صفحات سوريةعمر قدور

ما بعد سوريا/ عمر قدور

 

 

انقضت أربعة أشهر حتى الآن من المدة التي أعلنتها مجموعة فيينا لبدء العملية السياسية السورية، حيث كان الموعد المستهدف للبدء مع مستهل العام، ليأتي تتويجها بإقرار دستور جديد في شهر آب المقبل. جلسات جنيف قد لا تُستأنف قبل شهر حزيران المقبل، أي أننا سنكون على مسافة شهرين أو ثلاثة من الموعد النهائي، ووفق سير المفاوضات السابق يمكن التكهن بأن المدة الباقية غير كافية، بل ربما لن تشهد دخولاً فعلياً في المفاوضات قياساً على ما جرى حتى الآن من إضاعة للوقت.

في المهلة المتبقية لدينا خطتان يبدو ألا ثالثة لهما، حلفاء النظام يسعون إلى تحصيل أكبر قدر من المكاسب الميدانية والسياسية قبل رحيل أوباما، وحلفاء المعارضة يسعون إلى التقليل من الخسائر في نفس الفترة في انتظار قدوم الرئيس الجديد. ضمنياً، لا أحد من الأطراف الإقليمية “وربما الدولية” مقتنع باقتراب الصراع من نهايته، حتى مع ضغط التفاهم الأميركي الروسي الذي قد يقرّ تسوية غير مقبولة، تسوية تمهد عملياً لمرحلة أخرى من الصراع السوري والإقليمي.

مجيء إدارة أميركية جديدة لن يأتي مباشرة بالحل السحري، مع افتراض توافر النية لديها، فالوضع الذي ترسخ مع وجود القوات الروسية في سوريا يتطلب معالجة حساسة، أو استعداداً للدخول في مجابهة دولية كبرى يُستبعد حصولها. إذاً، قد يكون الأقرب إلى المنطق، في حال تحققت هذه الفرضية، الدخول في حرب استنزاف غير قصيرة، يقتنع من خلالها حلفاء النظام باستحالة الحسم العسكري، ويُضطرون إلى تقديم التنازلات التي لا يرون مبرراً لتقديمها الآن على طاولة المفاوضات.

جدير بالذكر أن العديد من الباحثين الأميركيين تنبأوا من السنة الأولى للثورة السورية باستمرار الصراع لغاية عشر سنوات، وحينها بدت تلك التنبؤات شديدة التشاؤم، أو تشي بإرادة أمريكية مبيتة لإدامة الصراع واستغلاله. اليوم تبدو مهلة السنوات العشر قريبة جداً من الواقع، إذا لم يتجاوزها، مع التنويه بأن بلداً أسقط فيه النظام باكراً مثل ليبيا لم يشهد السلام لغاية الآن، وبأن اليمن الذي شهد تسوية وتوافقاً دوليين سرعان ما عاد إلى مربع الصراع جراء انقلاب إيران على التسوية.

هذا الحال يجعل افتراضاتنا حول القضية السورية متخلفة عن الواقع، حيث يركز أغلبها محقاً على موضوع إسقاط النظام بوصفه عتبة الانتقال إلى المستقبل، لكنه يكاد ينأى عن التغييرات التي جرت منذ خمس سنوات، واستمرار هذه التغيرات حتى سقوط النظام، بحيث نكون في النهاية أمام بلد مغاير لتصوراتنا، وأمام أوضاع اكتسبت صفة الاستدامة، أوضاع كنا طوال الوقت نتعامل معها كأمر واقع طارئ يزول تلقائياً.

في الطليعة من هذا المتغيرات العامل الديمغرافي، ففي الأسبوع الماضي أعلن أردوغان أن بلاده تستضيف مليونين وسبعمائة ألف نازح سوري، أي أن تركيا ولبنان وحدهما تستضيفان أربعة ملايين سوري، بحسب الأرقام التقديرية لسلطات البلدين. في الأردن هناك أيضاً ما يقارب المليون ونصف نازح سوري، وفي أوروبا تشير الإحصائيات إلى حوالي سبعمائة ألف لاجئ مسجل، هذا إذا لم نأخذ في الحسبان دولاً عربية أخرى ودول أميركا، بخاصة كندا. أي أننا أمام حوالي سبعة ملايين نازح سوري، يُضاف إليهم ما لا يقل عن مليون قتيل حتى الآن، ومن المحتمل أن يَضاف إليهم نحو نصف مليون من حلب وإدلب في حال أُطلقت يد النظام في استباحتهما.

وعلى رغم القيود الأوروبية المشددة أخيراً فيما يخص مسألة اللاجئين، إلا أنها لن تمنع التدفق نهائياً، فضلاً عن القادمين بموجب قوانين لم الشمل، ونسبة لا بأس منهم ستأتي من الداخل السوري. نحن حالياً أمام بلد هُجّر وقُتل ما يزيد عن ثلثه، بموجب آخر إحصاء معلن عام 2010، هذا الرقم معرض للتزايد خلال المرحلة المقبلة بحيث قد يصبح نصف سكان سوريا خارجها في غضون سنتين لا أكثر. التوقعات المتفائلة بعودة السوريين سريعاً فور إقرار تسوية منفصلة عن الواقع، لأن التسوية لن تنهي تلقائياً الحرب، بل ربما تتفرع عنها حروب، فضلاً عن الدمار الواسع الذي جعل أغلب النازحين بلا مأوى أو مصدر للعيش.

باستثناء الإعادة القسرية للنازحين إذا حدثت، من لبنان وربما الأردن تحديداً، ستكون العودة مستبعدة في المنظور القريب. أي أننا، في أحسن الأحوال، سنكون أمام ثورة انتصرت لسوريين قسم كبير منهم لم يكن يريدها، ولم يساندها أصلاً، إضافة إلى أولئك الذين حاربوا ضدها بمنتهى الوحشية. لكن هذه المفارقة وحدها لا تجسد الواقع الذي يتعين بإفراغ البلد من نصف سكانه، وبأن العديد من المقولات التي كانت تُبنى على ترسيمة المجتمع السوري قبل2010 لن تكون دقيقة فيما بعد. وإذا كان البعض، عطفاً على الصراع الشيعي السني في المنطقة يشير إلى تطهير طائفي، فإن المسألة أكثر تعقيداً من هذا الاختزال. مثلاً، منطقتا كوباني “عين العرب” والجزيرة شهدتا حالات نزوح كثيفة جداً من الأكراد، ما يجعل قوة الأمر الواقع الكردية المسيطرة الآن بلا حاملها المجتمعي المفترض، وليس معلوماً مدى انعكاس ذلك على المشروع الكردي في المدى البعيد.

سنكون بالأحرى على موعد بما بعد سوريا التي عرفناها، مع أننا في الأصل بالكاد عرفنا سوريا التي كان يحتكرها النظام. التنبؤ بطبيعة الحراك السوري المقبل سيكون مستحيلاً ما لم تتوافر له معطيات تقريبية عن مدى الأذى المستدام الذي لحق بكافة المجتمعات المحلية السورية، وعن الأذى الذي لحق بقدرتها على التعايش ثانية إذا تحقق لها قدر جيد من الحرية. المسألة ليست في الانقسام الطائفي أو الإثني فحسب، وإنما أيضاً في القسمة “غير الظاهرة جيداً الآن” بين من أثروا وكسبوا من الحرب وأولئك الذين دفعوا ثمنها باهظاً. انهيار الليرة السورية، على سبيل المثال، سيفرض قسمة لم تكن واضحة جداً كما هي الآن.

ربما يبدو هذا التصور متشائماً، لكن الخشية الحقيقية أن يتجاوزه الواقع بسوئه بعد سنتين أو ثلاث لا أكثر.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى