صفحات المستقبل

هارباً من زحمة الموت/ مرهف دويدري

 

 

في لحظة مكاشفة، قال لي: (ما زلت أخاف تلك الأيام) وصمت. كان قاسياً جداً حين ضربني بالسوط الجلدي، فيما كنت أتلوى من الألم الحقيقي، خلال تدريباتنا المسرحية، التي نحاول إنجازها، خلال وقت قصير.

لقد استطاع تقمّص شخصية الشرطي الذي يضرب المتسول، كونه يزعج السادة، التقت عيناه بعيني للحظة فاصلة، تلكأ بضربي، لكنه أغمض عينيه، وتابع تأدية الدور حتى نهاية التدريبات الطويلة والشاقة.

كنا أصدقاء ستة، جمعتنا الصداقة وفرقتنا الحياة.. خرجنا من صالة المسرح.. مشينا أنا وهو منسلخين عن المجموعة، نظرت إليه بعتب، ضحك بصوته المتهدج، قالها باعتذار: “آلمتك”؟ وصمتنا..

في سهرتنا الاعتيادية، كان صامتاً.. شارداً.. لم يناقش أياً من الأحاديث حول ما قمنا به ذلك اليوم، في صالة المسرح.. مرة أخرى صوّب عينيه اللامعتين باتجاه عيني: (هل تعرف لماذا ضربتك بكل هذا العنف؟).

لم أستطع أن أجيبه على سؤاله الغريب، فبدأ بروايته: (في صيف عام 1982، عندما اجتاح جيش الاحتلال الإسرائيلي لبنان، كنت في الرابعة عشرة من عمري، أعمل مع أقربائي كعمال موسميين في مزارع صيدا في الجنوب؛ يومها كان القصف عنيفاً جداً، حاولنا الهروب، لكن وسائل النقل خانتنا، ولم نجد سبيلاً للهرب.. مشينا على أقدامنا نحو الشمال، كان سباقاً مع الزمن، كلما اتجهنا شمالاً، كان الاحتلال الإسرائيلي يبتلع الأراضي اللبنانية.. سبعة أيام كانت كافية لتجعلنا على حافة الموت… بسبب الجوع، والعطش، وضربات الشمس).

انحنى ظهره أكثر، وبدا رأسه منكساً، وهو يستجمع بقايا روحه، ساد الصمت بيننا.. ننظر إلى بعصنا البعض، رفع رأسه، محاولاً اصطناع ابتسامة: وصلنا بيروت التي كانت غارقة في الدماء.. الرجل فيها يساوي رصاصة واحدة، ورغيف الخبز يساوي قذيفة (RPG)، والرهينة تساوي علبة سردين.. هربنا.. اختبأنا في غرفة تحت الأرض، داخل بناء شبه مدمّر بفعل القذائف، ثلاثة أيام كانت كافية لنتقبّل الموت رهينة خامسة بيننا، أنا، وعمي، وولداه اللذان يكبراني بعدّة سنوات.. كان الموت يبحث عنا في سباق محموم مع الاحتلال، أو قد يكون الموت هو من اكتشف مكاننا، ووشى بنا لهم.. كنا طرائد سهلة المنال.. رموا بنا في سيارة عسكرية، مقيّدي الأيدي، ونجوت أنا من عصبة العينين، لأنني كنت صغير السن حينها، على ما يبدو!

ابتسم، وأشعل سيجارة بطريقة مضحكة، فهو لم يكن مدخناً، لكن الألم بدأ يصل به حدّ البكاء، حاول التماسك، متذرّعاً بدخان سيجارته، التي كان يجهل التعامل معها.. قلّبها بين أصابعه المرتجفة، ودفع بها لصاحبها الحقيقي، بعد أن استطاعت أن تكبح دمعة متمردة كادت أن تخرج من بين جفنيه: (كنت سعيدا جداً) نظرنا إليه بتساؤل يحمل صيغة التوبيخ: (نعم كنت سعيداً جداً.. لن أستطيع أن أصف لكم شعوري، كنت أرى سهول فلسطين وأنا على ظهر الشاحنة، طليق العينين.. لم أكن أحلم طوال حياتي أن أرى تلك السهول.. الحقيقة هي تشبه الأراضي السورية ولكنها فلسطين.. فلسطين) انتصرت الدمعة المتمردة وخرجت من بين الجفنين.. أشعل سيجارة أخرى هذه المرة ليداعبها بين أصابعه.. كانت أعصابي مشدودة لروايته التي لم أسمعها منه طوال عمر صداقتنا الذي كان قد بلغ حينها الخمس سنوات: (وصلنا معسكر الاعتقال.. رموا بنا من الشاحنة، وبدأوا بضربنا بالهراوات)!

ران صمت طويل، كنا خلال روايته نحبس أنفاسنا، نريد أن نسمع المزيد، هل حقاً ما نسمعه (كنت تعيساً جداً.. نعم كنت تعيسا.. لأنني رأيت كل شيء، أما هم فكانوا معصوبي العينين.. أمرنا بخلع ثيابنا كلها، ووقفنا في الساحة عراةً تماماً، وبدأت حفلة التعذيب، أو ما يسمونها “الاستقبال”، كانوا يتكلمون العربية مثلنا، بلهجة لبنانية أعرفها تماماً.. نعم إنهم لبنانيون.. هم جيش لبنان الجنوبي، كنا نسميهم “جماعة سعد حداد”.. هم من تولّى تعذيبنا، والضباط الإسرائيليون يضحكون ساخرين منا، معذَبين.. ومعذِبين).

نظر في عيوننا واحداً تلو الآخر: (أربعة أشهر كانت كافية لطفل حتى يمتلئ قلبه بحقد يدمّر العالم).

مسح وجهه بكفيه المتعبين: (خرجت بصفقة تبادل أنا وعمي، وبقي ولداه في ذلك المعتقل القصيّ)، تمتم بكلمات غير مفهومة، ثم تابع: (عاد ابن عمي الكبير بعد سبع سنوات، بصفقة تبادل أخرى، والصغير قتل تحت التعذيب أمام أخيه الكبير… أي حقد يستولي على هؤلاء؟).

بعد اثني عشر عاماً، سألني: (خرجتَ في المظاهرة؟) أومأت له برأسي (نعم)، ابتسم مطأطئاً رأسه: (ألا تخشى منهم؟) ضحكت يومها بصوت عال: (هل تعتقد أنه لدينا جماعة سعد حداد؟) لم يجبني يومها، لكنه قال لي وبهدوء غريب: (ما زلت أخاف تلك الأيام) وران صمت طويل بيننا، استمر أربع سنوات عجاف، افترقنا خلالها.. اختلفنا.. اتفقنا.

كان خبراً مفجعا للغاية بالنسبة لي، فصديقي المسالم جداً (اعتقله الأمن السوري).. ما كان يخشاه لزمن طويل جداً، امتدّ على مدى ثلاث وثلاثين سنة، تحقّق.

(سورية)

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى