صفحات الرأينارت عبد الكريم

ما بعد “الشعوذة”/ نارت عبد الكريم

 

 

في عصر ما بعد الحداثة غدتْ بعض الكلمات، مثل «معنى» و «أصل» و «إشارة»، مفردات مشبوهة، خصوصاً لدى بعض المفكرين ما بعد الحداثيين، ذلك أنَّها تفترض أنَّ شيئاً ما يمكن أن يمثلَ أو يقومَ مقام شيء آخر أو يُخفيه أو يدل عليه، ومن هنا غدتْ حتى فكرة الشرح والاستنتاج والتفسير ذاتها عرضة للشبهات، فالأشياء والأحداث، بحسب زعمهم، هي نفسها لا غير، وهي ليست رموزاً مبهمة أو إشارات، وفي أحسن الأحوال يمكن النظر إليها على أنَّها نتائج لأسباب تشترك في السياق نفسه وتقع في مستوى واحد.

ومردُّ كل ذلك نفورهم من الميتافيزيقيا التي أرادوا محاربتها وانتزاعها بلا هوادة.

تلك «الشعوذة» نراها تتجلى بوضوح في السياسات المُتبعة لمختلف وسائل الإعلام، والغربية منها بالتحديد، حيث تنقل، بحفاوة وتركيز، عبر شاشاتها، مشاهد القتل والذبح والتفجير والدمار في سورية والعراق، مثلاً، على يد المتطرفين الإسلاميين وسواهم كذلك. ويُنظر الى كل هذا على أنَّه الدور الطبيعي لوسائل الإعلام، حيث يتفق الجميع على أنَّ دورها، في شكلٍ عام، هو نقل «الوقائع» و «الأحداث» وتسليط الضوء عليها كما هي من دون انحياز أو تشويه، على رغم أنَّ بعض تلك المشاهد أو معظمها يُثير في نفوس المشاهدين الخوف والفزع ويحرك في أعماقهم الإحساس بالتهديد، ويمكن شمل كل ما تقدم في سياقه المُتعارف عليه وهو أنَّ الإعلام، من حيث المبدأ، يقوم بتغطية الأحداث غير الطبيعية بالدرجة الأولى، ولأنَّ القتل، وهو حدث غير طبيعي، أسوأ الشرور، فمن البديهي تسليط الضوء عليه، والتذكير به ليلاً ونهاراً، خصوصاً إذا كان لأسباب سياسية أو دوافع إرهابية أو ما شابه ذلك.

لكنَّ البداهة التي يتم تسويقها وترسيخها من وراء كل ذلك هي أنَّ القتل، أي قتل الجسد، كما حصل في «شارلي إيبدو» وقبلها في «11 أيلول/سبتمبر» وغيرها من عمليات، هو أسوأ الشرور على الإطلاق، وليس هنالك من شرٍّ يُماثله أو يُضاهيه، بالإضافة الى تسويق بداهات أخرى، لا يتم النطق بها، بل تمريرها، فحواها أنَّ الإرهاب هو الإرهاب، وأنَّ قتل الإرهابيين يعادل القضاء على الإرهاب. في حين يرى البعض أنَّ الإرهاب، كظاهرة تاريخية، هو نتاج غياب القانون بالدرجة الأولى، أو بالأحرى نِتاج تخريب «المثال».

هذا التخريب المُمنهج للمثال والتلاعب به يمكن تشبيه أثره المريع بالنتائج والمضاعفات التي تتبع استخدام أسلحة الدمار الشامل، كما حدث في مدينتي ناكازاكي وهيروشيما، حيث امتدَّ التأثيرُ المميت والمخرب للقنابل النووية الى عدة أجيال. بعبارة أخرى إنَّ العلاقة بين الإرهاب وتخريب المثال علاقة بين صورة وأصل. فالإرهاب، على رغم كل فداحته، ما هو إلاَّ رد فعل لاعقلاني تجاه ما بعد حداثة لا إنسانية.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى