، تجد في عزل مجتمعاتها عن العالم الشرط الأمثل للتحكم بها.

ليس واضحاً أيضاً نطاق الصلاحية الجغرافية لتصور حنفي لمرحلةٍ ما بعد استبدادية: هل تشمل البلدان المستعمرة سابقاً كلها، الهند مثلاً التي لا يبدو أنها عرفت «استبداداً» بعد الاستعمار، مثلما هو حال أفريقيا وأميركا اللاتينية، فضلاً عن الشرق الأوسط والعالم العربي؟ وفيما يخص مجالنا، قد نتساءل عما إذا كانت الثورات العربية نقطة انعطاف نحو مرحلة ما بعد استبدادية؟ التعثر الحالي، الكبير، للثورات، لا يشجع على ذلك اليوم. وفي المستقبل، من يدري؟

غير أن الكلام على أوضاع ما بعد استبدادية، وفي العالم العربي أكثر من غيره، يمكن أن يكون مبعث سوء تفاهم كبير، من زاويتين. فمن جهة لا نتوفر في الإطار العربي على نظرية أو تراكم نظري أساسي في تحليل «الاستبداد» الذي عشناه في عالمنا في زمن ما بعد الاستعمار، ونفتقر بشدة إلى دراسات معمقة تتناول العلاقة المحتملة بين «الاستبداد» وبنى السيطرة الدولية في مرحلة ما بعد الاستعمار، أو تتضمن تحقيباً للاستبداد الحديث خلال العقود المنصرمة وتمييزاً لأوجهه باختلاف البلدان، أو تضيء تفاوت مستويات الاستبداد شدة ودواماً، أو تطرح تساؤلات عن علاقته المحتملة بصيغ استبداد أقدم وببنى ثقافية ودينية موروثة. ومن جهة أخرى، يبدو مفهوم الاستبداد ذاته أكثر عمومية من أن يقول شيئاً مفيداً عن الأوضاع السياسية في أكثر بلداننا، وهو لا يصلح مدخلاً لتناول الأوضاع السورية، مثلاً، دون شغل واسع عليه، ينزع عنه عمومية مبتذلة بلا محتوى نقدي، جعلته مقبولاً حتى لوكلاء حكم سلالي طغموي كالحكم الأسدي.

في مجملها، هذه مسائل يفترض للبحث في «علائق الاستبداد» (إن عارضنا عنوان كتاب عبد الرحمن الكواكبي الشهير) أن ينعم النظر فيها. الموضوع راهن، ولا مجال للمبالغة في أهميته، وفي خصوبته كذلك.

وفي منطقتنا، الشرق الأوسط، يمكن للمرء أن يتحفظ بقوة عن نظرية ما بعد الاستعمار، وعن مقترح ما بعد الاستبداد في آن، وذلك بالإحالة إلى التكوين الخاص المميز لهذا الإقليم الفريد. فمن جهة هناك ضرب من تمديدٍ للشرط الاستعماري عبر الواقعة الإسرائيلية، وعبر حروب استعمارية أو ما بعد استعمارية متكررة مرة كل عقد على الأقل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ومن جهة أخرى، هناك ترسخ لعلاقات الاستبداد السياسية والاجتماعية، وتجمد، بل تراجع، للتحولات الاجتماعية المواتية لمصالح أكثرية السكان منذ أربعة عقود على الأقل، وهذا مع ترسخ مواز في علاقات التبعية الداخلية وفي التبعية متعددة المستويات لمراكز السيطرة الدولية. نحن بصورة ما في الاستعمار وفي الاستبداد، ولسنا في «ما بعد» أي منهما. وما قد تلزم نظرية له لتعريف هذه الصورة الخاصة لتشابك الاستبداد والاستعمار هو النظام الشرق أوسطي كنظام دولي فرعي، ذو علاقة خاصة بالمركز السياسي الأمني الدولي، ما أسميه إمبراطورية الغرب، وتحديداً مركز قيادتها الأميركي (سأعود إلى تناول هذه النقطة أدناه).

«ما بعد الديموقراطية»

على أن المشكلة الأساسية في تصور مقاربةٍ ما بعد استبدادية، نطاقها هو البلدان التي كانت مستعمرة سابقاً، هو ما يبدو من أزمة عالمية في الديموقراطية، وتَلَامُح حقبة مغايرة قد توصف بأنها «ما بعد ديموقراطية» حسب كولن كراوتش. كراوتش أكاديمي بريطاني نشر كتاباً بهذا العنوان في عام 2004، ويركز على نفوذ الشركات الرأسمالية في الدولة، ونزع الصناعة وتراجع وزن الطبقة العاملة، وكذلك الأحزاب السياسية العامة (لمصلحة المنظمات أحادية القضايا) وفتور الناخبين، وتدهور مستوى النخب السياسية، واقتراب الإعلام من الإعلان التجاري في تبسيطيته وسعيه المحموم وراء المثير، وإحالة الخدمات العامة إلى متعهدين خواص. وهو لا يقول إنه لا ديموقراطية في الغرب اليوم، أو إن المؤسسات الديموقراطية معطلة، بل يرى أن فكرة الديموقراطية والتطلعات السياسية والاجتماعية المتصلة بها لم تعد هي مصدر الزخم السياسي والروح الموجهة لعمل المؤسسات والدولة والنخب. وهو يشبّه المسار التاريخي للديموقراطية بقطع مكافئ، تتناظر نقاط الـ «ما بعد» فيه مع نقاط الـ «ما قبل»، لكنها تحمل هياكل وذاكرة ولغة الزمن الديموقراطي الذي يطابقه مع صعود الطبقة العاملة والاشتراكية الديمقراطية. كراوتش يتجنب كلمتي مرحلة وطور، وما قد يبطنهما من مسار تطوري، خطي وحتمي.

وعلى نحو غير مفاجئ، الكتاب مفرط في مركزيته الغربية، ولا يكاد المرء يعلم بوجود شيء في العالم اليوم غير الغرب إن اعتمد على الكتاب وحده. هذا لم يعد مجرد تقصير أو حتى مسلكاً تعسفياً مستمراً بقوة العادة، إنه أوثق صلة بتنظيم للمعرفة وبسياسة للمعرفة تحولُ أكثر وأكثر دون المعرفة، معرفة العالم ومعرفة الذات. الغرب غير موجود، الموجود هو العالم. ومما يستحق التفكيرَ احتمالُ أن الغرب لا يستطيع الوجود إلا بالقوة في عالم متنوع أوسع منه، وأن هذا أحد جذور الشرط ما بعد الديموقراطي.

والحال أن واقع المركزية الغربية من أوجه الأزمة العالمية للديموقراطية، وللسياسة. الغرب لا يعيش منعزلاً ولا يستطيع الانعزال، وإن صعدت تيارات انعزالية ومحافظة فيه. امتناع الانعزال شرط بنيوي، متولد عن التشابك العالمي، الاقتصادي والتكنولوجي، وشراكة الكوكب، وليس عن تفضيلات سياسية وإيديولوجية لنخب يمكن أن تعاكسها تفضيلات نخب أخرى.

وعلى المستوى السياسي العملي، ينعكس هذا التضارب بين التداخل البنيوي والانعزالية الإيديولوجية في نقاش مضلل إلى أقصى حد، ظهر بجلاء بعد الثورة السورية، يقابل بين تدخل عسكري مباشر، مثل احتلال العراق عام 2003، وبين امتناع مستحيل عن التدخل، لم يكن خياراً جدياً في أي وقت. فإذا كان الأول غير مقبول والثاني غير ممكن، تنفتح مسارب غير مُناقَشَة، وغير خاضعة للمراقبة العامة هي التي سارت عليها السياسة الفعلية. لم يقل أحد أن اللاتدخل مستحيل، وليس خياراً بين الخيارات، وإن التصرف كأنه خيار فعلي مضلل، ويمكن أن يكون غطاء لأسوأ أشكال التدخل، وأن ما يتعين النقاش بشأنه هو التدخل الأمثل، وتالياً العمل على وضع تصور وقواعد لهذا التدخل. ما حصل واقعياً أمام العيون، التي لم تُرِد أن ترى المرئي، هو ليس اللاتدخل الممتنع، وليس التدخل الذي طلبه الضحايا ضد القاتل، بل الأسوأ: التدخل لمصلحة القاتل وعلى وجهه قناع اللاتدخل. لا يتعلق الأمر بجهل أو عدم دراية المتناقشين، بل بالمعرفة عبر التذكر على طريقة أفلاطون: تَذكّرُ شيءٍ وقع سابقاً، احتلال العراق مثلاً، بما يغني عن معرفة أي شيء عما يجري حالياً. ليست هذه مشكلة يسار غربي أو مناهضين غربيين للحرب، بقدر ما يبدو أنها مشكلة تدهور متزايد للنقاش الفكري والسياسي في الغرب والعالم بحيث لا يسعف في التأثير على السياسات، وبحيث تجري هذه في عالم مستقل عنه. السوري الذي يتابع أطرافاً من هذا النقاش، كحال كاتب هذه السطور، لا يزعجه موقف أكثر يساريي الغرب من القضية السورية، بقدر ما يثير حنقه تفاهة النقاش، وجهل أغلب المتكلمين.

وراء هذا النقاش أو أمامه جرى تدخل معزز لـ«النظام»، أعني للاستقرار و«الدولة»، ضد الثورة والفوضى والتمرد. وما جعل ذلك ممكناً هو المركزية الشديدة للنقاش الغربي حول الغرب. اليمين ميال تكوينياً إلى هذه المركزية، واليسار لم يكن لديه شيء غير الاعتراض على «المؤسسة»، فلم يرى شيئاً خارج الغرب، وكان قوة انغلاق فكرية وسياسية وليس قوة انفتاح. الإرهاب نتاج محتمل لدوغما النظام هذه، التي لا تترك مخارج منه ولا توفر سياسة فيه، و«الحرب ضد الإرهاب» استراتيجية لتدعيم النظام، مثلما هو ظاهر جداً في سورية والإقليم ككل اليوم. بهذه الصفة، «الحرب على الإرهاب»، هي في الجوهر حرب ضد الديموقراطية، تجد سندها في أوضاعٍ ما بعد ديموقراطية في الغرب.

وعلى خلفية صعود الانعزالية في الغرب، يمكن لمزيج التشابك العالمي البنيوي والسياسة الانعزالية، والرجعية اليسارية، أن يفضي إلى أخطر الأوضاع: تحصين المجال الإمبراطوري الأصلي، الغرب الأطلسي، وتدخلات خارجية انتقائية متعددة الأشكال. فنحصل من ذلك على أسوأ العوالم: عالم يجمع بين مساوئ التدخل ومساوئ التخلي، على نحو يعرض مصير سورية نموذجاً مثالياً عنه. وليس لنا أن نذهب بعيداً لنجد هذا العالم الأسوأ، فـ«الحرب ضد الإرهاب» ذاتها هي ذلك المزيج التدميري من تدخلٍ ومن تخلٍ، أو من تحصين المركز بالأسوار، بما في ذلك في وجه اللاجئين، ومن غارات مدمرة على المحيط. وهي إن كانت تخرب المناطق والبلدان المستهدفة بها، فإنها ليست أقل تخريباً في نطاقات محاربي الإرهاب. لدينا حرب لا بداية لها ولا نهاية، ولا تعريف واضحاً للعدو فيها، ولا معنى محدداً أيضا للنصر، وبالتالي للهزيمة، وهي ترفع الطلب على الأمن وتطبّع أحوال استثناء يتخلي الناس فيها عن حريتهم مقابل الأمن.

هذا عالم ما بعد ديموقراطي.

«النظام» يكسب

حيال سورية، لا يبدو أن الأمر يتعلق بما بعد ديموقراطية فقط، بل بما بعد السياسة. باللاسياسة على أية حال. لم يُفتح باب سياسي قط خلال ما يقترب من ست سنوات، رغم ثلاث جنيفات وثلاثة مبعوثين دوليين، وما لا يحصى من اجتماعات دولية.

تحطمت الثورة السورية ليس على الجدار الصلب للدولة الأسدية، بل على الجدار الأصلب للنظام الدولي الذي شكل سند حماية لنظام الأسديين. وهذا تشكيل سلطاني محدث، يجمع بين واجهة جهازية ومظهرية وخطابية حديثة، وبين علاقات ومعان استتباعية قديمة، ويعرض طاقة إجرامية لا يكاد يكون لها نظير في عالم اليوم. التدمير مستمر وكفالة بقاء السلطان المحدث مستمرة، ليس من قبل الروس والإيرانيين فقط، بل والأميركيين وأكثر القوى الأوروبية، وهذا رغم نصف مليون ضحية وتهجير أكثر من نصف السكان، ورغم البراميل المتفجرة وقصف المدارس والمشافي والأسواق، ورغم صناعة التعذيب في المعتقلات، ورغم الحصار والتجويع، الموت جوعاً الذي لا يستيطع أحد أن يقول إنه لا علم له به. ليس هناك نقص في المعلومات على مستوى المنظمات الدولية أو القوى الدولية الفاعلة، لكن هناك نقص إدارة للمعلومات توظفها في خدمة خيارات سياسية لم يكن بينها مساندة ضحايا السلطان المحدث في أي وقت. وهناك تصلب ونقص في الحساسية على مستوى الثقافة والمعلومات والإعلام، ربما يعكسان تشوشاً وحيرة حيال ما يجري، أسهمت تنويعات المواقف المتاحة من الحدث السوري في تغذيتهما وليس في الخروج منهما. كأنما هناك حاجة إلى الحيرة، إلى «التعقيد»، كأنما الازدواج الوجداني حيال الحدث السوري (لا يليق أن تكون ضد ثورة، لكنك ضدها فعلاً) يجد في التشوش والشكوى من التعقيد مخرجاً.

انشغلت القوى الدولية النافذة، بالمقابل، بمجموعات دينية عدمية، تجاهر بمعاداة الغرب وتعمل فعلاً على إيذائه، لكنها تسببت بأذى أوسع بما لا يقاس للسوريين والعراقيين وقتلت منهم ألوفاً، وإن يكن أذاها على السوريين أقل بدوره بما لا يقاس من أذى الدولة الأسدية وحُمَاتها. ترى القوى القائدة في الغرب، ويكرر وراءها ما لا يحصى من صحفيين ومراكز أبحاث غربية ودولية، أن داعش هي الخطر الأكبر وبشار هو الخطر الأصغر. وزير الخارجية البريطاني الجديد بوريس جونسون لم ينشز عن كورس واسع حين قال ذلك في مقالة له قبل أن يصير وزيراً عن سيطرة الدولة الأسدية مجدداً على تدمر وطرد داعش منها. الوزير لا يعلم، أو ربما يعلم، بسجنٍ من الأسوأ في العالم اسمه سجن تدمر، ولا يعلم شيئاً عن سكان تدمر الذين نهبت بيوتهم وأحرق بعضها بعد نهبها من قبل القوات الأسدية «المحرِّرة».

قضيتنا كانت، ومنذ البداية، تحتاج إلى جهد كبير لشرحها، بينما كانت تبدو لنا بديهية وواضحة: انتفاضة شعبية في مواجهة نظام طغيان طائفي، جعل من سورية ملكاً وراثياً، وأفقر السوريين ونهب موارد البلد العامة، واشتهر بممارساته الإجرامية بحق السوريين واللبنانيين والفلسطينيين. كنا نوضع دوماً في وضع دفاعي بينما كنا نظن، كديموقراطيين منخرطين طوال عقود في الصراع ضد الدولة الأسدية، أننا غير مضطرين لتبرير أنفسنا وأن من يتعين أن يبرر نفسه هو الدولة الأسدية. هذا الصمم هو الوجه الآخر لتفاهة نقاش معظم اليسار الغربي حول سورية. كان كل اليمين الغربي، وأكثر اليسار، على تشكك بنا أكثر من تشككهم بنظام كانوا يسلمون بأنه سيء فقط كي يقفزوا عن ذلك ويسائلونا عن البديل، عن وضع الأقليات وحقوقها، عن الإسلاميين، عن كل شيء إلا عن ضرورة التخلص السريع من قاتل عام، إن لم يكن لمساعدة السوريين فمن أجل عدم السماح في العالم الواحد الذي يجمعنا، وبيسر تنتقل العدوى فيه، بنموذج للحكم يقوم على القتل المنظم والعشوائي للبشر. لكن في السؤال عن البديل عن قاتل عام إهانة لذكاء كل إنسان وضميره، وإهانة لنا نحن السوريين، ولعل في خلفيتهما خوف الإمبراطورية من مساحة فراغ لا ترى فيها انعكاس صورتها. أو بعبارة أوضح، أولوية النظام. كل ما هو نظام يكسب ضد كل ما هو خروج على النظام.

يحمل هذا الوضع المستغرب أحد أوجه الاستثناء الشرق أوسطي في المراكز الإمبراطورية: الحكومات سيئة، لكن المجتمعات أسوأ. حيال سورية منذ عام 2012، خرج من التداول أي كلام على الديموقراطية، من قبل القوى التي كانت صدعت رؤس الدنيا بمونولوجات لا تنتهي عن الديموقراطية طوال عقود. وبتصاعد، حضر في الوقت نفسه الكلام على «حماية الأقليات». حمايتها من «الأكثرية» طبعاً. وفي تكوينها، هذه العقيدة التي عرفت موسم ازدهار جديد بعد موسمها الاستعماري التقليدي، لا تنفتح على إشكالية الديموقراطية بحال.

«الخبراء» في الشأن السوري يعرفون أشياء كثيرة، ويعلمون الكثير عن طغيان الدولة الأسدية وطائفيتها ونهبها، لكنهم يبذلون لها تفهماً كبيراً مع ذلك انطلاقاً من مضمراتهم الدولتية المتعالية التي لا تريد أن نواجه مشكلات مجتمعنا وتاريخنا دون وصاية الإخوة الكبار في الغرب. هذا هو التكوين القياسي للمبعوث الدولي، الغربي أو الأممي، إلى منطقتنا، تكوين مضاد للديموقراطية وليس غير ديموقراطي فقط. ديمستورا مجرد عينة، وعلى رفوف سوبرماركت الموفدين الأمميين أشباهه كثر.

كانت الصفقة الكيماوية المخزية، وهي أسوأ من المذبحة الكيماوية ذاتها، ترخيصاً للتوسع بالقتل من قبل نظام لم يكن مقصراً فيه. المُرخِّصون قوى تشغل عملياً موقع القمة في النظام الدولي، وتقود النظام العالمي، وتحوز دون أدنى شك أفضل المعلومات عن الجريمة، وبحكم موقعها في قمة النظام الدولي والمؤسسات الدولية، وبحكم قدرتها، تتحمل أكثر من غيرها المسؤولية السياسية والأخلاقية عما يجري في العالم. ليس فقط لم تجر حماية الضعفاء ولم يعاقب القاتل، بل رُخِّص له بالاستمرار وحظي بحصانة عملية، وتوسع فعلياً باستخدام البراميل المتفجرة منذ ذلك الوقت. هذا ليس واقعة مفاجئة أو حساباً خاطئاً مفاجئاً. إنه متصل بغرابة النقاش حول سورية في أميركا والعالم: نقاش متجه نحو الماضي، جاهل بما يجري، يغفل عمداً مصادر المعلومات المحلية ويتشكك في تمثيل المحليين لأنفسهم، ويغذي الحيرة والتشوش بدل أن يعمل على جلائهما. وفي عمقه هو بالذات انحيازات بنيوية، تحيل إلى الهوس بالنظام والخوف العميق من المجتمعات في الشرق الأوسط. نتذكر السيرة غير العطرة لعبارة «الشارع العربي» في الإعلام الغربي، واجترار صورة العربي الغاضب.

هذا من أرث خمسينيات القرن العشرن وستينياته، قبل أن تأتي الإسلاموفوبيا بعقود.

الأشرار الواضحون

ومنذ ذلك الوقت الكيماوي، وكأنما بإيعاز من سلطة أعلى، تعرض عموم الناس في الغرب والعالم إلى قصف مركز بأخبار… داعش. يبدو هذا القصف أخفت في عام 2016 الموشك على الانقضاء، لكن نحو عامين ونصف انقضت على مقالات وصور لا تنتهي تصور إجرام داعش البشع فعلاً، والمستحق للتصوير وحشد الاعتراض السياسي والأخلاقي العالمي عليه. وفي الوقت نفسه أخفيت جرائم النظام الأسدي، وهي أوسع نطاقاً وأشد هولاً وإن تكن أقل مشهدية، ولم نعد نجد شيئاً تقريباً عنها. وهو ما يشكك بالأساس الأخلاقي للانشغال الواسع بداعش، تشكك يعززه ما يبدو أن هذا الانشغال يكتفي برد داعش إلى «الإسلام»، على نحو ما تفعل هي ذاتها، ولا ينظر إلا قليلاً في بيئة تولدها ونشاطها وسلسلة أنسابها التاريخية، والظواهر المشابهة لها في التاريخ الحديث والمعاصر.

وإذا أضفيت على داعش غرابة مطلقة، جرى إخراجها مع عالم السلفية الجهادية، والإسلاميين عموماً، من السياسة ومن العدالة (ومن العلوم الاجتماعية)، ما ينفتح عملياً على الإبادة حصراً. حتى منظمات حقوق الإنسان الدولية لم تقل يوماً شيئاً يستشف منه بوجوب إرفاق المواجهة العسكرية لداعش مع مسار سياسي يفتح باب إعادة إدماج قواعد داعش في الحياة الاجتماعية والسياسية في بلدنهم، ويسهل عزل القيادات ورؤوس التخطيط عن الأتباع، أو يدرج معالجة مشكلة داعش في سياق ضرورة تغيير البيئة السياسية في البلدين الذين ظهرت فيهما، العراق وسورية. أو يفكر بوجوب تقديم الدواعش إلى محاكم عادلة أو تأسيس محكمة خاصة بجرائم داعش والقاعدة. في عالم اليوم فئة من الناس لا حق لها في السياسة ولا العدالة، ولا حتى في أن تُحلَّلَ بالأدوات التي جرى تطويرها لتحليل المجتمعات والظواهر الاجتماعية المعاصرة. ويتسابق يسار انتهازي مع يمين عنصري على نفي أن لها قضية عامة من أي نوع. هذا الاستثناء من العدل ومن العقل لا يعود بتسويغ بعدي على داعش فقط، وإنما هو يفتح باباً لاستثناءات أخرى، من شأنها أن تلغي في النهاية العدالة والإنسانيات.

الشيء الوحيد الذي نافس الهوس بداعش هو الهوس بـ…رجب طيب أردوغان. طوال عامين قبل الانقلاب الفاشل في منتصف تموز كان بطل العالم في الشر هو الرئيس التركي، وليس بشار الأسد الدائب منذ سنوات على قتل السوريين، وليس السيسي الذي صعد على أكتاف الاحتجاج الشعبي لينقلب على حكم الإسلاميين المنتخب، وليس نتنياهو الدائب على إبادة الفلسطيين سياسياً (وفيزيائياً حين يقرر أن الأمر يقتضي)، وليس بوتين الذي يحتل أوكرانيا قبل أن يتدخل في سورية ويقصف المشافي والأسواق… الشرير العالمي وإبليس العالم المعاصر هو أردوغان.

ولم نكن بعيدين في مطلع هذا العام عن اعتبار الرئيس التركي هو الشرير في الصراع السوري ذاته، وأنه لولاه لما كانت هناك مشكلة في سورية. الرجل المتسلط حقاً ملامٌ على تراخيه في ضبط حدود بلاده مع سورية، ما سهل دخول الجهاديين إليها، وهذا لوم وجيه؛ وعن عدم منع عائدين منهم إلى بلدانهم الأوروبية، وليس لهذا وجه حق؛ وعن لجوء سوريين وغيرهم إلى أوروبا، ولا وجه حق لهذا أيضاً، فلماذا تكون تركيا هي المستقر الطبيعي للاجئين هُجِّروا من أوطانهم بدلاً من بلدان أغنى بكثير، يتجه تفضيلهم إليها؟ ولم يعد الأمر يتعلق بمآخذ وجيهة من قبل إعلام حر وعقلاني، بل بعداء ماهوي مشحون بالكراهية، يُسوِّغ نفسه بمآخذ متنافرة، ويعمل على نحو تمييزي. حتى إذا وقع الانقلاب التركي في تموز 2016 كانت القوى الغربية كلها أقرب إلى تمني نجاحه، ولم تُدِنه بكلام واضح إلا بعد أن تأكد فشله. كان المشهد غريباً، فتركيا حليف تاريخي للغرب، وعضو في حلف الناتو، لكن طورت النخب الغربية والرأي العام الغربي موقفاً شديد العدائية لحكومتها لأسباب يتصل أبرزها باستقلالية تركية متزايدة، وبعضها بمحصلات سياسات الغرب في الغرب ذاته (أوضاع المهاجرين وانخراط بعضهم في «الجهاد»)، وفي سورية (الإبادة المستمرة وكفالة بقاء المبيد)، وفي الشرق الأوسط. بالمقابل، لا تكاد تُلَام الحكومة التركية على حربها الكردية، وهي مستحقة للّوم الأكبر على هذه الحرب من وجهة نظر ديموقراطية.

المثالان من سورية وتركيا يحيلان إلى خلل أكبر من أن يكون عارضاً في عالم اليوم.

السياق الدولي نفسه متسم بنمو التيارات القومية واليمينية والنزعة الدولتية في الغرب. وبظهور سياسي طائفي مثل ترامب في أميركا، يُعلي صراحة من الأمن على الديموقراطية، ويعادي النساء والمسلمين والأقليات. فاز ترامب في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر رغم أن أكثر التوقعات كانت ترجح العكس، ما يُحتمَل أنه يشير إلى تضليل ذاتي منتشر في المجتمعات الأفضل نفاذاً إلى المعلومات عن ذاتها وغيرها، وإلى أن تحولات في العمق لما تغدو موضع تفكير ونقاش عام. ويفتتن يمين دولاني ويسار ضد-إمبريالي في الغرب بقتلة من أمثال بوتين، بما يثير التساؤل عما تكون قضية هؤلاء الأخيرين، وعما إذا لم يكونوا يلغون أنفسهم بأنفسهم كقوى اعتراض في بلدانهم وفي العالم. قد يرتد الأمر إلى مخيلة إمبراطورية ظلت مشدودة إلى الزمن السوفييتي، لكن في اليسار الغربي تكوين إمبراطوري ذاتي، حمله من ملابسات ولادته في ظل التوسع الرأسمالي، وتطلعه إلى أن يكون إمبراطورية بديلة، اشتراكية. ومن تكوينه هذا حمل استعداداً لأن لا يرى غير الإمبراطورية حتى وهو يعارض أوجهاً من سياساتها. ما يمكن أن يكون نقيضاً للإمبراطورية هو رؤية غير المرئيين وسماع الأصوات المكتومة، وليس مشاطرة الإمبراطوريين الأصلاء احتكار القول والرؤية.

هذا مزيج من انعدام الحساسية ومن قصر النظر ومن الغرور والتمركز الأناني حول الذات.

هناك قوقعة «سوليبسيزم» (أنا وحدي موجود في العالم) سياسية صلبة تسكن فيها قطاعات واسعة من نخب الغرب، ويحسن مفكرو الغرب ومناضلوه إلى أنفسهم إن تحدوها بالمطارق. وأول تحديها هو أن يفكروا هم أولاً أن هناك غيرهم في العالم، أن الغرب وتمثيلات الغرب ليست كل ما هناك في العالم. يفتقر العالم اليوم إلى قيادات فكرية وأخلاقية، بقدر ما يفتقر إلى قيادات سياسية. لوقت طويل، كان المثقف الغربي في موقع قائد، أو مطور أفكار ونظم تفكير قائدة، لكن هذا الموقع يزداد شغوراً اليوم.

الإرهاب وحربه

الكمون الديموقراطي العالمي يبدو اليوم في أدنى حالاته. هذا يصلح تعريفاً للشرط ما بعد الديموقراطي. الشرائح المفقرة والدنيا في كل مكان من العالم تغدو في أوضاع أصعب بفعل السياسات الليبرالية الجديدة، وضعف حركات الاعتراض الاجتماعي والسياسي، وتدهور السياسة إلى مستوى إداري تسييري يحاكي إدارة الشركات، حسب كراوتش في كتابه المشار إليه فوق. يتدهور مستوى السياسيين في البلدان الأكثر تقدماً، وينفصلون أكثر وأكثر عن المعاناة البشرية وعن الشرائح الأفقر في مجتمعاتهم، ويعيشون في عالم من النخب الاقتصادية والسياسية المشابهة لهم. الحريات السياسية لا تتقدم. النزعة الدولانية تصعد. وأقرب شيء إلى أن يكون سردية عالمية هو الحرب ضد الإرهاب، وهي متمركزة حول الدولة، وتقوي من هم أقوياء أصلاً على المستوى العالمي وعلى مستوى كل بلد على حدة، وتضعف من هم ضعفاء. سبق القول إنها بمثابة حالة استثناء عالمية، يتمثل أخطر مفاعيلها، كما نعلم من تجربتنا السورية، في إلغاء الحس بالاستثنائي فعلاً، وبخلط مجالي السيادة (الواحد) والسياسة (التعددي)، ومزيد من تآكل الديموقراطية في البلدان الديموقراطية، أو التراجع عنها وتقويضها في بلدان كانت تتطلع إليها، أو تشجيع الطغيان و«حماية البنية التحتية الأمنية» مثلما أملت بخصوص سورية هيلاري كلنتون في كتابها: خيارات صعبة.

من المستغرب، بالمناسبة، أن سيرة «الحرب ضد الإرهاب» لم تكد ترد إلا على نحو عابر في كتاب كراوتش، الصادر بعد 11 ايلول واحتلال أفغانستان والعراق، رغم أنه كان من شأنها تدعيم أطروحة ما بعد الديموقراطية التي كرس كتاباً لها. فإذ تتوافق مع صعود الأمن وخبرائه وشركاته وصناعاته، ومع سرية السياسات والدبلوماسية وتراجع المراقبة الاجتماعية لها، ومع نظريات «حضارية»، بل «إقطاعية»، عن العالم المعاصر، ترده إلى الثقافات والذهنيات، ومع عودة سياسة الحدود والجدران، وتعازل الجماعات والدول وتآكل العام، محلياً وعالمياً، إذ تتوافق مع هذه الظواهر فإن الحرب ضد الإرهاب تسهل التحول ما بعد الديموقراطي وتثبته.

الغرب يتحول أكثر وأكثر إلى «حضارة»، مركب من القوة والثروة والتنظيم والثقافة الخاصة ينغلق على نفسه، ينعزل عن غيره انعزالاً محمياً بالقوة، بالاستعداد للضغط على زر نووي وقتل 100 ألف إنسان (أقل رأس نووي بريطاني يقتل 8 أضعاف الـ 140 ألفاً الذي قتلتهم قنبلة هيروشيما، أي فوق مليون. السيدة تيريزا ماي التي قالت إنها مستعدة لضغط الزر النووي لا تستطيع قتل 100 ألف فقط). هذا بينما يجري تعميم الخوف، وتصعد إلى صدارة أجندة النقاش العام في أوروبا والغرب قضايا المهاجرين واللاجئين والإرهاب.

يمكن تصور سورية اليوم كفشل بكفالة دولية لثورة ضد الطغيان، لكن يمكن التفكير فيها أيضاً كأحد أوجه عالم ما بعد الديموقراطية. وإلى هذا العالم تنتمي ظواهر مثل داعش وشبكة القاعدة المعولمة، وهي دول مضادة، لا سياسة فيها ولا مجتمع. وإلى العالم نفسه تنتمي روسيا البوتينية التي يديرها قيصر ثري حديث، يوهن جميع القوى السياسية في بلده، ويتوسع خارجه، والصين التي فيها اقتصاد كثير وسياسة قليلة. ومن هذا العالم تركيا، التي يتطور فيها نظام تسلطي أضاع وجهة عامة يمكن أن تجمع سكان البلد بين معاداة الغرب والحرب الداخلية، وسياسة انتقام متوترة إثر الانقلاب الفاشل في الصيف الماضي. ومنها بالطبع صعود اليمين الشعبوي في الغرب. ليس هناك شيء إيجابي يجمع بين هذه الأوضاع والحركات، لكن لا شيء منها بالمقابل يبدو غريباً في عالم يقوم أكثر وأكثر على تجاور وتعازل أشياء من كل نوع، دون وجهة مشتركة ودون ديناميكية جامعة ودون نظام منسِّق.

ولا تتطلع «الحضارة» إلى التعمم العالمي، بل إلى إعادة إنتاج ثنائية حضارة/بربرية، نحن وهم، وتأمين نحن/الحضارة ضد هؤلاء الأخيرين. مفهوم الحضارة مفهوم خطير في كل وقت لأنه يحيل إلى ما هو فوق ومنظم وممتاز ونتاج، وليس إلى ما هو تحت وفوضوي وعادي وإنتاج. وهو بذلك يتقابل مع مفهوم الديموقراطية الذي يحيل إلى الشعب، حياته واختلاطه وإنتاجه. كانت الديموقراطية نموذجاً جاذباً عالمياً، حاولت ربطَ نفسها بها بصورٍ مختلفة حركاتٌ متنوعة، غير قليل منها ليست ديموقراطية بحال. تتضمن الديموقراطية مبدأ السيادة الشعبية كمصدر لشرعية كل سلطة، وأن الشعب، عموم الناس وكل فرد منهم، مالك لولاية سياسية لا تنفصل عنه أو تُستَلَب منه، وهو الأصلح لتقرير ما يناسبه، وأن من يتأثرون بقرارات أية سلطات عمومية لهم الحق في مراقبتها ومساءلتها والتأثير على طرق عملها، والعمل على تغييرها. تقوم الديموقراطية على المداولة العامة والنقاش، ولذلك يلزم دوماً تعميم التعليم ونشر المعارف من أجل أن يطور الناس تصورات مستنيرة وعادلة لمصالحهم، تحترم مصالح غيرهم ولا تتعارض مع التنسيق بين مصالح متضاربة.

هذا يتراجع في كل مكان لمصلحة هياكل سلطة ضخمة، تحتاج إدارتها إلى «علم» لا يتاح لغير قلة من السياسيين المحترفين، والمعلومات في الشؤون المهمة قلما تصل إلى عموم الناس، وتبقى ملك النخبة. ومنابر النقاش العام من وسائل إعلام وجامعات ترتبط إما بسلطات سياسية أو دينية، أو بمصالح اقتصادية نافذة، تتحكم بعرض الحجج وبمن يتاح لهم الكلام أصلاً. ومنذ نحو ربع قرن تنشر الحكومات المختلفة الخوف بما يرفع الطلب على الأمن، الشيء الذي يناسبها توفيره ويعزز سلطتها. والحرب على الإرهاب يمكن النظر إليها كاستراتيجية للحكم في البلدان المحاربة، وليس فقط كمواجهة مع عدو شبحي مهدد. فأن يكون لدينا حرب وإرهاب في عنوان مقتضب هو مما يوجب التصاقاً مضاعفاً للسكان ببعضهم وبرُعاتهم، على نحو ما تتكتل الأغنام حول بعضها وحول الراعي حين يداهمها خطر. وبقدر ما قرنت «الحرب ضد الإرهاب» الإرهابَ جوهرياً بالإسلام، فقد عززت تمايزات المعنى و«الحضارة». المفهوم الأخير يوفر إطاراً إيجابياً للوحدة في المجتمعات الأغنى والأكثر امتيازاً، التي تتجه نجو عصر إقطاعي جديد، يفصل إقطاعاته عن بعضها الأسوار والجدران التي ميزت العالم ما قبل الحديث. وما يبقى من الديموقراطية ينقلب إلى عنصر كرنفالي شبه فولكلوري من عناصر الحضارة، يزيد تمايزها ويعزز انغلاقها. الاستحواذ الحضاري الغربي على الديموقراطية يلغي البعد الشعبي والإنساني للديموقراطية، ويجعل منها خاصية ذاتية لثقافة أو ثقافات بعينها. لسنا هنا حيال تحضر ديموقراطي، تتفوق فيه آليات التغير والتعميم العالمي على آليات الانغلاق والخصوصية، بل حيال ديموقراطية حضارية خاصة، لا تقبل التعميم. وهذا يحول الديموقراطية ذاتها إلى عنصر هوية وتمايز، منفصل عن الولاية السياسية لكل إنسان، ويفصل الناس عن بعضهم.

ولعل أكثر ما يمكن أن يعتبر نموذجاً لعالم اليوم هو الجماعات المسورة (gated communities)، وهي تجمعات سكنية لميسورين متشابهين، توفر لهم بيئة آمنة، وتعزلهم عن مخاطر مجتمع مختلط متنوع، يخرجون إليه من أجل العمل. يستثني المسورون أنفسهم من العموم. ونسير اليوم نحو إعادة إنتاج عالمية لهذا النموذج القائم عل الاستثناء، الذي يذكر، مرة أخرى، بالتجزؤ الإقطاعي. كان الغرب الحديث استثنى نفسه دوماً من القواعد التي وضعها للعالم. هذا امتياز السيد وتعريفه، حسب كارل شميت.

«الحضارة»

عالم ما بعد الديموقراطية هو عالم تتراجع فيه السياسة والمداولة السياسية لمصلحة الاقتصاد و/أو الأمن و/أو الثقافة الخاصة. إنه أيضاً عالم تتقوض فيه الأسس المعرفية للعلوم الاجتماعية، كما سيقول قسم ثان لهذه المقالة.

توقف التوسع الديموقراطي العالمي إثر انتصار الغرب في الحرب الباردة، وهذا عكس التقدير الشائع، وبارتباط مباشر بذاك الانتصار. لم يتأخر الأمر عن عودة وتفاقم التمايز بين من يملكون ولا يملكون على مستوى العالم وفي كل البلدان تقريباً، روسيا من أكثرها على مستوى العالم كله. هذا هو الميل العام عالمياً، وقد لا يكون هناك بلدان في عالم اليوم تتقلص فيها الفوارق بين الشرائح العليا والدنيا. وهذا شرط فاقمه التمايز بين الأقوياء والضعفاء، وروسيا أيضا تعرض التقاطب الأقصى، وهو ما عززته وأضعفت الاعتراض عليه الحرب ضد الإرهاب. هنا أيضاً تعرض روسيا الفظاظة القصوى التي يمكن تعريفها بالتباعد الأقصى بدوره بين القوة الخشنة والقوة الناعمة، حسب تمييز جوزف ناي (القوة الخشنة هي القوة العسكرية، والناعمة هي الثقافة من فنون وأنماط حياة جاذبة…)، أو بين القدرة على القتل والتدمير وبين أي فكرة تقبل التعميم العالمي توجه سياستها. وفي المقام الثالث، بعد الثروة والقوة، «الحضارة»، مرة أخرى، والصعود السياسي للتمايزات الثقافية والدينية.

قد لا يبدو مفهوم الحضارة شائعاً كثيراً اليوم في الغرب. الشائع أكثر هو مفهوم الغرب ذاته، لكن له الأثر الانكفائي ذاته. ومما يثير السخط أن كبار مفكري الغرب لا يكفون عن الكلام على تاريخ الغرب وسياسة الغرب والفلسفة الغربية ومجتمعات الغرب… ولا يكادون يعرفون شيئاً خارجها. وهو ما تعزّز بتدهور حركات التغيير في الغرب ذاته وفي العالم ككل. تركت «بقية العالم» لاختصاصيين حين لا يكونون جهلة يعرفون القليل فحسب، فإنهم لا يحسون إلا بالقليل. ويحمل بعض من لا يمكن اتهامهم منهم بالجهل انحيازات بنيوية (تكوين البيروقراطي الغربي والأممي) وحضارية وطبقية، تجعلهم يفضلون لنا أمثال بشار الأسد. وهذا بفعل تكوينهم كاختصاصيين دون التزام حي، وأكثر بفعل سردية التفوق الغربي القوية جداً، التي تغني عن الخروج من النفس ومحاولة تقمص الغير.

السوليبسيزم الذي يصدر عنه المثقف الغربي عموماً نتاج سياسي حضاري. إنه الخطر الوجودي الكبير المتولد عن التفوق، وما يقترن بالتفوق من شحّ النفس. أما الذين يجمعون بين حسن الاطلاع والموقف الفكري والسياسي الأخلاقي، فيشغلون مواقع غير مؤثرة على المؤسسات السياسية والإعلامية المؤثرة.

ميتافيزيقا الشرق الأوسط

ما هو خاص بالشرق الأوسط، والعالم العربي بعامة، هو أننا معاصرون للشرط ما بعد الديموقراطي العالمي دون أن نَخبَر الشرط الديموقراطي ونتمرس بمشكلاته. ولعل التعذر البنيوي للدمقرطة في منطقتنا من العوامل المساهمة في ظهور الشرط العالمي الجديد. أتكلم على تعذر بينوي بفعل تكون هذا النظام القائم على استثناء متعدد الأوجه. استثنائية هذا النظام وثيقة الصلة بالاستثنائية الغربية على المستوى العالمي، مما لا نزال نفتقر إلى تفكير نظري أساسي في شأنه.

ويمكن افتراض أن على نظرية في نظام الشرق الأوسط أن تفسر أو تقترح أدوات مفهومية ملائمة لتفسير وقائع بنيوية مديدة في النظام، من أبرزها أربعة. أولها إسرائيل كضرب خاص من الاستعمار ظهر في عزِّ موسم نزع الاستعمار، وعمل على إدراج نفسه في هذه الظاهرة، لكنه ربط نفسه أمنياً واقتصادياً وثقافياً ورمزياً بإمبراطورية الغرب، ومراكز القوة والثروة والنفوذ فيه، وكاستثناء مستمر من القانون الدولي. ينتظر من نظرية في النظام الشرق أوسطي أن تشرح ما يقوله لنا هذا الاستثناء الإسرائيلي عن العلاقة بين القوى الراعية لإسرائيل وقضايا المساواة والحرية، وعن الطائفية والعنصرية، فضلاً عن «الاستثناء الديموقراطي العربي» الشهير. وتتمثل الواقعة الثانية في دول الريع النفطي الغنية، المرتبطة بالنظام الأمني للإمبراطورية، والمتحجرة ثقافياً (الثقافة من اللوازم المظهرية للسلطة هنا ومن مشتقاتها، ولا أثر لها تقريباً على الحياة الاجتماعية والسياسية)؛ وثالثتها دول «الاستبداد»، أو أحسن الطغيان، المفضلة من قبل المراكز الإمبراطورية لحكم مجتمعاتنا على أي بدائل لها؛ ورابعها التشكيلات العدمية الإسلامية المتمردة على النظام الدولي، لكن المتشكلة في كنفه وإطاره، ولا يبدو أننا نتوفر اليوم على أدوات كافية لمقاربتها وفهمها.

ونتكلم على نظام شرق أوسطي لأن هذه الوقائع المديدة نسبياً تبدو مترابطة بنيوياً، ويتعذر فهم أي منها دون الإحاطة بالنظام أو البنية الجامعة لها. وليس الفقر الفكري في هذا المجال منفصلاً هو ذاته عن تكوين النظام، وعن أن إيديولوجيات القوى المتعادية ضمن النظام مبنية على تجاهل ترابطها ضمنه: القومية العربية في انحطاطها الممانع، والصهيونية، والإسلامية، ومزيج الليبرالية الريعية والسلفية الاجتماعية لدول الخليج، فضلاً عن الليبرالية الإمبراطورية. هذه الأخيرة تصرُّ على الشرق الأوسط كاسمٍ لحيزٍ جغرافي، بقدر ما تنكر الطابع المنظومي للإقليم، ودور الإمبراطورية في تشكيله واستمراره وإعادة إنتاجه.

فإن كان من خاصة تكوينية للشرق الأوسط فهي، أكثر حتى من الاستثناء، التطرف. أبرز أوجه التطرف يتصل بإعفاء دولة إسرائيل من المسؤولية الدولية والانضباط بالقوانين الدولية. الإدارات الأميركية على نحو خاص، وقطاع واسع من القوى الغربية «المعتدلة»، أظهرت التزاماً بالغ الصلابة بكائن عدواني متطرف تعامل مع الفلسطينيين بمنطق الإبادة السياسية. وخلال ذلك عمم الأميركيون خطاباً يصنف الفلسطينيين والعرب إلى معتدلين ومتطرفين، والمعيار الصريح للتمييز هو الموقف من إسرائيل وأميركا ذاتها. هذا ليس تطرفاً بسيطاً، هذه تطرف مضاعف متعصب، وتألهٌ في واقع الأمر، يضع أميركا فوق الاعتدال والتطرف معاً، ويماهيها بالعدالة. وقد عمم هذا المعيار الخطابي المتعصب عالمياً تصور أن تكون مجتمعاتنا متكونة من معتدلين هم التابعون للأميركيين من حكومات ومنظمات وأفراد، ومن متطرفين هم المعترضون عليهم، مع إبقاء عموم السكان والمناضلين من أجل الديموقراطية غير مرئيين.

وبما هو النظام الذي لا تُرَى فيه كائنات حقيقة، وترى فيه كائنات خيالية مثل «الاستقرار» ومثل «عملية السلام»، ومثل «حداثة» بشار الأسد و«علمانيته»، للشرق الأوسط خاصية متيافيزيقية عميقة، تحيل إلى تعالي الفاعل الحقيقي ونفاذ إرادته. حلت إمبراطورية الغرب وحكوماتها محل الله وحكوماته منذ الزمن الاستعماري، فلا مجال لفهم نظامية النظام وسياسته دون النظر في هذه الخاصية. وبفضل هذا التألّه تتكافأ سياسات الفلسطينيين كلها في انعدام فائدتها: الثائر اليساري العلماني يسحق، والثائر الإسلامي يسحق أيضاً، والوطني الفلسطيني الذي يعمل من أجل فلسطين بالسياسة يسحق مثل ذلك الذي يناضل من أجلها بالسلاح. ينبغي أن يكون الله شخصياً عدو الفلسطينيين حتى تتساوى خياراتهم كلها في انعدام محصولها. وحال السوريين ليس بعيداً عن ذلك اليوم. ولعل التحول الشيطاني للإسلاميين، وما يعرضه السلفيون الجهاديون من حب للشر (اسمع مثلاً أغنية: نعم، أنا أهوى الدمار!)، متصل بمنازعة هذه الألوهة الجديدة من موقع، انكفائي وعقيم، مسكون بأخيلته الإمبراطورية الخاصة.

وتعززت الخاصية الميتافيزيقية الشرق أوسطية بالريع النفطي وظهور دول الريع وآثاره الكارثية على الحياة الاقتصادية والسياسية والدينية والأخلاقية في البلدان الغنية بالنفط، وفي مجال عربي أوسع. انفصال الدخل عن العمل، والدولة عن المجتمع، والتقدير الشخصي عن الكفاءة، هي تعبيرات عن عالم نزوي، لا قواعد فيه، يقتضي مشيئة تتدخل كل لحظة ليحدث ما يحدث ولا يمكن توقع شيء فيه. وما حظيت به دول الريع المركزي في الخليج من استثناء عالمي دائم من العدالة والقواعد الدولية يحيل بدوره إلى السيد الفاعل المتعالي، الذي يقع عرشه وراء بحر الظلمات. وأن تكون السعودية، المنتج الأكبر للنفط وصاحب الاحتياطي الأكبر، هي أيضاً موطن مهود الإسلام المقدسة، غير القادر على حماية ذاته، مما يضفي تعقيداً ميتافزيقياً أكبر إلى النظام، الذي يحظى بعد هذا كله بامتياز أنه لم يكد يُدرَس كنظام، ولم تنزع حجب الغيب عن وجهه.

بوصفها استئثاراً بالسيادة، كانت التجربة الاستعمارية قد غذت في مجتمعاتنا استعدادات محافظة على المستوى الاجتماعي والثقافي والديني، وأضعفت الاتجاهات النقدية والتحررية. وهو ما ثبَّتَه وعزَّزَه تمديد التجربة الاستعمارية في الإقليم عبر الكيان الإسرائيلي الذي «لا يقهر»  بكفالة دولية. هذا ولّدَ إغراءً دائماً بالاستناد إلى السيد الديني لمواجهة السيد الدنيوي، وأضعفَ فرص مواجهة أكثر اتساقاً وقوة لإعادة النظر في الميراث الديني.

وأسهم تفاعل هذه العوامل في تولد المجموعات العدمية الإسلامية، الخارجة على عالم يسوجه الغرب خروجاً عنيفاً مطلقاً. هذا يوفر لنخب غربية تفشل بثبات في الخروج من «الحضارة الغربية» إلى العالم ما يناسبها، لتثبيت أوضاع محلية ودولية تشغل فيها مواقع ممتازة.

في المحصلة، يبدو النظام الشرق الأوسطي اليوم نقطة تقاطع سياسي وجغرافي بين «الاستعمار» و«الاستبداد» من جهة، وبقعل التعذر البنيوي لدمقرطته، يمثل الشرق الأوسط من جهة ثانية نقطة انعطاف عالمية نحو ما بعد الديموقراطية.

ومن وجهة نظر تاريخية، يبدو الغرب الإمبراطوري قد وقع في الفخ الذي أسهم في وقوعنا، الشرق أوسطيين التعساء، فيه. لا ديموقراطية لنا، إذن ستخسرون الديموقراطية عندكم أيضاً! لن ندخل، إذن ستخرجون!

ليس الشرط ما بعد الديموقراطي نتاج أوضاع الشرق الأوسط وحدها، لكن الشرق الأوسط قلب العالم، ويكفي النظر إلى تفاعلات الحدث السوري خلال ما لا يكاد يزيد عن خمس سنوات تقريباً (كل العالم في سورية، وكل سورية في العالم) حتى ندرك أن التقليل من شأن ما يحدث لدينا ومن أثره العالمي ليس مسلكاً صائباً. وليس الشرق الأوسط وحده هو النظام الدولي الفرعي الذي لا داخل له ولا تحتكر الديناميكيات الداخلية تفسير أوضاعه الاجتماعية والسياسية والنفسية والثقافية، بل العالم ككل يتجه إلى أن يكون كذلك. الشرق الأوسط مستقبل العالم، وليس ماضيه.

جبل على الطريق

أياً يكن القول في أطروحة ما بعد الديموقراطية، يبدو صحيحاً أن الديموقراطية في أزمة في العالم ككل. حيث هناك أوضاع سياسية واجتماعية أكثر ديموقراطية، فإنها في ركود أو تآكل، والمزاج العام بين فتور وضجر حيال الديموقراطية وبين خوف وارتياب حيال العالم، وحيث هناك أوضاع طغيان او استبداد فإن القائمين عليها في حصانة غير مسبوقة، ومزاج العموم هنا أقرب للقنوط. الاتجاه العام هو ديموقراطية أقل في كل مكان، وليس أكثر.

ولعل أخطر ما تتضمنه فكرة ما بعد الديموقراطية هو أن فرص الديموقراطية ضاعت إلى زمن طويل على بلدان مثل بلداننا، ربما إلى الأبد. كانت الديموقراطية ضرباً من وجهة عالمية، واليوم كأن هنا جبلاً شاهقاً نتأ فجأة على الدرب، فلم نعد نعرف ما وراءه، ولسنا متأكدين قبل ذلك من قدرتنا على ارتقاء الجبل.

لكن أليس هذا مفضّلٌ، بالأحرى؟ أن نعمل من أجل العدالة والحرية، هنا والآن، غير مقيدين بوجهة معلومة مسبقة، نعلم أنها كانت هي نفسها علاقة قوة، وليست أفقاً مشتركاً مفتوحاً؟ لا حرية في تاريخ مكفول، ولا كفالة في تاريخ للحرية. العالم المكفول هو عالم مغلق، والتاريخ المكفول هو تاريخ منته. ونحن، أعني في مجالنا الاجتماعي السياسي الثقافي، لم نخرج من عالم مغلق بكفالة سماوية إلا إلى عالم مغلق بكفالة تاريخ إمبراطوري لم يكون سنداً للحرية يوماً هنا. التعذر الديموقراطي لم يقع هنا من وراء ظهر النظام، بل بعلمه وتدبيره. لا حرية في النظام، الحرية هي الخروج منه، والخروج عليه.

والقصد أنه يمكن لأزمة الديموقراطية في العالم، سواء قبلنا فكرة ما بعد الديموقراطية أو اعترضنا عليها، أن تكون محررة فكرياً، وإن تكن مُشتِّتة االيوم. مشتتة لأننا اعتدنا طوال «حداثتنا» على… التبعية.

بصورةٍ ما، يشبه عالمُ ما بعد الديموقراطية عالمَ ما بعد الاشتراكية، بقدر ما إن ما ألحقته إمبراطورية الغرب بالديمقراطية يماثل ما كانت ألحقته «إمبراطورية الشرق» بالاشتراكية، حسب ستفن هاستنغز كنغ في مراسلة شخصية. كان سقوط اشتراكية الأمر الواقع تجربة محررة لبعضنا ومُيتّمة لبعض آخر، وتآكل ديموقراطية الأمر الوقع يمكن أن يكون محرراً أو ميتّماّ بدوره. المسألة مسألة خيار.

وخيارٌ أيضاً أن نعمل مع شركاء في العالم أو في انعزال عن العالم. هناك فائدة كبيرة لفكرة ما بعد الديموقراطية كشرط عالمي، تتمثل في أن نفكر عالمياً مثلما كانت تدعو حركات العولمة البديلة، وربما أن نعمل عالمياً بصورة ما، وليس فقط محلياً مثلما كانت تدعو هذه الحركات ذاتها، أو أن نفكر على الأقل بالعمل المترابط مع شركاء عالميين بينما نحن نعمل محلياً. وعلى كل حال يبدو أن هناك تحطماً للمحلي، في إقليمنا على الأقل، هذا رغم عودة الأسوار والحدود والجدران والبوابات المحمية. عالم ما بعد الديموقراطية ليس عالم مدن مسوّرة، بعضها غني وبعضها فقير، بل هو عالم مدن مسوّرة، وعالم برارٍ وبرابرة مستباح، لا أسوار له ولا مدن.

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى