صفحات سورية

ما يطلبه المعتقلون من برنامج الإصلاح السوري الدموي!

 


محمد منصور

بثت قناة (الجزيرة) في إحدى نشراتها الإخبارية أخيراً، تقريرا مفصلا عن المعتقلين السياسيين في سورية، استعرضت فيه سجل هذه الظاهرة المؤلمة الحافل بالأرقام والأسماء في التاريخ السياسي السوري.

في التقرير ظهرت صورة تجمع بين الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، والدكتور نور الدين الأتاسي، الرئيس السوري الأسبق، الذي كان رئيساً لسورية حتى تشرين الأول (اكتوبر) من العام 1970، حين استقال من منصبه لخلافات داخلية، انتهت بانقلاب عسكري نفذه في السادس عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) من العام نفسه وزير الدفاع حافظ الأسد آنذاك، سمي بـ (الحركة التصحيحية المباركة) وبموجب هذه الحركة المباركة، أودع الرئيس الطبيب في زنزانة ضيقة ومن دون محاكمة، وأمضى في السجن اثنين وعشرين عاماً كاملة، أصيب إثرها بمرض السرطان، وبعد أن تفشى المرض في جسده ولم يعد هناك من أمل في شفائه، أطلق سراحه وسمح له بالسفر للعلاج في باريس، ولكن المرض لم يسعفه وتوفي بعد أسبوع من وصوله إلى فرنسا في الثاني من كانون الأول (ديسمبر) عام 1992 ثم عاد ليدفن في مدينته حمص.

على صفحتها على الفيس بوك، نشرت آية ابنة نور الدين الأتاسي تقرير قناة الجزيرة، وعلقت بالقول: (يمر وجه أبي بين وجوه المعتقلين السياسيين ليذكرني كم هي كثيرة الحكايات التي تشبه حكاياتنا. آباء يختفون في السجون وأطفال يكبرون خارج الزمن… لا نريد لأطفال سورية مستقبلاً يشبه ماضينا).

تهزم هذه الكلمات روح أي كاتب وضع أبجديته في خدمة قضية الحرية… فإذا بي أتضاءل وأنكمش، أمام ألم شخصي عاش في أعماق الابنة عقوداً وقد حرمت من أبيها حياً وميتاً…. ويلح سؤال آية الأتاسي الموجع وهي تخشى على أطفال سورية اليوم مستقبلاً يشبه ذلك الماضي الكابوسي… فما هي ملامح المستقبل اليوم، وآلة القمع والاعتقالات تنشط بهمة لا مثيل لها، كي تضاعف بسرعة قياسية، أعداد معتقلي الرأي من كافة الأجيال في أيام.

كتبت الأسبوع الماضي عن صديقي الصحافي الشاب عامر مطر، الذي اعتقل لنشاطه السلمي في هذا الحراك الاحتجاجي المشروع، كما يؤكد لنا الإعلام السوري، ومر أسبوع آخر وعامر ما زال مجهول المصير، ومازال أبواه ينتظران أي خبر عنه، فيما يخبرنا أصدقاؤه أنهم لا يحصدون في مراجعاتهم لفروع الأمن سوى حفنة من التطمينات عن مواعيد إفراج لا تصدُق… لكن الأيام القليلة التي مضت حملت لي عشرات الرسائل الإلكترونية عن معتقلين آخرين أودعوا السجون قبل عامر وبعده… منهم الشاعر محمد ديبو والشاعر معاذ الهويدي، الذي اعتقل إثر مظاهرة خرجت في مدينة الرقة… وملك الشنواني (26 عاماً) وهي ناشطة اعتقلت من مقر عملها في دمشق، وتمت مصادرة جهاز الكومبيوتر الخاص بها.

الفتاة مروة حسن الغميان، التي ظهرت في الفيديو الشهير وهي تتعرض للاعتقال مع عدد من مرافقيها لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة أمام الجامع الأموي في الخامس عشر من آذار (مارس) الماضي، التي نشطت قنوات التلفزيون السوري وملحقاتها (تلفزيون الدنيا)، لتقول ان هذا الفيديو المفبرك لم يكن إلا تمثيلية سخيفة صورت وتم مونتاجها من أجل الإساءة لسورية، ما زالت معتقلة ومجهولة المصير حتى اليوم، وقد وصلتني رسالة كشفت أسماء الذين اعتقلوا معها وهم: سامي الدريد (41) عاماً، أب لطفلين ويعمل في مجال الديكور المسرحي، وابن اخته عبد العزيز محمد أحمد علي. وقد أفادت رسالة خاصة أخرى وصلتني، بأنه لاحقاً تم اعتقال شقيق آخر لسامي دريد، وشقيق آخر لعبد العزيز، وأن الأم موزعة بين لوعة الحزن على ولديها المعتقلين وشقيقيها المعتقلين.

محمد الدريد الأخ الأكبر لسامي الدريد، كتب على صفحته على الفيسبوك: (أنا محمد دريد الأخ الأكبر لسامي أرجو من الجميع أن يضم صوته لصوتنا في المطالبة بالإفراج عن سامي الذي اعتقل يوم 15/3 في مظاهرة سلمية في سوق الحميدية في دمشق. كما أُدين التهم وفبركة الأفلام التي فبركها ووجهها التلفزيون السوري وتلفزيون الدنيا بحق أخي والمشاركين في المظاهرة معتبرين إياهم خونة وتابعين لجهات خارجية).

تشكل هذه الكلمات صفعة للتلفزيون السوري وقناة الدنيا اللذين ادعيا أن الفيديو مفبرك… فعدا عن تشويه السمعة وإلصاق التهم، هناك مباركة غريبة لحالة الاعتقال، من العار أن تتورط بها مؤسسات إعلامية، فكيف إذا كانت هذه المؤسسات توجه بنادقها إلى صدور مواطنيها، رغم أنها محسوبة عليهم كـ(إعلام وطني).

لا ينتهي حديث الاعتقال الساخن، فحتى ما قبل ساعات قليلة من كتابة هذه الزاوية، تحمل لنا (وعود الإصلاح) أنباء جديدة عن معتقلين جدد… فيعتقل الأستاذ جورج صبرا، الصوت الوطني الحار الذي أطل من على محطات تلفزيونية عدة لينحاز لدماء شهداء وطنه بلا خوف ولا مداورة، ويعتقل الناشط نجاتي طيارة ابن مدينة حمص الأبية، ويعود الناشط السياسي المعتدل والهادئ النبرة الأستاذ فايز سارة إلى سجنه، ولم يكد يمضي على خروجه أكثر من شهرين. هناك سيلتقي فايز بزملاء له ما زالوا قيد الاعتقال: كالناشط علي العبد الله والدكتور كمال اللبواني والمحامي أنور البني.. والسجون ما زالت مفتوحة كالفنادق لاستقبال نزلاء جدد في كل آن ومن كل صنف ولون وجيل.

أتذكر وأنا اكتب هذه الزاوية التي لا بد أن أعرج فيها على ذكر القنوات الفضائية والأرضية، مذيعة التلفزيون السوري المخضرمة السيدة ماريا ديب، التي واظبت لسنوات طويلة على تقديم برنامج (ما يطلبه الجمهور) في التلفزيون. كان وقت البرنامج يضيق عن عرض الأغنيات المطلوبة، بسبب كثرة طلبات الإهداء من وإلى… والآن يمكن أن تتحول هذه الزاوية إلى طلبات شبيهة بذاك البرنامج مع تعديل بسيط في العنوان: (ما يطلبه المعتقلون).

ليست هذه نكتة، بل مفارقة مؤلمة وجارحة… فما الذي سيطلبه المعتقلون في سجنهم سوى الحرية، وما الذي يطلبه الآباء والأمهات والأخوة والأبناء سوى أن يعود إليهم أهلهم؟ وما الذي يطلبه كل السوريين اليوم سوى العيش بكرامة؟

حسناً سأكون متفائلاً… سأبلع كل غصات وقهر عمري الذي مضى وأقول: أنا مع الإصلاح. أنا لست محبطاً من خطاب الرئيس بشار الأسد، لست مشمئزاً من تهريج مجلس الشعب أثناء الخطاب، أنا أصدق كل كلمة قالتها مستشارة الرئيس الإعلامية بثينة شعبان، أنا أصدق كل ما تقوله الإخبارية السورية والفضائية السورية والمحللون الذين يظهرون من دمشق ليسكتوا هؤلاء المعارضين الذين يقبعون في الخارج كي ينظّروا علينا… لكن قولوا لنا: هل من اعتقل هؤلاء هم العصابات المسلحة المندسة؟! هل هم من أودعوهم في السجون والمعتقلات؟! كيف يمكن أن تكون كل هذه الاعتقالات هي طريقنا إلى الإصلاح الموعود؟! قولوا لنا فنحن لم نعد نصدق، ولم نعد نفهم، ولم نعد نعي، ولم نعد نعرف كيف تبنى الثقة بين المواطن ودولته وكيف تهدم… ولا أين تسير بنا أجهزة الأمن، وإلى أين تسير بسورية الجريحة المكلومة؟!

شهيدا جامعة دمشق: اغتيال الأمل!

ومن أسئلة الاعتقالات المريرة، إلى قوافل الشهداء، التي مرت أخيراً بطلاب جامعة دمشق، في احتجاجات يمكن أن نفهم مغزاها العميق، ونذرها الجدية حين تصل إلى هنا… فطلاب الجامعات هم رافعات التغيير حين تدفع المجتمعات إلى حائط مسدود، والصور التلفزيونية التي نقلتها قناة (العربية) لتظاهرة طلاب كلية العلوم في جامعة دمشق، ينبغي أن تقرأ باعتبارها الرسالة الحاسمة التي تقول: ان القمع لن يفيد، لأن القمع مثل الكذب: كرة ثلج تكبر كلما تدحرجت أكثر.

ومع ذلك فقوات الأمن السورية، ذهبت بعيداً في قمع الطلاب المحتجين تضامناً مع أشقائهم في المدينتين الجرحتين: درعا وبانياس… خرج هؤلاء ليهتفوا: (واحد… واحد… واحد… الشعب السوري واحد)، في هتافات يجب أن تطمئن النظام الخائف علينا من الانقسام الطائفي والفتنة… لكن بدل أن يطمئن النظام إلى هذا الهتاف المتحضر المتمرد على (المندسين) الذين يريدون إشعال فتنة طائفية بين الشعب الواحد لا سمح الله… انهالت عليهم العصي ضرباً، وجاء الرد بلغة الرصاص، فسقط في أول تظاهرة لطلاب جامعيين شهيدان: الأول هو (فادي الصعيدي) ابن مدينة جاسم في حوران، والطالب في السنة الرابعة كيمياء في كلية العلوم بدمشق، و(فادي العاسمي) إن لم أخطئ في اسمه الأول، ابن قرية داعل، وطالب الدراسات العليا الذي خلف وراءه ثلاثة أطفال، وهو في العقد الثالث من العمر!

يمضى هؤلاء الشبان إلى ديار الحق تاركين الأهل والوطن… حاملين معهم أحلام الحرية، والتوق إلى العيش بكرامة… وبدل أن تنطفئ الاحتجاجات، يكبر الجرح الوطني مع كل شهيد تصعد روحه إلى السماء… فمتى سيرتوي من يهدرون هذا الكم من دماء إخوانهم السوريين؟ أي ألا يمكن أن يتذوقوه لو كان هؤلاء ـ لا سمح الله- أخوتهم أو أبناءهم في عائلاتهم الصغيرة؟ وهل كتب على السوريين اليوم أن يكفكفوا دمعهم ودمهم و(أن يحرسوا ورد الشهداء) كما قال محمود درويش في إحدى قصائده؟ أم أنهم مجبرون، أن يكتبوا بالدم قصائد من نوع جديد، يعبرون فيها إلى زمن جديد بثمن موجع وباهظ … باهظ جداً!

ناقد فني من سورية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى