صفحات العالم

ما ذا يجري في سوريا ؟


محمد بزيان

ما يحدث في سوريا فظيع ومرعب، أحداثه كأنها قدت من أفلام هتشكوك.

ويوشك المرء أن يذهب به الاعتقاد إلى أن مثل هذا لا يمكن أن يحدث في ظل وجود دولة تقوم بوظيفتها في توفير الأمن للناس والحفاظ على سلامتهم . كما أنه لا يحدث في ظل انعدام وجودها. وبتعبير أوضح نقول إن وجود دولة لا يسمح بحدوث ما يحدث من فظائع تستنكرها كل الشرائع والقوانين الوطنية والدولية والأخلاق الانساتية ، تحت أي ذريعة أو مسوغ مهما كان. كما أن هذا لا يمكن أن يحدث في ظل فقدان الدولة. بعبارة لأخرى ، لو لم تكن هناك دولة تحكم هذا الشعب ما تعرض لهذه المأساة… لكن مادامت هناك دولة قائمة، ومع ذلك يتعرض فيها شعبها إلى ما يتعرض له وعلى يد جيشها وقوات جهازها الأمني فذلك يعني منطقيا، أن هذه الدولة أو أجهزتها ليست في خدمة الشعب السوري وإنما هي في خدمة الأسد وطغمته من البعثييــن الذين يصدق عليهم قول لويس الرابع عشــر(( الدولة هي أنا.)) و ما رأيناه مكتوبا على لوحة عند أحد مداخل بلدة معرة النعمان بهذه الصيغة (سوريا الأسد) ربما يكون أدق تعبير عن هذا الواقع . وبالنتيجة فأتباع الحاكم بأمره في دمشق ومريديه من أصحاب النوايا الحسنة ـ افتراضاـ يعتقدون أن زواله يعني زوال سوريــا.! أما حلفاء هذا النظام من قوى الصمود والممانعة فمتخوفون من أن سقوط النظام الحالي في سوريا يعني سقوط أحد أعمدة جبهة الممانعة ، وقد يحل محله نظام لا يتمتع بالصلابة التي تميز بها النظام السوري ليس فقط في عهد وريثه وإنما قبل ذلك. ولا ننسى أن سوريا كانت أحدى أهم دول جبهة الصمود والتصدي إلى جانب العراق والجزائر، هذه الجبهة التي ظهرت في أعقاب زيارة الرئيس أنور السادات إلى إسرائيل وأدت توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر وخروج هذه جبهة المواجهة..

وإذا كان تخوف هؤلاء الحلفاء يبدو ظاهريا في محله. لكن بنظرة أكثر عمقا، فإن اعتقادهم هذا لا يستند إلى أسس متينة. ذلك أن زوال الأنظمة المستبدة الفاسدة يعني إطلاق قدرات الأمة وطاقاتها الكامنة. والأمة اليوم تشهد سريان روح جديدة في كيانها سمتها إصرار أجيالها الصاعدة على التصدي والتحدي و انتزاع الحق مهما كانت التضحيات. والشعب السوري الأبي لن يفرط في الجولان، ولن يتخلى أحفاد يوسف العظمة عن حقوق الشعب الفلسطيني.

بكل تأكيد أن التخوف المشار إليه هو أحد الأسباب التي تقف وراء الصمت عما يتعرض له الشعب السوري من قمع وحشي، أملا في أن يتمكن النظام من إخماد الثورة. ويحافظ على استمراره وهو تخوف ـ على ما نرى ـ لا يقوم على أساس متين، كما أن الرهان على نظام يطلق النار على مواطنيه ويروعهم في بيوتهم أملا في أن يستمر في الحكم ولو على تلال من الجماجم هو رهان خاسر، والأمل في إصلاحه ضرب من الخيال، ما لم يتخلى أصحابه عن شهوة الحكم وعودوا إلى رشدهم.. مصداقا لقوله سبحانه وتعالى(( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.)) وليس هناك أفضل من الرحيل بأقل الخسائر..وأقصر الطرق. وأفضل ما يمكن أن يقدمه له أصدقاؤه وحلفاؤه هو أن يتصرفوا معه بناء على قوله صلى الله عليه وسلم(( انصر أخاك ظالما أو مظلوما))..

رواية النظام تفضح نفسها

إذا كان النظام يحاول نفي حدوث ما يحدث، ويرفض نسبته إليه. ويلقي باللائمة على من سماهم بالعصابة المسلحة حول ما يجري ! فإنه من باب واستجلاء الحقيقة بالنسبــة لقطاع معتبر من الناس. في وطننا العربي الذي أظهرت الأحداث الجارية فيه أن هناك تخلفا فكريا مروعا أو قل إن هناك (( أمية فكرية)) إن جاز التعبير بالنسبة للسواد الأعظم من المواطنين. وهذا راجع بطبيعة الحال إلى ما أفرزه الاستبداد السياسي في مجال حرية التفكير والتعبير..

هناك روايتان متباينتان لما يجري في سوريا إحداهما يعرضها النظام والأخرى يقدمها معارضوه وضحاياه. فكان من نتيجة ذلك أن وقع المتابعون لمجريات الأحداث في حيرة مما يحدث، واختلط عليهم الأمر بشأن تحديد مرتكب الجرائم التي يهتـز لها الضمير الإنساني وتستنكرها كل الشرائع. ولو كانت دواب الغاب تنطق لاستنكرت ما يجري في هذا البلد ..

ونظرا إلى أن السلطات السورية منعت الصحافة الدولية من تغطية الأحداث، فصارما يتسرب من أخبار ومعلومات لا يأتي إلا من خلال ماتبثه الشبكة العنكبوتية من صور للمحتجين ومن مشاهد بشعة لما يتعرض لـــه

الرجال والأطفال من تعذيب وتمثيل بالجثث. اختلف بشأنها الرواة وشهود العيان إلى درجة التناقض. فكثير من النشطين السياسيين والحقوقيين يوجهون أصابع الاتهام إلى قوات الأمن. بينما تصريحات الموالين للنظام تنسب تلك الجرائم لعصابات مسلحة..

وانطلاقا من مبدأ رفض الصمت عما يتعرض له الشعب السوري الشقيق، فإننا سنحاول فهم ما يحدث بالرجوع إلى ما يجري من وقائع على الأرض اعتمادا أولا على رواية النظام وأتباعه بغية تحديد الجهــة التي تقف وراء تلك الجرائم المروعة.

نظام دمشق ومؤيدوه يقولون إن سوريا تتعرض لمؤامرة خارجية هدفها إخضاعها وإدخالها بيت الطاعة مع الذين رفعوا الراية البيضاء أمام الكيان الصهيوني. بمعنى أنها مستهدفة بسبب ممانعتها. وهم بهذا يسقطون سببا رئيسيا ألا وهو تيار التغيير الذي يسري في جسد الأمة، ويضرب كل أركان الاستبداد. ولو أن الانتفاضة أو الثورة اقتصرت على سوريا وحدها لسلمنا بهذه الفرضية التي تبدو للوهلة الأولى معقولة،لاسيما في ظل سيادة نظرية المؤامرة التي تحولت إلى مخدر تحقن الأنظمة العربية شعوبها به حتى تبقى هذه الشعوب مسترخية مستسلمة لا تحرك ساكنا أو قل تغط في سبات عميق.. لكن هذا الادعاء الذي ألصق التهمة بالخارج لا يصمد أمام أي تمحيص دقيق ومنطق سليم . ومع ذلك نقول حتى وإن كانت فعلا هناك مؤامرة خارجية فإن ذلك لا يبرر إطلاقا ما يتعرض له الشعب السوري من جرائم تشيب لها الأجنة…

أما مفاد هذه المؤامرة فإقدام عصابات مسلحة على محاولة السيطرة على مدن وبلدات في جميع أنحاء القطر. بما فيها العاصمة دمشق ! وبالمختصر المفيد كان يمكن القول إن العصابات المسلحة تمكنت من احتلال سوريا كلهـا، من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها.؟!

كما تذكر الرواية أن العصابات المسلحة هاجمت الأهالي وأعملت فيهم القتـل والتنكيل مما حدا بهم في درعا وبانياس وغيرهما من البلدات إلى طب النجـدة من الحكومة التي هبت ـ بطبيعة الحال ـ إلى نجدتهم من بطش هؤلاء المسلحين بأن أرسلت قوات الجيش مدعمة بالدبابات والمصفحات والشبيحة. وكأن الأمر تعلق بغزو جيش نظامي أجنبي للبلد. وتذكر السلطات أنه حدثت مواجهات عنيفة مع العصابات المسلحة التي اندست بين المتظاهرين المحتجين.؟ وأن العشرات من أفراد الجيش قتلوا و تم دفنهم في مقابر جماعيا. وتضيف الرواية أن العصابات أضرمت النار في حقول الأهالي وأبادت مواشيهم. أي أنها تسعى إلى القضاء على الزرع والضرع….

هذا ونشير إلى أن أخبار هذه الأحداث الواردة تخللتها مشاهد مروعة. بعضها نسبها النظام إلى ((العصابات)) ، وبعضها الآخر اعتبرها مفبركــة متهما القنوات الفضائية وفي مقدمتها قناة الجزيرة فعل ذلك..

ما يمكن استنتاجــه

أولا أن هذه العصابات هي جيش جرار كامل العدة والعتاد تمكن من التغلغل في معظم المدن واحتلالها على حين غفلة من جيش بلد في حالة حرب منذ عشرات السنين ويقف دائما على أهبة الاستعداد لمواجهة جيش من أقوى الجيوش في العالم وهو جيش إسرائيـــل.. وتعتبر الرواية الرسمية أن تسلح العصابات تسليحا جيدا دليل على أن جهة أو عدة جهات أجنبية تقف وراءها. ويذكر في هذا الصدد أن الرئيس بشار نفسه صرح في خطاب له أن هذه العصابات استعملت عربات ذات الدفع الرباعي.. وللإشارة فإن رواية النظام لم تذكر حتى الآن صراحة الجهات التي تقف وراء المؤامرة…

ثانيا إن هذه العصابات قد تكون اصطحبت معها وحدات للهندسة العسكرية، إذ عثر على جثث تم دفنها جماعيا في حفر كبيرة من الصعب حفرها بغير جرا فات….

ثالثا أن هؤلاء الغزاة الذين سفكوا دماء الأهالي الأبرياء لا يمكن إلا أن يكونوا كفرة فجرة. وأغبياء لأنهم من جهة يسعون إلى حكم شعب وفي الوقت نفسه ينكلون به. وعلى القارئ أن يتذكر ما صرحت به السلطات من أن هذه العصابات هي من الإخوان المسلمين والسلفيين. و لذلك كانوا يكبرون، ومعهم المحتجون. وهو أمر لا يحتمله البعثيـون. وأهم نتيجة نستخلصها من الرواية التي يقدمها الحكم هي أن فرار الأهالي بجلودهم إلى الأراضي التركية كان خوفا من ((العصابات المسلحة)).. وليس من قوات النظام

إذن الخبر اليقين جدلا عند أولئك المواطنين الذين فروا بجلودهم نحو تركيا….

يا لها من رواية غبية. ومضحكة.. وشر البلية ما يضحك…. ولله في خلقه شؤون..

كاتب جزائري

القدس العربي


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى